إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

عقد "إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية"، يوم الثلاثاء الموافق 16 أبريل 2024، حلقة نقاشية بعنوان "استعادة المكانة: مستقبل السياسة الفرنسية تجاه منطقة الشرق الأوسط"، استضاف خلالها "كاميل لونس" نائب رئيس مكتب باريس وزميل سياسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (EFCR). وتطرقت الحلقة إلى مناقشة محددات وملامح السياسة الخارجية الفرنسية تجاه الشرق الأوسط، وأبرز أدوات التأثير التي تمارسها باريس في علاقاتها بدول المنطقة، وكذلك أبرز التحديات التي تقف حجر عثرة أمام فاعلية السياسة الخارجية الفرنسية تجاه المنطقة. محددات حاكمة في مستهل حديثها، استعرضت "لونس" عدداً من المحددات التي تلعب دوراً مؤثراً على السياسة الخارجية الفرنسية تجاه دول المنطقة، وفيما يلي أبرز ما تطرقت إليه في هذا الصدد:1– تأثُّر سياسة باريس تجاه الشرق الأوسط بالعوامل الجغرافية: أكدت "لونس" أهمية العامل الجغرافي بصفته محدداً رئيسياً فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الفرنسية تجاه الشرق الأوسط، لافتةً إلى أن التقارب الجغرافي بين فرنسا ودول المنطقة يجعل أزماتها ذات تأثير مباشر على المصالح الفرنسية والأمن القومي الفرنسي. ونوهت "لونس" أن هذا الأمر يحتل أهمية كبيرة باعتبار أنه يعزز الروابط المشتركة بين الجانبين، لكنها أكدت في الوقت ذاته أنه يؤثر بشكل سلبي في بعض الأحيان على الرأي العام الفرنسي وكذلك على القادة الفرنسيين، خاصةً في ضوء الانعكاس المباشر لبعض الصراعات والأزمات في المنطقة على الأمن القومي الفرنسي، كموجات الهجرة غير الشرعية واللجوء إلى الدول الأوروبية. 2– ارتباط فرنسا ودول الشرق الأوسط بروابط ثقافية وتاريخية: أشارت "لونس" إلى وجود تأثير مهم للروابط التاريخية والثقافية بين فرنسا ودول المنطقة أحد محددات السياسة الخارجية الفرنسية إزاء دول المنطقة؛ فمن جهة، يمتلك العديد من الفرنسيين جذوراً مهمةً تربطهم بدول المنطقة؛ حيث هناك عدد هائل من الفرنسيين من ذوي الأصول العربية، وخاصةً من دول المغرب العربي. ومن جهة أخرى، يعيش العديد من الفرنسيين في الشتات لدى دول المنطقة.3– سلبية نظرة الفرنسيين لانخراط بلادهم في الشرق الأوسط: نوهت "لونس" بأن الجزء الأكبر من الجمهور الفرنسي ليس لديه تصورات إيجابية بشأن الشرق الأوسط، خاصةً في ظل التأثيرات المرتبطة بصعود اليمين المتطرف والأحزاب الشعبوية على مواقف الجمهور الفرنسي إزاء المنطقة، وما يتبنَّونه من رؤية معادية للإسلام، تُعزِّز بدورها بعض الأحكام السلبية المسبقة لدى الفرنسيين حول المنطقة، وبخاصة شرائح السكان التي لا تمتلك أي روابط مع دول المنطقة، ولم يسبق لها السفر إليها، أو الانفتاح على ثقافتها.4– تصدر قضايا الهجرة والإرهاب أجندة سياسة فرنسا تجاه المنطقة: لفتت المتحدثة الرئيسية في الحلقة إلى أن صعود الحركات اليمينية المتطرفة منذ عام 2015، خاصةً مع تصاعد الهجمات الإرهابية على "شارلي إيبدو"، و"باتاكلان"، أثَّر بعمق على النقاش السياسي في فرنسا حول بعض القضايا المتصلة بالسياسة الخارجية الفرنسية تجاه دول المنطقة، مثل الهجرة والإرهاب، موضحةً أن ملف الهجرة – على سبيل المثال – كان محركاً رئيسياً لفرنسا من أجل عقد الكثير من الاتفاقيات مع بعض دول المنطقة لوضع حد لتدفقات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.أهداف منشودة تطرقت "لونس" إلى مناقشة الدوافع الكامنة وراء المساعي الفرنسية للانخراط في الشرق الأوسط، وفيما يلي أبرز ما تناولته في هذا الصدد:1– حرص الرئيس "ماكرون" على تعزيز الحضور الفرنسي بالخارج: أكدت "لونس" أن الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" أضحى أكثر ميلاً لتعزيز الحضور الفرنسي على الساحة الدولية، واتخاذ مواقف أكثر نشاطاً في السياسة الخارجية للبلاد، بما يشمل الشرق الأوسط؛ ليس الشرق الأوسط فقط، وإنما مختلف المناطق الاستراتيجية حول العالم، معتبرةً أن موقف "ماكرون" بشأن الحرب في أوكرانيا، وإعلانه المثير للجدل مؤخراً بشأن احتمالية إرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا، يأتي في هذا السياق.وأضافت "لونس" أن هذا التغير الذي طرأ على سياسات الرئيس "ماكرون" مؤخراً يأتي لأسباب مختلفة، أبرزها السياق الذي يفرضه صعود اليمين المتطرف، والحاجة إلى تبني خطاب سياسي قوي مناوئ للخطاب الشعبوي القومي الأكثر تركيزاً على الداخل الفرنسي؛ وذلك عبر تكثيف الاهتمام بالمصالح الفرنسية في الخارج، سواء في أوكرانيا، أو في الشرق الأوسط.2– سعي "ماكرون" لتعويض النفوذ الفرنسي المتراجع في أفريقيا: أفادت "لونس" بأن المساعي الفرنسية لتعزيز الانخراط في الشرق الأوسط يأتي باعتباره استراتيجيةً تعويضيةً في مواجهة التراجع الذي مُنِي به النفوذ الفرنسي مؤخراً في أفريقيا؛ ففيما يخص ملف الذاكرة، أكدت "لونس" أن مساعي الرئيس "ماكرون" لحلحلة هذا الملف الذي لا يزال نقطة شائكة في العلاقات مع الجزائر، مُنِيَت بالفشل، منوهةً أنه بخلاف ما كان "ماكرون" يرنو إليه في بداية حكمه بشأن إنجاز هذا الملف، فإن سياساته في هذا الصدد لم تَكُن مُوفَّقة. وفي منطقة الساحل والصحراء، أشارت "لونس" إلى أن تزامن الانسحاب العسكري الفرنسي من المنطقة مع الصعود الواضح للنفوذ الروسي هناك، استدعى بالضرورة من باريس البحث عن شركاء جدد؛ من أجل استعادة الحضور الفرنسي في المنطقة. 3– تطلُّع باريس إلى موازنة الوجود الروسي والصيني المتزايد بالمنطقة: بحسب "لونس"، تسعى فرنسا إلى موازنة التأثير الصيني والروسي المتصاعد في الشرق الأوسط، الذي تعتبره باريس تحدياً مهماً لمصالحها في المنطقة؛ حيث ترى "لونس" أن الصين أضحت لاعباً اقتصادياً رئيسياً في منطقة الشرق الأوسط، ولعبت دوراً حيوياً في رعاية الاتفاق الدبلوماسي بين السعودية وإيران؛ هذا فضلاً عن الوجود البحري العسكري الفاعل للصين في المنطقة من خلال قاعدتها في جيبوتي. وعلى الجانب الآخر، تتمتع روسيا بتأثير قوي في المنطقة؛ إذ لعبت دوراً بارزاً في ملء الفراغ الأمني الذي خلَّفه الانسحاب الفرنسي من منطقة الساحل، كما كان لها حضور واضح في معظم الصراعات بالمنطقة، وكان لها تأثير واضح على المشهد الأمني والسياسي.4– استهداف فرنسا تعزيز العلاقات مع القوى الصاعدة في الإقليم: أشارت "لونس" إلى أن أحد الدوافع الرئيسية لانفتاح فرنسا في العلاقات مع دول المنطقة هو إدراكها طبيعة الدور المتزايد لهذه القوى على الساحة الدولية، وتزايد القدرة على ممارسة التأثير في الشؤون الدولية، لا سيما في ظل تصاعد مكانتها بين دول الجنوب العالمي، بما يؤهلها لتصبح لاحقاً حلقة وصل مهمة بين الدول الغربية وقوى الجنوب العالمي.5– رغبة باريس في تعزيز المصالح الاقتصادية مع الدول العربية: أشارت "لونس" إلى أن المصالح الاقتصادية والتجارية العميقة التي تربط فرنسا بدول الشرق الأوسط، تُعَد أحد المحركات الرئيسية لسياسة فرنسا الخارجية إزاء دول المنطقة، موضحةً أن إمدادات الطاقة القادمة من دول الخليج العربي بشكل خاص تُعتبر حيويةً للغاية بالنسبة إلى الاقتصاد الفرنسي، بجانب السجل الضخم من التبادل التجاري بين فرنسا وتلك الدول.أدوات مستخدمةتطرقت "لونس" خلال حديثها إلى مجموعة من الآليات والأدوات التي تعتمد عليها باريس في مساعيها نحو ممارسة التأثير في منطقة الشرق الأوسط، وتتضح أبرز تلك الأدوات عبر ما يلي:1– اعتماد فرنسا على دبلوماسية القمم في سياستها الشرق أوسطية: أشارت "لونس" إلى أن فرنسا تحاول لعب دور فاعل في الشرق الأوسط عن طريق عقد بعض القمم الدبلوماسية، وهو ما تم خلال الفترة 2021– 2022؛ حيث حاولت باريس خلال تلك الفترة إيجاد حل مرة أخرى لأزمة الانسداد السياسي في العراق. وبحسب "لونس"، فإن "ماكرون" اتجه خلال السنوات الأخيرة نحو سياسة "ملء الفراغ"، لا سيما بعد انفجار مرفأ بيروت مباشرةً؛ حيث يحاول استغلال الفرص المتاحة أمامه سريعاً، إلا أنه يواجه بعض التحديات، خاصةً مع عدم امتلاكه رؤية طويلة الأجل، وهذا ما حدث في حالة الأزمة السياسية بلبنان؛ إذ لم تؤدِّ الجهود الفرنسية حتى الآن إلى أي نتائج تُذكر.2– توظيف فرنسا صادراتها من الأسلحة إلى المنطقة لممارسة التأثير: نوهت "لونس" بأن فرنسا تمتلك تقنيات دفاعية متقدمة، تزيد عن حاجة أسواقها المحلية؛ ما يدفعها إلى تصديرها إلى السوق الأوروبية والأسواق الخارجية، مشيرةً إلى أن منطقة الشرق الأوسط تعد من أهم هذه الأسواق أمام صادرات الأسلحة الفرنسية، وأن هذه الصادرات تعتبر إحدى أدوات التأثير الخاصة بفرنسا فيما يتعلق بسياستها إزاء المنطقة، موضحةً أنها مكنتها من خلق شراكات طويلة الأمد مع مختلف دول المنطقة، خاصةً كبار مستوردي الأسلحة الفرنسية، وبينهم مصر.3– المشاركة في جهود مكافحة الهجرة غير الشرعية بالشرق الأوسط: وفقاً لـ"لونس"، فإن فرنسا تُولي أهمية قصوى لمنع تدفق هجرة غير شرعية إليها عن طريق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي هذا الصدد، تعمل على المشاركة في عمليات أمنية في المنطقة، كنهج استباقي، لمنع وصول التهديدات المرتبطة بالهجرة غير الشرعية إلى الأراضي الفرنسية؛ وذلك عبر المساهمة في جهود تعزيز الاستقرار في المنطقة، ودعم الحكم الرشيد، وتقديم المساعدات من خلال الهيئات التنموية الفرنسية، مثل وكالة التنمية الفرنسية، ومن ثمَّ تجنب تفاقم الأزمات والمشكلات الاقتصادية التي تترجم إلى تدفقات للهجرة إلى أوروبا.وفي ختام حديثها، أكدت "لونس" وجود مجموعة من التحديات التي تواجه السياسة الخارجية الفرنسية إزاء الشرق الأوسط، ومن أبرزها تباين المواقف الفرنسية–الأمريكية بشأن بعض قضايا المنطقة؛ حيث أشارت "لونس" إلى أن فرنسا كانت دائماً تطالب بصوت مختلف قليلاً عن الصوت الأمريكي، وأضافت أن هذه السياسة تعززت بشكل كبير إبان إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق "دونالد ترامب"، وأضحت أكثر بروزاً في إطار نهج "الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي" الذي بلوره "ماكرون". وأضافت "لونس" أنه رغم أن هذه السياسة الفرنسية خفتت بوضوح إبان إدارة الرئيس "بايدن"، فإنها لا تزال تبرز حيال بعض القضايا الاستراتيجية التي تحرص خلالها باريس على التمسك بموقف يتباين مع الموقف الأمريكي. كما نوهت "لونس" بأن تباين مصالح الدول الأوروبية في الشرق الأوسط، ينعكس بشكل كبير على السياسة الخارجية لفرنسا تجاه المنطقة، موضحةً أن مكافحة الهجرة – على سبيل المثال – تمثل محفزاً رئيسياً لإيطاليا للانخراط في المنطقة، في حين تركز ألمانيا خلال تفاعلاتها مع دول المنطقة على التعاون في مجال الطاقة، ولا سيما الطاقة المتجددة، واستيراد النفط والغاز، بينما تحاول فرنسا تعزيز علاقاتها مع دول شمال أفريقيا.

مستقبل السياسة الفرنسية تجاه منطقة الشرق الأوسط (حلقة نقاشية)