عبد الله جمال

خلال مؤتمرها الصحفي الأسبوعي، في 22 نوفمبر 2023، وجهت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، الاتهامات إلى السفير الأمريكي لدى بنجلاديش بيتر هاس، بتدخله في الشؤون الداخلية لبنجلاديش، التي من المقرر إجراء الانتخابات البرلمانية بها في 7 يناير 2024. تأتي تلك الاتهامات في إطار التنافس بين موسكو وواشنطن على تعزيز نفوذهما في بنجلاديش؛ حيث أكدت زاخاروفا أن السفير الأمريكي التقى ممثلاً رفيع المستوى للمعارضة المحلية في نهاية أكتوبر الماضي، وأنهما ناقشا خططاً لتنظيم احتجاجات حاشدة مناهضة للحكومة البنجلاديشية التي تحكمها رئيسة الوزراء الشيخة حسينة منذ عام 2009، والتي لم تكن على وفاق مع واشنطن فيما يخص ملف حقوق الإنسان والاعتقالات، لا سيما أن بنجلاديش تشهد بالفعل اضطرابات سياسية منذ أكتوبر الماضي؛ ما أدى إلى أعمال عنف وحصار طوال نوفمبر الجاري، كما أدى إلى وفيات في جميع أنحاء البلاد واعتقال العديد من قادة المعارضة.مؤشرات التنافسثمَّة مؤشرات متعددة تُفسِّر التنافس بين موسكو وواشنطن في بنجلاديش، وهي المؤشرات التي يمكن تناول أبرزها كما يلي:1– جدل حول دور البعثات الأجنبية في القضايا الداخلية: لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تتدخل فيها البعثات الأجنبية في الشؤون الداخلية في دكا؛ ففي ديسمبر 2022 كانت الأخيرة نقطة محورية في إطلاق حرب كلامية بين موسكو وواشنطن حول ذلك الأمر، بعد أن أجرى السفير الأمريكي في 14 ديسمبر 2022 زيارة إلى منزل زعيم مفقود من الحزب الوطني البنجلاديشي المعارض، وهو الزعيم الذي يُزعَم أنه ضحية اختفاء قسري في عام 2013، كما سبق ذلك زيارته، في يونيو 2022، لرئيس لجنة الانتخابات في بنجلاديش، داعياً إياه إلى إجراء انتخابات شفافة في البلاد.ليس هذا فحسب، بل أكدت موسكو في ديسمبر 2022، أن البعثتين الدبلوماسيتين البريطانية والألمانية قد انخرطتا في أنشطة داخلية مماثلة في دكا، مُقدِّمتَين توصيات علنية إلى السلطات المحلية فيما يتعلق بالشفافية والشمول قبل الانتخابات المقرر لها يناير 2024.2– إنشاء محطة نووية بتمويل روسي: تسعى موسكو إلى تعزيز نفوذها في بنجلاديش، من خلال رعايتها مشروعاً للطاقة النووية؛ إذ تقوم تمول 90% من تكلفة المشروع الذي تبلغ تكلفته 12.65 مليار دولار، ومن المرجح أن يجعل المشروع بنجلادش عضواً في النادي النووي للدول التي تستغل الطاقة الذرية السلمية، الذي يضم نحو 30 دولة فقط حول العالم؛ حيث تلقت بنجلاديش في 5 أكتوبر 2023، أول شحنة من اليورانيوم من روسيا لتزويد محطة الطاقة النووية الوحيدة في البلاد بالوقود؛ وذلك خلال حفل حضره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عبر تقنية الفيديو، مع رئيسة وزراء بنجلاديش شيخة حسينة؛ الأمر الذي يشير إلى أهمية ذلك المشروع بالنسبة إلى بوتين، من حيث تعزيز نفوذه بلاده في بنجلاديش.3– نشاط دبلوماسي دولي في بنجلاديش: ذخرت العاصمة البنجلاديشية بزيارات متعددة وعلى مستويات مختلفة خلال الفترة الأخيرة؛ فقد وصل وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى دكا، في 7 سبتمبر 2023، بصفته أول وزير خارجية روسي يزور بنجلاديش منذ استقلالها عام 1971؛ وذلك بعد حضوره قمة شرق آسيا في جاكرتا، في إشارة إلى أهمية بنجلاديش الحالية بالنسبة إلى موسكو.وبعدها بيومين فقط، توجهت نائبة مساعد وزير الخارجية للأمن الإقليمي في مكتب الشؤون السياسية والعسكرية بوزارة الخارجية الأمريكية ميرا ريسنيك، إلى دكا للقاء المدير العام لإدارة أمريكا الشمالية بوزارة الخارجية لبنجلاديش خاندكر مسعود العلم، بهدف مناقشة سبل توسيع نطاق شراكات البلدين في مختلف المجالات. ليس هذا فحسب، بل وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 10 سبتمبر 2023 – بصفته أول رئيس فرنسي يزور الدولة الواقعة في جنوب آسيا منذ 33 عاماً – إلى بنجلاديش في زيارة تهدف إلى ترسيخ الاستراتيجية الفرنسية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.4– توجيه اتهامات متبادلة بشأن التدخل في شؤون بنجلادش: أصبحت بنجلاديش، خلال الفترة الأخيرة، محوراً أساسياً لحرب كلامية واتهامات متبادلة بين موسكو وواشنطن؛ فقد اتهمت موسكو واشنطن بالتدخل بشكل صارخ في الشؤون الداخلية لبنجلاديش، بل وجهت اتهامات إليها فيما يخص مساعدة المبعوث الأمريكي على تنظيم مسيرات مناهضة للحكومة، ناهيك عن تحذير كل من موسكو وبكين من أي تدخل أمريكي في العملية السياسية في بنجلاديش.وعلى الجانب الآخر، لم تغفل واشنطن الاتهامات الروسية، وجاء ردها سريعاً؛ إذ جاء رد واشنطن الذي أصدرته السفارة الأمريكية بعد ساعات من قيام السفارة الروسية في دكا بتحديث موقعها الإلكتروني الذي يتضمن تفاصيل تصريحات المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية في 22 نوفمبر في موسكو، بل اتهم المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية في واشنطن، موسكو بارتكاب "تشويه متعمد" لسياستها الخارجية، خاصةً فيما يتعلق بالانتخابات المقبلة في بنجلاديش، واجتماعات السفير الأمريكي مع المعارضة هناك.5– مساعي "دكا" للتمسك بسياسة التوازن: من بين مؤشرات التنافس بين موسكو وواشنطن على بنجلاديش، محاولة الأخيرة تحقيق التوازن في علاقاتها مع البلدين، التي تجلت أحدث مؤشراتها في رد وزير الخارجية مسعود بن مؤمن الذي وصف التصريحات التي أدلت بها موسكو وواشنطن بشأن بلاده بأنها "غير مبررة"، كما أن دكا من المرجح ألا تغامر بعلاقاتها الاقتصادية مع البلدين؛ فهي ترتبط بعلاقات اقتصادية قوية مع البلدين؛ ففي الوقت الذي تعد فيه بنجلاديش ثاني أكبر شريك تجاري لروسيا في جنوب آسيا بعد الهند؛ إذ بلغ إجمالي حجم التجارة الثنائية السنوية لبنجلاديش مع روسيا نحو 3 مليارات دولار عام 2021، صدَّرت بنجلاديش سلعاً بقيمة 8.3 مليار دولار إلى الولايات المتحدة، وبلغت قيمة الواردات 2.35 مليار دولار خلال العام ذاته، كما تعد الشركات الأمريكية من أكبر المستثمرين الأجانب في البلاد.6– السياسة الأمريكية في منطقة الهندوباسيفيك: تتبنى واشنطن استراتيجية واضحة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بما فيها بنجلاديش، تهدف من خلالها إلى تعزيز مصالحها في تلك المنطقة، وهي الاستراتيجية التي وجهت موسكو إليها اتهامات بأنها ترتكز على ردع الصين وعزل روسيا في المنطقة؛ الأمر الذي يعزز التنافس على بنجلاديش بين أطراف أخرى، تتضمن موسكو وواشنطن، بل تشمل أوروبا والصين أيضاً، خاصةً أن أوروبا تنتهج المسار الأمريكي ذاته، مستفيدةً من التوافق شبه الكامل في المنطقة.محفزات جوهريةثمة محفزات ودوافع متعددة تقف وراء توجهات موسكو وواشنطن نحو التنافس على بنجلاديش، ولعل أبرزها ما يلي:1– تنامي الأهمية الجيوسياسية لدكا: تتمتع بنجلاديش بنفوذ جيوسياسي متنامٍ؛ فهي الآن حليف جيوسياسي مهم لروسيا؛ تساعدها على تفادي العقوبات الغربية. في الوقت ذاته، تحتل بنجلاديش أهمية خاصة لدى صانع القرار الأمريكي في استراتيجيته الجديدة تجاه منطقة ما وراء المحيطين الهندي والهادئ؛ نظراً إلى قربها من جزر المحيط الهندي، ناهيك عن أنها تطل على خليج البنغال أحد أبرز المعابر البحرية الدولية القائمة في منطقة ما وراء المحيطين الهندي والهادئ، كما تحاول واشنطن جاهدةً إنهاء سياسة الحياد البنجلاديشي؛ من أجل إنجاح السياسة الغربية في عزل موسكو وتقويض كافة سبل تفاديها للعقوبات الغربية.2– تصاعد الأهمية الاقتصادية لبنجلاديش: لا يقل العامل الاقتصادي أهميةً عن المكانة الجيوسياسية لبنجلاديش؛ حيث تمثل كل من موسكو وواشنطن وباريس أسواقاً حيوية لمنتجات بنجلاديش، بما في ذلك الملابس الجاهزة، وهي إحدى الدعائم الأساسية لاقتصاد دكا. بالإضافة إلى ذلك، تعد دكا مصدراً أساسياً في سوق البذور والحبوب؛ فمن المتوقع أن ينمو حجم سوق البذور في بنجلاديش من 245 مليون دولار عام 2023 إلى 305 ملايين دولار بحلول عام 2028، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 4.5% خلال فترة التنبؤ (2023–2028)؛ وذلك باعتبار بنجلاديش منتجاً عالمياً هاماً لمختلف المنتجات الزراعية، مثل الأرز والقمح والذرة والبقوليات والخضراوات والفواكه واللحوم والأسماك والمنتجات البحرية ومنتجات الألبان.فقد قدَّرت وزارة الزراعة الأمريكية (USDA) – في أحدث تقرير لها عن البلاد نُشِر في 25 يوليو 2023 – إنتاج الأرز في بنجلاديش لموسم 2022/2023 بنحو 35.6 مليون طن، وهو حجم كبير، لا سيما أن الأمطار الغزيرة والفيضانات المفاجئة في يونيو 2022 دمَّرت حقول الأرز في الأجزاء الشمالية والشمالية الشرقية من الولايات المتحدة، كما أن من المتوقع أن يرتفع حجم إنتاج القمح والذرة في بنجلاديش خلال الموسم المقبل. هذا وتتمتع العمالة البنجلاديشية بأهمية عالمية كبرى؛ حيث تحتل بنجلاديش المرتبة الثامنة عالمياً من حيث تدفق تحويلات عامليها في الخارج.3– دور مهم لبنجلاديش في قيادة نمو الغاز في المستقبل: تتوقع وكالة الطاقة الدولية أنه مع وصول الطلب على الغاز إلى ذروته في الأسواق الأوروبية وأمريكا الشمالية، فإن دولاً مثل بنجلادش والفلبين وتايلاند ستقود من الآن فصاعداً معظم النمو في استهلاك الغاز؛ حيث تعد بنجلاديش واحدة من عدد متزايد من البلدان النامية في آسيا وخارجها التي راهنت بشدة على الغاز الطبيعي باعتباره بديلاً موثوقاً به، وأكثر استدامةً من الفحم أو النفط، كما تُقدَّر منظمة Global Energy Monitor، أن الدول في جنوب وجنوب شرق آسيا، ومنها بنجلاديش، تخطط لزيادة قدرتها على توليد الطاقة التي تعمل بالغاز بنسبة تزيد عن 50% من إجمالي مصادر الطاقة المولدة بالبلاد خلال السنوات القليلة المقبلة.4– مساعي دكا للقيام بدور في التحولات العالمية: من المرجح أن يتنامى دور دكا في التحولات العالمية، عبر علاقاتها مع موسكو وبكين، التي ظهرت أبرز مؤشراتها في تقدمها بطلب انضمام إلى مجموعة "بريكس". وفي يونيو الماضي، رحبت وزارة الخارجية الروسية بتقديم بنجلاديش طلب الانضمام إلى المجموعة. وعلى الرغم من عدم انضمام دكا إلى المجموعة خلال الفترة الماضية، بيد أنها من المرجح أن تنضم خلال الفترة المقبلة؛ حيث إن انضمامها قد يكون له بعض التأثيرات الإيجابية على الأقل بالنسبة إلى أقوى أعضاء المجموعة: روسيا والصين؛ وذلك في إطار مساعي الأخيرتَيْن تدشين تحالف موازٍ للقوى الغربية؛ إذ أكدت وكالة "بلومبرج" أن "بريكس" من المرجح أن تنافس النظام العالمي الذي تقوده مجموعة السبع.5– انعكاسات الموسم الانتخابي المتوتر في بنجلاديش: تتوقع بعض التقديرات أن دكا ستشهد موسماً انتخابياً متوتراً للغاية، مرجحةً ارتفاع احتمالية التدخل العسكري إذا أثبتت الحكومة عدم قدرتها على السيطرة على الاضطرابات المحتملة المستمرة والواسعة النطاق. ورغم أن التدخل العسكري قد يجلب الاستقرار في الأمد القريب، فإن من شأنه أيضاً أن يؤدي إلى تفاقم حالة عدم اليقين بشأن مستقبل الديمقراطية في بنجلاديش؛ لذلك أصبحت قضية الانتخابات في بنجلاديش محور اهتمام موسكو وواشنطن، وقد تتزايد حدة هذا الاهتمام خلال الفترة المقبلة؛ حيث تضغط واشنطن بقوة على حكومة حسينة لضمان إجراء انتخابات حرة ونزيهة، فضلاً عن معالجة المخاوف المتزايدة بشأن حقوق الإنسان في البلاد، في حين تعد موسكو من الدول القليلة التي تدعم الحكومة الحالية، وتنتقد تدخل الغرب في الشؤون الداخلية لبنجلاديش.ختاماً.. على الرغم من مساعي الغرب، وخاصة واشنطن، لإبعاد بنجلاديش عن سياسة الحياد، فإن من غير المرجح – في المدى القريب على الأقل – أن تتبع الحكومة المحلية في دكا سياسة لا تُحقِّق لها التوازن في علاقاتها مع موسكو وواشنطن، لا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات المقبلة؛ فهي في حاجة ماسة إلى مساعدات موسكو بصفتها حليفاً مهماً لضمان الفوز على المعارضة المدعومة من واشنطن، ولكن ذلك لا يعني أن دكا ستغير تحالفاتها مع الغرب؛ إذ تعد واشنطن من أهم شركائها التجاريين.

لماذا يتصاعد التنافس الروسي–الأمريكي في بنجلاديش؟