بسنت عصام الدين

في خطوة تحمل أبعاداً استراتيجية وأمنية هامة، وقّعت ثلاث دول في جنوب شرق أوروبا (هي: كوسوفو، وكرواتيا، وألبانيا)، في 18 مارس الجاري، اتفاق تعاون دفاعي مشترك، وذلك في سياق متغيرات أمنية تشهدها منطقة البلقان حالياً. يمثل هذا الاتفاق تطوراً بارزاً في العلاقات الدفاعية بين الدول الثلاث، ويعكس مصالحها المشتركة في تعزيز القدرات الأمنية والاستجابة للتهديدات الإقليمية المتزايدة. يهدف الاتفاق إلى تعميق التعاون العسكري بين الدول الثلاث، مع التركيز على التدريبات المشتركة، وتعزيز القدرة على التنسيق في حالة التهديدات العسكرية المحتملة، وكذلك التعاون في مجال صناعة وتطوير الأسلحة. وبطبيعة الحال، سيُفضي هذا الاتفاق إلى تعقيد الأوضاع الأمنية في منطقة البلقان وخاصة مع رفض صربيا هذا الاتفاق.دوافع رئيسيةيرتبط التوقيع على الاتفاق الدفاعي الثلاثي بعددٍ من الدوافع الرئيسية المتمثلة فيما يلي:1- تعزيز آلية الردع المشترك للدول الثلاث: نتيجة لهشاشة الواقع الأمني في منطقة البلقان، حيث تتداخل التوترات التاريخية مع التحديات الأمنية المعاصرة، أصبحت اتفاقيات التعاون الدفاعي المشترك ضرورة ملحة لتعزيز الردع في مواجهة أي تهديدات خارجية محتملة. الأمر الذي انطلق منه توقيع الاتفاق العسكري بين ألبانيا وكرواتيا وكوسوفو خاصة في ظل التوتر المستمر بين كوسوفو وصربيا. وفي هذا السياق، تُشير التصريحات الصادرة عن الدول الثلاث إلى أن الاتفاق يركز على تعزيز الاستقرار والأمن في جنوب شرق أوروبا، ودعم المسار الأوروبي الأطلسي، وتعزيز التعاون والتحالف بين الدول الثلاث الصديقة.2- التكامل مع الاستراتيجية الدفاعية لحلف الناتو: تحظى كرواتيا وألبانيا بالعضوية في حلف الناتو، بينما تسعى كوسوفو للحصول على دعم غربي لتعزيز أمنها. ومن ثم يمثل الاتفاق خطوة إضافية نحو تعزيز البنية الدفاعية الإقليمية بما يتماشى مع الاستراتيجية الأطلسية في البلقان. وتُبنى الاستراتيجية تلك على ثلاثة محاور هي: توسيع عضوية الناتو، احتواء النفوذ الروسي والصيني، وأخيراً تعزيز الاستراتيجية الدفاعات الإقليمية وذلك عبر اتفاقيات التعاون العسكري، والتدريبات المشتركة. أي أن تعزيز القدرات الدفاعية لدول البلقان يعزز من قدرة الناتو على مواجهة التهديدات الأمنية في جنوب شرق أوروبا. ومن ثم يُعد الاتفاق بين كوسوفو وكرواتيا وألبانيا جزءاً من هذه الاستراتيجية، إذ يعزز التحالف العسكري بين الدول الموالية للغرب في مواجهة النفوذ الصربي-الروسي، ويدعم اندماج كوسوفو في المنظومة الأطلسية حتى وإن لم تصبح عضواً رسمياً في الناتو بعد.3- مساعي الدول الثلاث لتطوير الصناعات الدفاعية: حيث أشار الإعلان الخاص بالتعاون بين الدول الثلاث إلى أن الاتفاق يستهدف تعزيز القدرات الدفاعية والتعاون الصناعي الدفاعي من خلال استكشاف تطوير واكتساب القدرات الدفاعية عبر حلول متعددة، وتحديد مجالات التعاون الصناعي الدفاعي من خلال تعزيز الوصول إلى الموارد وسلاسل التوريد لإنشاء صناعة دفاعية تنافسية ومرنة، وكذلك تكثيف الجهود للاستثمار في التقنيات الجديدة والابتكار بهدف تعزيز القدرات الدفاعية. 4- التوسع في التدريبات والمناورات العسكرية المشتركة: أكد الإعلان الخاص بالتعاون الدفاعي بين الدول الثلاث على أهمية تبادل الخبرات وأفضل الممارسات في تجنيد وتطوير والاحتفاظ بالكفاءات المؤهلة، بما في ذلك تبادل مفاهيم قوات الاحتياط، لتعزيز قدرات الردع والدفاع. كما يستهدف الاتفاق تعزيز فرص التعليم والتدريب الفردي والجماعي عبر الأكاديميات والكليات العسكرية لرفع مستوى الفهم الاستراتيجي للتهديدات والتحديات المشتركة. علاوة على تعزيز التدريبات الثنائية أو الثلاثية لتحسين قابلية التشغيل البيني، بما يتماشى مع سياسة التدريب والتمارين الخاصة بحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، لضمان جاهزية القوات بشكلٍ كافٍ.5- مواجهة النفوذ الروسي والصيني في المنطقة: يعد الاتفاق الثلاثي بين كوسوفو وألبانيا وكرواتيا جزءاً من الجهود الغربية لمواجهة النفوذ الروسي والصيني في منطقة البلقان؛ حيث تستغل موسكو وبكين نقاط الضعف السياسية والاقتصادية لتعزيز وجودهما في المنطقة. فتنظر روسيا لصربيا كحليفها الرئيسي في البلقان، وتعمل على دعمها سياسياً وعسكرياً، خاصة في مسألة رفضها استقلال كوسوفو. ولطالما زوّدت موسكو بلغراد بالأسلحة والتكنولوجيا العسكرية. كذلك الصين التي استثمرت مليارات الدولارات في البنية التحتية لدول البلقان ضمن مبادرة "الحزام والطريق"، ومن ثم فإن تلك الاتفاقية تُعد تقويضاً للنفوذ الاقتصادي الصيني في البلقان، وفرصة أمام كل من ألبانيا وكرواتيا وكوسوفو لتأمين نفسها ضد محاولات الصين لاستخدام الاقتصاد كأداة ضغط، وخلق كتلة موالية للغرب لا تعتمد على بكين في تمويل مشاريعها الاستراتيجية.يضاف إلى ذلك القدرة على الحد من الاختراقات الأمنية الروسية والصينية، حيث تمارس روسيا عمليات استخباراتية مكثفة في البلقان، بما في ذلك دعم حركات قومية معادية للغرب داخل كوسوفو ومقدونيا الشمالية. وعليه، من المتوقع أن يعزز هذا الاتفاق الثلاثي من التنسيق الاستخباراتي والعسكري بين كوسوفو وكرواتيا وألبانيا، مما يسهم في كشف وإحباط أي عمليات تخريبية محتملة من قبل روسيا أو الصين.تداعيات محتملةيستدعي الاتفاق الدفاعي الثلاثي عدداً من التداعيات المحتملة المتمثلة فيما يلي: 1- تزايد التوترات بين الدول الموقعة على الاتفاق وصربيا: تُعَدُّ صربيا المتضرر الأكبر من هذا الاتفاق، والذي تنظر إليه على أنه تهديد مباشر لمصالحها الأمنية. وتعكس ردود الفعل الأولية الصادرة عن المسؤولين الصرب قلقاً عميقاً إزاء ما يعتبرونه محاولة لمحاصرة صربيا استراتيجياً. فبعد يوم واحد من توقيع الاتفاقية، خرج الرئيس الصربي "ألكسندر فوتشيك" بتصريحات يصف فيها الاتفاقية بأنها "سباق تسلح"، وحذّر من أن صربيا على استعداد تام لحماية حدودها ضد أي معتدٍ محتمل. ومن جانب آخر وفي ظل التوترات التي تشعر بها صربيا حالياً، قد يدفع هذا الاتفاق بلغراد إلى تعزيز تعاونها العسكري مع روسيا والصين، ما قد يؤدي إلى تصاعد التوترات الإقليمية.2- تعزيز مكانة الحكومات في كوسوفو وألبانيا وكرواتيا: على الرغم من التوترات السياسية المحتملة التي قد تواجهها الدول الثلاث، إلا أنه من المؤكد أن هذا الاتفاق يعمل على توفير دعم سياسي وعسكري لحكومات كوسوفو وألبانيا وكرواتيا، مما يسهم في تعزيز الاستقرار الداخلي لهم؛ حيث إن زيادة التعاون الدفاعي بين دول البلقان يساهم في بناء قدرات مؤسسية أقوى للدول الصغيرة، ويقلل من احتمالية الاضطرابات الداخلية.3- تأجيج الاستقطابات الجيوسياسية في البلقان: مع تصاعد الاستقطاب الجيوسياسي بين الغرب من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، فإن هذا الاتفاق قد يعزز من حالة الاستقطاب تلك داخل منطقة البلقان؛ حيث إن تكريس التحالفات العسكرية في المنطقة على أسس جيوسياسية متباينة قد يزيد من احتمالات التصعيد العسكري غير المباشر، ومن المتوقع أن يزيد من احتمالية دعم الولايات المتحدة الاتفاق باعتباره خطوة لمواجهة التمدد الروسي والصيني في البلقان، حيث ترى واشنطن أن هذه الشراكة الدفاعية ستمنع استغلال موسكو وبكين للفراغات الأمنية والسياسية في تلك المنطقة.4- تصاعد الدعم الأمريكي للدول الموقّعة على الاتفاق الدفاعي: رحبت الولايات المتحدة بالاتفاق باعتباره خطوة نحو تعزيز الاستقرار الإقليمي وتقوية الشراكة بين دول البلقان وحلف الناتو. وفقاً لتقرير صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، فإن واشنطن ترى في هذا الاتفاق آلية لتعزيز الأمن في جنوب شرق أوروبا وتقليص النفوذ الروسي في المنطقة. كما عبّر مسؤولون أمريكيون عن دعمهم لتوسيع نطاق التعاون الدفاعي بين دول البلقان كجزء من الاستراتيجية الأطلسية.5- احتمالية توسيع نطاق الاتفاق ليشمل دولاً أخرى في البلقان: قد يشجع نجاح هذا الاتفاق دولاً أخرى في المنطقة، مثل الجبل الأسود ومقدونيا الشمالية وبلغاريا، على الانضمام إلى هذا التحالف الدفاعي. ففي ظل تصاعد التهديدات الأمنية مثل الإرهاب السيبراني والجرائم العابرة للحدود، تتزايد رغبة بعض دول البلقان في تعزيز التعاون العسكري. واحدة من أبرز دول المنطقة التي قد تنضم قربياً لهذا الاتفاق هي بلغاريا، نظراً لموقعها الجيوسياسي ودورها الإقليمي.ورغم أن بلغاريا قد تستفيد من الاستقرار الإقليمي الذي قد يُوفره هذا الاتفاق، فإنها على الأرجح ستُفضل البقاء على الحياد أو دعم التعاون الدفاعي داخل إطار الناتو بدلاً من الانضمام إلى التحالف. ويرجع هذا الرأي لعدة أبعاد سياسية واقتصادية وعسكرية لبلغاريا. الأول، أن الانضمام لهذا التحالف عسكري يمكن أن يُعقّد السياسة الخارجية البلغارية مع جارتها صربيا. والثاني، التأثير السلبي على العلاقات الاقتصادية بين صربيا وبلغاريا وباقي دول الاتفاق، حيث لدى بلغاريا علاقات تجارية قوية مع صربيا وكرواتيا. والثالث، وهو البعد العسكري، ففي حال تصاعد التوترات بين صربيا والتحالف الدفاعي الجديد، قد تضطر بلغاريا إلى تعزيز جاهزيتها العسكرية لتفادي أي اضطرابات إقليمية، خاصة أن بلغاريا تُجاور صربيا وكوسوفو وتُشكل جزءاً من الجبهة الشرقية للناتو.6- إمكانية استغلال الاتفاق الثلاثي لتعزيز المسار الأوروبي لدول البلقان: قد تستخدم كوسوفو وألبانيا هذا الاتفاق كأداة لتعزيز موقفهما في مسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، من خلال إثبات قدرتهما على تحقيق الاستقرار الإقليمي وتعزيز القيم الدفاعية المشتركة للاتحاد. فمن المحتمل أن ينظر الاتحاد الأوروبي إلى مثل هذه الاتفاقيات كعامل إيجابي يعزز فرص اندماج دول البلقان في المنظومة الأوروبية. ختاماً، يمثل اتفاق التعاون الدفاعي بين كوسوفو وكرواتيا وألبانيا خطوة استراتيجية تعكس تغيراً في موازين القوى داخل منطقة البلقان. فبينما يعزز الاتفاق من القدرات الدفاعية للدول الثلاث، فإنه يحمل في طياته تداعيات قد تؤدي إلى زيادة التوترات مع صربيا، وربما إعادة رسم التحالفات الإقليمية في المنطقة. وفي ظل التغيرات المتسارعة في البيئة الجيوسياسية، ستصبح كيفية إدارة تداعيات هذا الاتفاق على المستويين الإقليمي والدولي عاملاً حاسماً في تحديد مستقبله وتأثيراته طويلة الأمد.

ما تداعيات الاتفاق الدفاعي بين كوسوفو وألبانيا وكرواتيا؟