عقد "إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية" حلقة نقاشية بعنوان "اضطرابات بوخارست: سيناريوهات ما بعد إبطال الانتخابات الرئاسية في رومانيا"، يوم الأربعاء الموافق 18 ديسمبر 2024، واستضاف خلالها د. "ليليانا فيليب" رئيسة مجموعة البحث السياسي في رومانيا.

مشهد معقد

استهلت المتحدثة الرئيسية د. "ليليانا فيليب" حديثها بالإشارة إلى تطورات وأبعاد المشهد السياسي المعقد في رومانيا؛ حيث أكدت أن رومانيا شهدت هذا العام سلسلة من الانتخابات، شملت المحلية والبرلمانية والرئاسية، إلا أن الجولة الأولى من التصويت الرئاسي التي عُقِدت في 24 نوفمبر 2024، أُلغيت نتائجها بسبب اتهامات بالتدخل الأجنبي ومخالفات انتخابية؛ ما أضفى مزيداً من التعقيد على المشهد السياسي في البلاد، وهو ما يتضح عبر ما يلي:

1– تعميق إلغاء نتائج الاستحقاق الرئاسي الأزمة السياسية: بحسب "فيليب"، فإن إعلان المحكمة الدستورية الرومانية إلغاء نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في 6 ديسمبر 2024، قبل يومين من الجولة الثانية، مشيرةً إلى التلاعب بالناخبين وتمويل الحملات غير القانوني كسببين رئيسيين للإلغاء، ألقى بظلاله السلبية على العملية الديمقراطية في رومانيا. وقد ترك قرار إلغاء نتائج الجولة الأولى، وإصدار أمر بإجراء انتخابات رئاسية جديدة بحلول مارس 2025، الأمة في حالة من عدم اليقين السياسي، لا سيما أن الافتقار إلى خليفة رئاسي واضح يخلق حالة من عدم الاستقرار المؤسسي؛ حيث تنتهي ولاية الرئيس الحالي في 21 ديسمبر 2024، كما يمثل الغموض السياسي في الوقت الراهن فرصة لظهور الأحزاب المتطرفة والشعبوية؛ ما يهدد الاستقرار السياسي في البلاد.

ومن ناحية أخرى، أشارت د. "ليليانا فيليب" إلى أن إلغاء الانتخابات الرئاسية في رومانيا أدى إلى تعميق الانقسامات السياسية، وزيادة شعور المواطنين، خاصةً الشباب، بالحرمان من حقوقهم الديمقراطية. وقد أثار هذا الوضع تساؤلات حول مصداقية النظام السياسي، ومدى قدرة أصوات الناخبين على إحداث تغيير حقيقي في ظل مخاوف متزايدة من التلاعب.

2– كشف اتهامات بالتلاعب الرقمي عن عمق الأزمة الانتخابية: وفقاً لما ذكرته "فيليب"، تركزت اتهامات التلاعب بالناخبين حول استخدام حسابات وهمية على منصة "تيك توك" لنشر دعاية مستهدفة بهدف التأثير على الرأي العام. واعتمدت الحسابات المزيفة على نشر روايات مشحونة عاطفياً، تضمنت خطاباً قومياً ومشاعر مناهضة للاتحاد الأوروبي، بهدف استقطاب الناخبين. وفي هذا السياق، لفتت "فيليب" إلى أن فوز المرشح المستقل "كالين جورجيسكو" في الجولة الأولى، كان معتمداً بشكل كبير على حملات وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصةً "تيك توك"، بدلاً من الفعاليات التقليدية لجذب الناخبين.

3– مفاقمة قضية التدخل الأجنبي أزمة رومانيا الانتخابية: طبقاً لـ"فيليب"، كشف تقرير استخباراتي روماني عن وجود آلاف الحسابات المزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصاً منصة "تيك توك"، ضمن جهود منسقة للتلاعب بالناخبين. وقد أشارت الأدلة إلى تورط روسيا والصين في هذه العمليات؛ ما زاد تعقيد المشهد السياسي في البلاد. وقد واجه المرشح المستقل "كالين جورجيسكو"، الذي كان يُنظر إليه في البداية كرمز للإصلاح السياسي، اتهامات بتلقي دعم مالي كبير من قنوات أجنبية. وتشير التقارير إلى أن بعض هذا التمويل قد جاء من جهات مرتبطة بموسكو وبكين أيضاً.

وفي هذا الإطار، أدت هذه التطورات، بحسب "فيليب"، إلى تعميق المخاوف بشأن محاولات موسكو المستمرة لزعزعة استقرار المنطقة؛ حيث ترى رومانيا نفسها هدفاً محتملاً لهذه الجهود. وعلى الرغم من أن روسيا تبنت استراتيجية الإنكار في الرد على الاتهامات، فإن ظهور أدلة جديدة قد يضعها في موقف دفاعي صعب، ويعقد علاقاتها مع أوروبا الشرقية بشكل أكبر.

4– تهديد ضعف سياسات الأمن السيبراني العملية الديمقراطية: ذكرت "فيليب" أن رومانيا تواجه تحدياً ملحاً في تعزيز تدابير الأمن السيبراني وحماية العملية الديمقراطية، خاصةً في ظل المشهد الحالي الذي أبرز ضعف السياسات القائمة. وعلى الرغم من تطبيق قانون الخدمات الرقمية (DSA)، الذي يمثل لائحة أوروبية تهدف إلى تنظيم المنصات الرقمية، فإن فاعليته في رومانيا تعتمد بشكل كبير على التعاون مع المفوضية الأوروبية؛ إذ ينص القانون على أن المنصات الرقمية الكبرى العاملة في رومانيا، ولكنها غير مسجلة كشركات محلية، تقع تحت اختصاص المفوضية الأوروبية. ويُبرِز هذا الوضع تحديات في فرض اللوائح على هذه المنصات؛ حيث إن اتخاذ إجراءات ضد منصات مثل "تيك توك" يتطلب عمليات طويلة ومعقدة.

5– إضرار هشاشة مؤسسات الدولة بالاستقرار السياسي برومانيا: نوهت "فيليب" أن الانتخابات الأخيرة في رومانيا أظهرت تأثيرات واسعة النطاق أثارت مخاوف بشأن قدرة مؤسسات الدولة على إدارة الأزمات وضمان استقرار العملية الديمقراطية؛ إذ يُخشَى أن يؤدي إلغاء الانتخابات الرئاسية إلى خلق سابقة خطيرة؛ حيث قد يعتقد المواطنون أن نتائج الانتخابات يمكن التلاعب بها أو إلغاؤها وفقاً لمصالح سياسية معينة. وطبقاً لـ"فيليب"، يتفاقم هذا القلق بسبب غموض الإطار الدستوري في رومانيا، لا سيما فيما يتعلق بفصل السلطات بين الرئيس ورئيس الوزراء.

وقد تُعزِّز هذه الهشاشة المؤسسية شعور الناخبين بعدم الثقة؛ ليس فقط في الرئاسة، بل في باقي المؤسسات الحكومية أيضاً؛ ما يجعلها تبدو غير فعَّالة أو بعيدة عن تلبية احتياجاتهم. وهذا الوضع يُهيِّئ الساحة السياسية لظهور أحزاب متطرفة أو شعبوية قد تستغل هذا الضعف المؤسسي لتعزيز نفوذها وزعزعة النظام الديمقراطي.

6– محورية دور منظمات المجتمع المدني في رصد المخالفات الانتخابية: أشارت "فيليب" إلى أن منظمات المجتمع المدني لعبت دوراً محورياً في رصد المخالفات التي شابت الانتخابات الرئاسية في رومانيا؛ ما سلط الضوء على أهمية هذه المنظمات في تعزيز نزاهة العمليات الديمقراطية. وقد دعت جماعات المراقبة إلى ضرورة تنفيذ إصلاحات انتخابية شاملة، شملت فرض رقابة أكثر صرامةً على تمويل الحملات الانتخابية، وتنظيم عمل منصات التواصل الاجتماعي، بهدف الحد من التدخلات الخارجية والتلاعب الإعلامي.

كما أسهمت وسائل الإعلام المستقلة بدور فعال في كشف حملات التضليل والتدخل الأجنبي التي أثَّرت على الانتخابات. ومع ذلك، فإن البيئة السياسية الشديدة الاستقطاب، جعلت العمل الصحفي محفوفاً بالمخاطر؛ حيث يواجه الصحفيون تهديدات مستمرة وترهيباً؛ ما يعكس تحديات كبيرة أمام تحقيق الشفافية والمساءلة.

تداعيات محتملة

في ظل المشهد السياسي المتوتر في رومانيا، ثمة مجموعة من التداعيات المحتملة التي أكدت د. "ليليانا فيليب" أن أبرزها ما يلي:

1– تمهيد تشكيل الحكومة الائتلافية لاستقرار سياسي مؤقت: أكدت د. "ليليانا فيليب" أنه رغم الجدل المستمر حول الانتخابات الرئاسية في رومانيا، فإن تشكيل الحكومة الائتلافية قد يحقق نوعاً من الاستقرار السياسي المؤقت.؛ فقد تمكَّن الحزب الديمقراطي الاجتماعي من تصدُّر الانتخابات البرلمانية كأكبر الفصائل البرلمانية، لكنه لم يحصل على الأغلبية المطلوبة؛ ما استدعى الدخول في مفاوضات مع أحزاب أخرى مثل الحزب الليبرالي الوطني وحزب الوسط الصاعد لتشكيل الحكومة. وقد تم بالفعل تشكيل حكومة ائتلافية تضم مزيجاً من السياسيين المخضرمين والقادة الشباب الموجهين نحو الإصلاح. ووفقاً لتعهدات الحزب الديمقراطي الاجتماعي، تُركِّز أولويات الحكومة على التعافي الاقتصادي، وتطوير البنية التحتية، وتعزيز دور رومانيا داخل الاتحاد الأوروبي.

ومع ذلك، فإن الحكومة الجديدة تواجه تحديات كبيرة، أبرزها الوفاء بوعودها الإصلاحية، والتعامل مع الخلل في العمليات الانتخابية، إضافةً إلى استمرار الجدل حول التدخلات الأجنبية. وستختبر هذه العقبات قدرة القيادة السياسية على تحقيق الاستقرار الداخلي وتفعيل دور رومانيا في المشهد الأوروبي.

2– احتمالية تشكيل حكومة جديدة بعد انتخاب رئيس جديد: في الوقت نفسه، أشارت "ليليانا فيليب" إلى أن هناك سيناريوهات محتملة قد تشمل عدم توافق الرئيس الجديد مع الحكومة الائتلافية القائمة. وعلى الأرجح، ستظل الحكومة الحالية متحالفة مع الرئيس المنتهية ولايته، الذي سيعمل على الحفاظ على الاستقرار في فترة ولايته. ومع ذلك، قد يسعى الرئيس الجديد، عند توليه منصبه، إلى ترشيح رئيس وزراء مختلف بما يتماشى مع توجهاته السياسية. وفي حال حدوث ذلك، قد يتسبب التعديل الحكومي في عدم استقرار سياسي مؤقت؛ ما يعطل بعض المشاريع الجارية، ويؤدي إلى ركود في الحكومة.

3– رهن استمرار شراكات رومانيا الغربية باستقرارها السياسي: أشارت "فيليب" إلى أن رومانيا تواجه تدقيقاً داخلياً بشأن دورها في الاتحاد الأوروبي، خاصةً مع تصاعد الشعبوية والتحديات التي تهدد المعايير الديمقراطية؛ لذا أكدت "فيليب" ضرورة أن تثبت رومانيا التزامها بالمبادئ الديمقراطية من خلال تنظيم انتخابات حرة ونزيهة في مارس 2025، كما شددت "أورسولا فون دير لاين" رئيسة المفوضية الأوروبية، على أهمية التصرف بسرعة ضد التدخلات الأجنبية، مشيرةً إلى التحقيقات بشأن دور "تيك توك" في التدخل بالانتخابات الرومانية، رغم الحاجة إلى مزيد من الأدلة لإثبات تورط روسيا.

وفيما يتعلق بحلف الناتو، لفتت "فيليب" إلى أنه لا يوجد تصريح رسمي بشأن الوضع الحالي، لكنها لفتت إلى أن التعاون مع رومانيا في مجالات الأمن السيبراني والتهديدات غير العسكرية سيظل محورياً، وأضافت أنه إذا استطاعت رومانيا الحفاظ على استقرار سياسي وحكومة فعالة، فستستمر الشراكات بين رومانيا والاتحاد الأوروبي والناتو.

4– اتخاذ "ترامب" مواقف أكثر وضوحاً ضد التدخلات في رومانيا: رجحت "فيليب" أنه رغم أن عودة "دونالد ترامب" إلى رئاسة الولايات المتحدة قد لا تؤثر بشكل مباشر على المشهد السياسي أو الانتخابي في رومانيا، فإن هناك توقعات بأن تكون إدارته المقبلة أكثر وضوحاً وحزماً في التعامل مع ما تعتبره "تدخلات روسية" في رومانيا؛ فقد كانت الإدارة الحالية واضحة في إدانتها لهذه التدخلات؛ حيث وصفت وزارة الخارجية الأمريكية التدخل في رومانيا بـ"التدخل الروسي"؛ ما يشير إلى وجود أدلة على تورط روسيا في هذه الأنشطة، رغم أن هذه الأدلة قد تكون سرية في الوقت الراهن.

5– تبني رومانيا سياسات أكثر صرامةً لتنظيم منصات التواصل: صرَّحت د. "ليليانا فيليب" بأن التطورات الأخيرة تدفع نحو تكثيف المناقشات حول تنظيم منصات التواصل الاجتماعي، ولا سيما "تيك توك"، الذي أصبح محوراً للجدل بشأن تأثيره على العملية الديمقراطية. وسوف تسعى رومانيا إلى تبني سياسات أكثر صرامةً في هذا المجال، وسط دعوات متزايدة لاتخاذ تدابير جذرية، تشمل إمكانية حظر "تيك توك" على أراضيها.

ورغم أن مثل هذه الخطوة قد تُثير جدلاً حول تقييد حرية التعبير والحقوق الأوروبية الأساسية، ترى "فيليب" أن الظروف الاستثنائية التي مرت بها رومانيا قد تتطلب إعادة تقييم هذا الاتجاه. وفي الوقت الراهن، يتركز الجهد على إدارة التفاعل مع منصات التواصل الاجتماعي بفاعلية، مع الحفاظ على التوازن بين تعزيز الأمن السيبراني وحماية الحريات العامة.

ونوهت "فيليب" بأن التهديدات الحالية من حملات التضليل على منصات التواصل الاجتماعي، قد تتصاعد إذا تُركت دون رادع، مع احتمال أن تمتد إلى دول أخرى في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وأوضحت أن هذه المنصات تتمتع بقدرة هائلة على التلاعب بالسكان؛ ما يسهم في تمكين حملات تضليل واسعة النطاق قد تُلحِق أضراراً جسيمة. وأكدت أن هذه الحملات ستصبح أكثر تعقيداً مع تقدم الخوارزميات والتقنيات الجديدة التي يمكن أن تجعلها أكثر فاعليةً في المستقبل، مشيرةً إلى أن هذه الحملات لن تظل على حالها، بل ستتطور لتجد طرقاً أكثر تطوراً لزعزعة الاستقرار في المستقبل.

6– إضرار عدم الاستقرار السياسي بالوضع الاقتصادي برومانيا: ذكرت "فيليب" أن التغييرات السياسية في رومانيا دائماً ما تأتي بتكاليف كبيرة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي؛ حيث يعتبر إلغاء الانتخابات ضربة قوية لجهود البلاد في جذب الاستثمارات الأجنبية، وأشارت إلى أن تصنيف رومانيا قد بدأ ينخفض؛ ما يعكس تأثير هذه التغييرات على الثقة بالاقتصاد الروماني. وأكدت "ليليانا" أن المستثمرين سيصبحون أكثر حذراً عند النظر إلى رومانيا كوجهة استثمارية، خاصةً في ظل التحديات الاقتصادية في دول أخرى؛ ما يتيح للحركات الشعبوية فرصة استغلال الوضع.

وأضافت أنه بالرغم من حملة بوخارست للترويج لرومانيا وجذب الاستثمارات من دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية الأخرى؛ فإن رومانيا ما زالت تواجه صعوبة في جذب الاستثمارات الأجنبية، كما أن الاضطرابات السياسية أثرت بشكل كبير على الاقتصاد؛ إذ تراجعت ثقة المستثمرين في ظل حالة عدم اليقين. وأدى إلغاء الانتخابات الرئاسية إلى تأخير اتخاذ قرارات اقتصادية هامة، مثل الموافقات على الميزانية ومشاريع البنية التحتية. وأوضحت "فيليب" أن الشركاء الدوليين يراقبون الوضع عن كثب، معربين عن قلقهم بشأن قدرة رومانيا على الحفاظ على الاستقرار السياسي، بينما تواجه الحكومة الائتلافية الجديدة التحدي المزدوج المتمثل في تحقيق الاستقرار الاقتصادي ومعالجة الأزمة السياسية.

وختاماً، يبدو المشهد السياسي في رومانيا هشاً، لكن الانتخابات الرئاسية المقبلة تمثل فرصة لاستعادة ثقة الجمهور، بشرط أن تُجرَى بشفافية، وأن تخلو من التدخلات الخارجية. في الوقت ذاته، يثير احتمال السماح لـ"جورجيسكو" بالترشح مرة أخرى جدلاً ونقاشات واسعة؛ حيث يمكن أن يعزز ذلك موقعه السياسي، لكنه قد يمثل أيضاً تحدياً إضافياً لديمقراطية البلاد. وفي مواجهة التحديات المتزايدة، قد يعمل المسؤولون الرومانيون على تبني استراتيجيات تهدف إلى توحيد القوى السياسية خلف مرشح واحد، لمواجهة صعود الحركات المتطرفة والقومية خلال الانتخابات المقبلة.

سيناريوهات ما بعد إبطال الانتخابات الرئاسية في رومانيا (حلقة نقاش)