إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

أعلن جيش الكونغو الديمقراطية في 19 مايو 2024 إحباط محاولة انقلابية فاشلة تورط فيها مجموعة مكونة من 50 شخصاً تقريباً بينهم أجانب، ويتزعمها عسكري كونغولي سابق يدعى كريستيان مالانجا يحمل الجنسية الأمريكية، قبل أن يلقى مصرعه مع أربعة أشخاص، واعتقال أكثر من 40 آخرين ممن تورطوا في الأزمة.يأتي ذلك في توقيت بالغ الحساسية بالنسبة إلى الرئيس فليكس تشيسيكيدي الذي يواجه تشكيكاً من المعارضة في شرعيته السياسية منذ إجراء الانتخابات الأخيرة المثيرة للجدل، وإخفاقه منذ تجديد ولايته الرئاسية في تشكيل حكومة جديدة للبلاد، وتأجيله انتخابات اختيار رئيس البرلمان، وتهديده بحل البرلمان وإعادة تشكيله مجدداً إذا استمرت ممارسات حزبه الحاكم، إضافةً إلى انخراطه في محاربة الإرهاب في منطقة شرق الكونغو التي تحتضن العديد من الحركات المسلحة المتمردة والتنظيمات الإرهابية، وارتباط ذلك بشكل مباشر بتعميق أزماته الإقليمية مع بعض دول الجوار، مثل رواندا التي يتهمها بدعم تلك الحركات لتقويض أمن بلاده.وتسلط هذه الأحداث الضوء على عمق الأزمة في المشهدين السياسي والأمني في الداخل الكونغولي الذي يشهد سياقاً معقداً منذ إعادة تنصيب الرئيس فليكس تشيسيكيدي لولاية رئاسية ثانية في ديسمبر 2023 وسط رفض المعارضة نتائج الانتخابات آنذاك. ومع ذلك، تعد هذه المحاولة الانقلابية بمنزلة ناقوس خطر جديداً يحذر من تراجع الديمقراطية على الساحة الأفريقية، خاصةً أنها تمثل استمراراً لموجة الانقلابات العسكرية التي شهدتها بعض الدول الأفريقية منذ عام 2020 في منطقة الساحل؛ ما يعزز المخاوف من تفاقم انعدام الاستقرار الإقليمي والقاري وانعكاساته السلبية على مستقبل الدولة الوطنية في أفريقيا.اضطرابات داخليةهناك أبعاد مختلفة لمحاولة الانقلاب الأخيرة في الكونغو الديمقراطية، تحمل الكثير من الدلالات حول تعقُّد السياق العام في البلاد، ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك الأبعاد على النحو التالي:1– التشكك في حدود الدور الخارجي في المحاولة الانقلابية: لم تتضح الأسباب التي دفعت المجموعة الانقلابية إلى القيام بتلك المحاولة في البلاد، لا سيما أنها تبدو محاولة بدائية غيرَ مُخطَّطٍ لها جيداً، ولم تضمن حشد وتعبئة بعض الوحدات في الجيش الكونغولي مثلما هو الحال في العديد من الانقلابات العسكرية بالدول الأفريقية الأخرى لضمان نجاحها، إضافة إلى كون المجموعة الانقلابية قد ضمت بين صفوفها أجانب من الجنسيتين الأمريكية والبريطانية، على رأسها زعيمها كريستيان مالانجا، ونجله البالغ من العمر 21 عاماً، وفق ما صرَّح به المتحدث باسم الجيش الكونغولي. وهكذا تزداد الشكوك حول وجود مؤامرة خارجية للإطاحة بنظام الرئيس تشيسيكيدي، في إطار احتدام التنافس على الموارد والثروات الطبيعية بالقارة الأفريقية.وما يعزز شكوك الدول الخارجي، التحذير الذي أطلقته السفارة الأمريكية في كينشاسا بشأن نشاط خفي مستمر لعناصر أمنية في البلاد، وتقارير عن إطلاق النار في المنطقة، وظهور مالانجا في مقطع فيديو مهدداً الرئيس تشيسيكيدي قبل تورطه في المحاولة الانقلابية الأخيرة.2– تزايد الشكوك حول دور الأجهزة الأمنية في المحاولة الانقلابية: تفتح المحاولة الانقلابية الباب أمام المزيد من التكهنات حول فشل أو تواطؤ الأجهزة الأمنية، وربما تواطؤ بعض القوى الخارجية في زعزعة استقرار وأمن البلاد، وهو ما يهدد سيطرة نظام تشيسيكيدي بشكل محكم على مفاصل الدولة؛ فعلى الرغم من إحباط المحاولة الانقلابية فإن المتورطين فيها بقيادة مالانجا قد نجحوا في الوصول إلى قصر الرئاسة في العاصمة كينشاسا الذي يخضع لحراسة مشددة، وهو ما يثير تساؤلات حول وجود متعاطفين محتملين مع هذه المجموعة الانقلابية بين صفوف قادة النظام الحاكم والقوات الأمنية والعسكرية. ومن ثم، يُعَد الهجوم على أكثر الأماكن أمناً، أمراً مقلقاً على الصعيد الأمني، بما يعني غياب الترتيبات الأمنية في العاصمة كينشاسا، ووجود اختراقات قد تعزز المخاوف من تكرار هذه المحاولات خلال الفترة المقبلة.3– مسارعة واشنطن للتنديد بالمحاولة الانقلابية: سارعت واشنطن للتنديد بالمحاولة الانقلابية؛ وذلك بهدف نفي أي اتهامات تُوجَّه لها بالتورط في المحاولة. وفي هذا الصدد، نددت السفارة الأمريكية في الكونغو بمحاولة الانقلاب في البلاد، كما حملت الأمريكيين المشاركين في محاولة الانقلاب المسؤولية الكاملة؛ إذ قالت السفارة: "أي مواطن أمريكي يثبت تورطه في هذه الأحداث الإجرامية، عليه أن يتحمل مسؤولية تصرفاته، وأن يدفع ثمنها"، وأعربت السفارة عن قلقها البالغ من هذا الأمر، كما أبدت استغرابها تجاهه.4– ضعف التخطيط للمحاولة الانقلابية: تعكس السرعة التي أنهيت بها المحاولة الانقلابية من قِبَل الجيش الكونغولي، عدم وجود تهديد كبير من جانب المتورطين فيها، ومن ثم يمكن وصفها بمحاولة عنترية؛ حيث لم يتخطَّ عدد المشاركين فيها نحو 50 شخصاً مع تسليح ضعيف غير كافٍ لمهاجمة القصر الرئاسي ومقر كل من رئيسة الوزراء الجديدة ووزير الدفاع ورئيس البرلمان المحتمل.إضافة إلى ذلك، غابت مقومات نجاح المحاولة الانقلابية، مثل دعم بعض مؤسسات الدولة لها، لا سيما الجيش الكونغولي، أو وحدات تابعة له، ودعم الظهير الشعبي لقائد المحاولة الانقلابية الفاشلة الذي قد صدر بحقه مذكرة توقيف من أجل قضاء فترة عقوبته في السجن لمدة 10 سنوات؛ لاتهامات سابقة تعود إلى عام 2010، كما تورط في محاولة انقلابية فاشلة في عام 2017 في البلاد، في ظل اعتقاده بأنه لا يمكن الاستمرار مع نظام تشيسيكيدي الذي فشلت سياساته خلال الفترة الماضية بحسب زعمه، وهو ما يثير في الوقت نفسه تساؤلات حول كيفية دخوله البلاد وسهولة تحركاته.5– قدرة السلطات الكونغولية على القضاء على منفذي الانقلاب: أعلنت السلطات الكونغولية تحييد "مالانجا" بشكل نهائي خلال الهجوم على القصر الرئاسي، وتم تحييد شخص يدعى "أبو بكر" خلال الهجوم على مقر إقامة "فيتال كاميرهي"، كما تم القبض على 50 شخصاً آخرين، بينهم 3 أمريكيين، ويخضعون حالياً للاستجواب من قبل الأجهزة المتخصصة.6– تشكيك المعارضة في العملية الانقلابية: تتصاعد حدة الصراع بين الرئيس تشيسيكيدي وقوى المعارضة، وهو الصراع الذي انعكس، بشكل أو بآخر، على تفاعل قوى المعارضة السياسية؛ حيث برز انطباع لدى المعارضة السياسية إزاء هذه المحاولة الانقلابية باعتبارها "مزعومة"؛ يحاول النظام الحاكم من خلالها تحويل انتباه الرأي العام الداخلي في البلاد بعيداً عن تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، في سبيل تخفيف الضغوط على الرئيس تشيسيكيدي بسبب إخفاقه في إدارة تلك الملفات والقضايا الداخلية الشائكة على مدار السنوات الأخيرة.7– تكلفة الصراعات داخل القصر الحاكم: ربما تكشف الأزمة الراهنة عن وجود صراعات أجنحة داخل قصر الحكم في كينشاسا، في ضوء السياق المضطرب الذي يتسم به المشهد السياسي منذ إعادة انتخاب الرئيس تشيسيكيدي رئيساً للبلاد في ديسمبر 2023، وما ترتب عليها من اضطرابات أمنية بسبب رفض المعارضة نتائج الانتخابات، وما صاحبها من إخفاق تشيسيكيدي – بعد مرور ستة أشهر على انتخابه مجدداً – وحزبه الحاكم في تشكيل حكومة جديدة بالرغم من سيطرته على البرلمان بأغلبية واقعية، وتعيينه رئيساً جديداً للوزراء، وهو ما دفعه إلى التهديد بحل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية جديدة إذا استمرت ممارسات قيادات حزبه الحاكم.8– تعرض الدولة لسلسلة مستمرة من الأزمات: تمثل المحاولة الانقلابية الأخيرة حلقة ضمن سلسلة من الصراعات الداخلية المستمرة في البلاد؛ فالكونغو الديمقراطية متورطة في العديد من النزاعات المتشابكة والمتداخلة التي تعزز انعدام الاستقرار في الداخل؛ فهناك غضب شعبي ملحوظ ضد تشيسيكيدي الذي تعهَّد منذ صعوده إلى السلطة في عام 2019 بتحسين الظروف المعيشية ووضع حد للصراع في شرق البلاد، إلا أنه لم يفِ بهذه التعهدات في ظل انعدام الاستقرار السياسي والأمني في البلاد.فلا يزال الوضع الأمني يعاني من التدهور في شرق البلاد مع تزايد نشاط الحركات المسلحة المتمردة هناك، وعلى رأسها حركة 23 مارس التي تسيطر على بعض المناطق هناك، مثل جوما وروبايا المعروفة باسم عاصمة الكولتان في العالم؛ بسبب احتياطاتها الواسعة في المعدن الذي يعد مكوناً رئيسيّاً في تصنيع الأجهزة الإلكترونية، بما في ذلك الهواتف الذكية والبطاريات، بجانب تنظيم القوات الديمقراطية المتحالفة الموالي لتنظيم داعش، وهو ما قد يؤدي إلى تفاقم الأزمات الإنسانية المستمرة، وتعطيل طرق التجارة مع دول الجوار الإقليمي.مخاوف متزايدةتتزايد التخوفات من إجراءات قاسية ربما يتخذها الرئيس تشيسيكيدي عقب إحباط المحاولة الانقلابية الأخيرة، وهو ما ستكون لها تداعياتها على المستويين الداخلي والخارجي، ويمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:1– تسريع تشكيل الحكومة: ربما يدفع السياق المضطرب في المشهد الكونغولي الرئيس تشيسيكيدي إلى حسم تشكيل أعضاء الحكومة الجديدة، من أجل تحمل مسؤولياتها تجاه الملفات الشائكة في الشأن الداخلي لتخفيف حدة الانتقادات الشعبية ضد النظام الحاكم. وإن كانت تلك الخطوة ربما تشكل اضطراباً واسعاً داخل أروقة الحزب الحاكم في ضوء التنافسات الشديدة على المناصب الجديدة في الحكومة الجديدة، ما قد يضاعف الأزمات في المشهد السياسي للبلاد.2– تبني حملة قمع ممنهجة: قد يجد النظام الحاكم في المحاولة الانقلابية الأخيرة فرصة سانحة للانقضاض على المعارضة السياسية، والقيام بحملات اعتقال واسعة لرموزها وأعضائها في سبيل السيطرة على المشهد السياسي بشكل حاسم، وإحكام السيطرة على الرأي العام الداخلي، إلا أن ذلك قد يعزز السخط الشعبي تجاه النظام الحاكم، ويعمل على تقويض الاستقرار السياسي النسبي في البلاد.3– إعادة صياغة الترتيبات الأمنية في الدولة: يدرك تشيسيكيدي أهمية إعادة صياغة الترتيبات الأمنية في الداخل الكونغولي؛ وذلك من أجل التصدي لأي تحديات أمنية محتملة في البلاد، على غرار المحاولة الانقلابية الفاشلة الأخيرة. وربما يتزامن مع ذلك فتح تحقيق مع القيادات الأمنية والعسكرية والأجهزة الأمنية بشأن الإخفاق في اكتشاف هذه المحاولة قبل وقوعها؛ ما قد يدفع إلى حركة تغيير شاملة للقيادات الأمنية والعسكرية في البلاد خلال الفترة المقبلة.4– احتمالية تنامي التوتر الإقليمي: قد يسعى تشيسيكيدي مجدداً إلى تصدير أزماته الداخلية إلى الخارج من خلال الجبهة الإقليمية مع رواندا، والتصعيد معها باتهامها بالضلوع في التخطيط لهذه المحاولة الانقلابية الأخيرة، بجانب استمرار تورطها في دعم حركة 23 مارس في شرق الكونغو بحسب ادعاءات كينشاسا، وهو ما يهدد الأمن والاستقرار الإقليميين في البحيرات العظمى.إجمالاً، بالرغم من إحباط المحاولة الانقلابية في وقت قصير، فإنها تكشف عن أزمة حقيقية وعميقة داخل أروقة نظام الرئيس تشيسيكيدي الذي يبدأ ولايته الجديدة وسط جملة من التحديات الداخلية والإقليمية التي تهدد استقرار البلاد، وربما تنذر بتهديد استمراره في الحكم؛ ما يعزز حالة عدم اليقين بشأن مستقبل البلاد، ما لم يتخذ تشيسيكيدي بعض الإجراءات الاستثنائية الخاصة بتشكيل حكومة جديدة تتبنى سياسات فاعلة لمعالجة التحديات في الملفات الضاغطة في الداخل لامتصاص سخط قطاعات عريضة من المواطنين، وعلى رأسها الملفان الاقتصادي والأمني اللذان يمثلان حجر الزاوية بالنسبة إلى استقرار واستمرار نظام تشيسيكيدي في حكم البلاد خلال الفترة المقبلة.

ما الذي كشفت عنه محاولة الانقلاب في الكونغو الديمقراطية؟