إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

عقد "إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية"، يوم الأربعاء الموافق 28 فبراير 2024، حلقة نقاشية بعنوان "اضطرابات ميانمار: تداعيات الحرب الأهلية على الاستقرار في جنوب شرق آسيا"، استضاف خلالها "يي ميو هاين" المدير التنفيذي لمعهد "تاجونج للدراسات السياسية" بميانمار، والباحث الزائر في معهد "الولايات المتحدة للسلام"، والزميل في مركز "وودرو ويلسون الدولي للباحثين"، متحدثاً رئيسياً. وقد ركزت الحلقة على التطورات الحالية في الصراع في ميانمار؛ حيث دخلت البلاد منذ استقلالها عن الحكم البريطاني عام 1948 في دائرة طويلة ومريرة من الصراعات الأهلية، إلا أن الصراع الحالي شهد تطورات جديدة، خاصةً بعد الانقلاب العسكري عام 2021، وأصبح ضمن أسوأ 15 صراعاً على مستوى العالم، وهو ما سيحمل تداعيات إقليمية ودولية متعددة.&nbsp;تحولات رئيسيةأكد المتحدث الرئيسي "يي ميو هاين" أن ديناميات الصراع الحالي في ميانمار تغيرت للأسوأ وفاقمت عدم الاستقرار في البلاد، لافتاً إلى أنه وسط اشتداد القتال بين قوات النظام الحاكم ومجموعات التمرد، أضحت التسوية السياسية في ميانمار بعيدة المنال. وفي هذا الإطار يمكن تلخيص أبرز التحولات التي شهدتها ديناميات الصراع في الآتي:1- اتساع النطاق الجغرافي للصراع الدائر بشكل غير مسبوق: أكد "يي ميو هاين" أن الحرب الأهلية التي اندلعت في ميانمار في عام 1949 وُصفت بأنها الأكثر كثافةً، مضيفاً أنه على الرغم من صحة ذلك وقتها، فإن الصراع لم يمتد إلا لبعض المناطق مثل بورما السفلى والوسطى. ووفقاً لـ"يي ميو هاين"، فإنه بعد الانقلاب العسكري على السلطة في 2021، اتسع نطاق الصراع ليشمل كافة أنحاء البلاد، وهو ما توضحه الخريطة أسفله. ونوه "يي ميو هاين" أن الإحصائيات الرسمية أشارت إلى أن ثمة أكثر من 29 ألف اشتباك وقع في ميانمار منذ الانقلاب العسكري في عام 2021 حتى 31 يناير 2024، فيما وصلت حصيلة القتلى إلى 47 ألف شخص منهم 8 آلاف من المدنيين. وبمقارنة هذه الأرقام بالفترة من 2010 إلى 2020، يبدو أن الصراع تصاعد بشكل غير مسبوق في فترة قصيرة، وفق قوله.2- صعود جماعات متمردة جديدة بعد الانقلاب العسكري: وفقاً للمتحدث الرئيسي، تشكلت عدة جماعات متمردة بعد الانقلاب في عام 2021، وانخرطت في محاربة النظام الحاكم وانضمت بجانب القوى المتمردة الأخرى مثل الجماعات العرقية المسلحة، على الرغم من تباين أجنداتها، وهو ما فاقم بدوره تعقيد الصراع؛ حيث يريد كل طرف الحصول على مكاسب مختلفة وتحقيق مصالح متباينة، ساعياً نحو فرض نفوذه وسيطرته على مناطق بعينها، لا سيما المناطق الحدودية، والمعابر الرئيسية المتاخمة لتايلاند والهند وبنجلاديش والصين.وبحسب "يي ميو هاين"، بلغ قوام الجماعات المتمردة المُشكلة حديثاً ما يقرب من 83 ألف شخص. وتنقسم تلك الجماعات إلى 3 فئات رئيسية، وهي قوات: الدفاع عن الشعب (People’s defense forces) التي يتم تدريبها على يد الجماعات العرقية المسلحة (EAO)، التي تحاول السيطرة على حكومة الوحدة الوطنية، وهي حكومة موازية لنظام الانقلاب الحالي. وطبقاً لـ"يي ميو هاين"، فإنه تتمثل الفئة الثانية في فرق الدفاع عن الشعب (People’s defense team) وتقع تحت سيطرة حكومة الوحدة الوطنية، والفئة الثالثة هي قوات الدفاع المحلية (Local defense forces) التي تم تشكيلها على يد قوات مناهضة للانقلاب وجماعات مستقلة خارجية مقيمة في الهند.3- اعتماد القوات المتمردة على تصنيع الأسلحة في الداخل: أكد "هاين" أن الجماعات المتمردة كانت تحصل على أسلحتها وذخائرها في السابق من الأسواق السوداء في الهند وتايلاند، إلا أنه في خضم الصراع المتصاعد خلال الآونة الأخيرة، لم تعد تلك الأسلحة والذخائر تكفي سوى 30% من احتياجاتها، ومن ثم اتجهت تلك الجماعات نحو تأسيس عدد من الورش داخل ميانمار تضم شباباً ناشئين يصنعون فيها احتياجاتها من الذخائر والأسلحة. وقد وصل عدد هذه الورش إلى ما يقرب من 88 ورشة على مستوى البلاد، وهو ما فاقم بدوره اضطراب الوضع الأمني داخل البلاد، وفق ما ذكر "هاين".4- تغير ميزان القوى لصالح المتمردين عقب هجوم 27 أكتوبر: شدد "هاين" على أن العملية التي شنتها قوات التمرد على نظام الانقلاب الحالي في 27 أكتوبر 2023 في ولاية شان الشمالية، تمخضت عنها تحولات جديدة في الصراع؛ فقد تعرض الجيش، خلال هذه العملية، لخسائر بشرية كبيرة وخسر أراضي كانت تحت سيطرته. وقد كشفت هذه العملية، وفقاً لـ"هاين"، عن 3 تحولات رئيسية، وهي توجُّه الجيش نحو تبني تكتيكات دفاعية لمنع زيادة الخسائر، بدلاً من التكتيكات الهجومية التي تبناها على طول خط الصراع، وثانيها تعزيز التعاون بين القوى المتمردة وزيادة التنسيق بينها بعد تحديد عدوها المشترك، وأخيراً تغير ميزان القوى لصالح القوى المتمردة؛ حيث لم يعد الجيش هو القوة الوحيدة المهيمنة في البلاد.وبحسب "هاين"، فإنه في السياق ذاته، تظهر أبعاد تراجع مكانة الجيش في فقدانه ما يزيد عن 35 ألف جندي، وانشقاق العديد من العسكريين، فضلاً عن استسلام البعض للمتمردين، خاصةً في الجزء الشمالي من البلاد. وطبقاً لـ"هاين"، فإنه فيما خسر الجيش عدداً من الأراضي التي كان يسيطر عليها، فعلى الرغم من تفوق الجيش عسكرياً، خاصة في سلاح الجو، لم يعد القوة المهيمنة؛ حيث أصبحت حركات التمرد تسيطر على أكثر من 50% من أراضي البلاد، منها 38 بلدة في جميع أنحاء البلاد وقطعة كبيرة من الأراضي في المناطق الريفية.5- انخراط قوى إقليمية في الصراع لتأمين مصالحها وحدودها: بحسب "هاين"، فإن تفاعل القوى الإقليمية الآسيوية، وعلى رأسها الصين والهند، مع الصراع الحالي في ميانمار، انعكس على ديناميات الصراع وزاد من تعقيده بشكل واضح، لافتاً إلى أن الصين تنخرط في الصراع داعمةً النظام الحاكم، من أجل تأمين مصالحها الاقتصادية الأمنية المتمثلة في الممر الاقتصادي وخط الغاز الطبيعي وحماية حدودها وعدم السماح للقوة المتمردة بإدارة شؤون البلاد وتعريض مصالح بكين للخطر.وطبقاً لـ"هاين"، تدعم الهند أيضاً النظام الحاكم بذريعة الحفاظ على أمنها؛ حيث تدعمه من خلال الذخائر والأسلحة، على الرغم من انتهاكاته المتعددة، وهو ما شدد "هاين" على خطورته، مشيراً إلى أنه سيطيل أمد الصراع؛ حيث تحاول كل دولة حماية مصالحها بالانخراط مع أي طرف تراه مناسباً دون رغبة حقيقية في حل الأزمة أو تسهيل التوصل إلى تسوية.6- عدم وجود دور للولايات المتحدة في الصراع الحالي في البلاد: أشار المتحدث الرئيسي إلى أن واشنطن تُعتبَر غائبة عن المشهد الحالي في ميانمار، لافتاً إلى أنها لا تتمتع بأي نفوذ داخل البلاد، وأرجع "هاين" السبب في ذلك إلى أنها لا تريد تصعيد التوترات مع الصين التي تنخرط بقوة في الصراع. ومن ناحية أخرى، فإن العقوبات الأمريكية المفروضة على الكيانات والأشخاص المرتبطة بالنظام الحالي غير كافية لتقليل مصادر دخله، وهو ما يؤكد تردد واشنطن في إلحاق أضرار بحلفائها مثل تايلاند والهند نتيجة العقوبات، وفق ما ذكره "هاين".اتجاهات متوقعة أكد المتحدث الرئيسي أن اتجاهات الصراع الحالي ستؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار وستكون لها ارتدادات إقليمية. ويمكن تلخيص تلك التداعيات في التالي:1- سقوط وشيك للنظام الحاكم لتعرضه لخسائر متعددة: رجح "هاين" أن النظام العسكري في ميانمار في طريقه نحو السقوط، وهو ما أرجعه إلى عوامل عدة؛ فقد خسر الجيش بعد 3 سنوات من القتال المستمر العديد من الأراضي والقوى البشرية، بالإضافة إلى فقدان الشعبية وصعوبة تجنيد المزيد من الأفراد، لافتاً إلى أن هذه العوامل جميعها تشير إلى سقوط وشيك للجيش، إلا أنه من المبكر التنبؤ بسقوط مفاجئ. وأوضح "هاينظ" أنه على الرغم من أن المؤسسة العسكرية تمكنت طوال 60 عاماً من احتكار موارد الدولة وسلطتها، فإنها الآن ليست في وضع يسمح لها بالعودة إلى وضعها السابق، لكنها لا زالت على استعداد للقتال حتى آخر لحظة للتمسك بالسلطة بدلاً من مراجعة سياساتها، على حد قوله.2- تنافس الجماعات المتمردة على الهيمنة وتقسيم الدولة: وفقاً لـ"هاين"، لا شك أن السقوط المحتمل للنظام الحالي في ميانمار سيُحدث فراغاً سياسياً وربما لن ينهي الصراع؛ لأن هناك عدداً كبيراً من الجماعات المتمردة التي تختلف أجنداتها ومصالحها اختلافاً كلياً؛ لذا من المرجح أن عدم التوافق السياسي بين الفاعلين الأساسيين في هذا الصراع سيؤدي إلى تنافس وصراعات على الهيمنة، وربما يطيل أمد الحرب الأهلية في البلاد، وفي أفضل الأحوال سيؤدي إلى تقسيم الدولة؛ وذلك من خلال محاولة كل مجموعة فرض هيمنتها على الأراضي التي تقع تحت سيطرتها والانفصال بالكامل عن الحكومة المركزية.3- تفاقم الانشقاقات في الجيش بسبب التجنيد الإجباري: بحسب "هاين"، فإنه في إطار محاولة الجيش تطبيق قانون التجنيد الإجباري لزيادة عدد قواته لتعزيز موقفه في إطار الصراع الدائر في البلاد، فإنه ثمة مخاطر تهدد الكيان العسكري الرئيسي في البلاد؛ حيث إن تجنيد الشباب الغاضبين من النظام إجبارياً ودفعهم للقتال ضد القوات المتمردة رغماً عنهم قد يعرض الجيش للخطر؛ حيث رجح "هاين" أن هؤلاء المجندين قد يوجهون أسلحتهم صوب الجيش بدلاً من حركات التمرد، وهو ما سيزيد موجة الانشقاقات التي شهدها الجيش على مدار السنوات الثلاث الماضية.4- تزايد النازحين واللاجئين وسط كارثة إنسانية محتملة: طبقاً لـ"هاين"، بدأت بالفعل تدفقات النازحين في البلاد نتيجة للصراع؛ حيث إنه ثمة ما يقرب من 2.6 مليون شخص نازح داخلياً بينما هرب أكثر من 1.35 مليون شخص خارج البلاد لاجئين. وأكد "هاين" أنه نظراً إلى التصعيد غير المسبوق في الصراع داخل ميانمار، فإن البلاد على شفا كارثة إنسانية غير مسبوقة، وهو ما يثير مخاوف الدول المجاورة، التي لا زالت تدعم النظام في ميانمار؛ لرؤيتها أنها بذلك تحاول الحفاظ على أمنها، غير مدركة أن النظام الحالي هو السبب الرئيسي في اشتعال الصراع وعدم الاستقرار في البلاد، بحسب "هاين". وشدد "هاين" على أن محاولات الجيش لفرض التجنيد الإجباري في البلاد، دفع عدداً كبيراً من الشباب للهروب إلى دول الجوار، ومن ثم فإن تزايد أعداد اللاجئين يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار الإقليمي.5- دعم خارجي متوقع للتخفيف من حدة الأزمة الإنسانية: اعتبر المتحدث الرئيسي أنه من الصعوبة بمكان أن تتدخل القوى الخارجية الرامية نحو إقرار السلام في الصراع الحالي؛ نظراً إلى تعقده وتعدد أبعاده، إلا أنه أشار إلى أنه في ظل تطور الأزمة الإنسانية وموجات النزوح واللجوء، تستطيع الدول الخارجية تقديم الدعم للتخفيف من الأزمة والمزيد من الإغاثة، بما فيها دول الخليج العربي، بحسب "هاين".ختاماً، أكد المتحدث الرئيسي أن الصراع في ميانمار تزداد حدته مع دخول أطراف جديدة من الداخل وتشكيل جماعات متمردة جديدة بعد الانقلاب، ومع انخراط دول خارجية في الصراع الحالي لحماية مصالحها، وهو ما يفاقم أزمة إنسانية في البلاد ترتد آثارها على باقي دول المنطقة، لافتاً إلى أن الأزمة مرشحة للتفاقم وسط إطالة أمد الصراع واحتمالية تحوله إلى حرب أهلية، لا سيما أن عدم التوافق السياسي بين الجماعات المتمردة والانهيار المحتمل للجيش، قد يُحدث فراغاً أمنياً، وهو ما قد يرجح تقسيم البلاد بين عدة حكومات منشقة عن الحكومة المركزية.

تداعيات الحرب الأهلية على الاستقرار في جنوب شرق آسيا (حلقة نقاشية)