عرض: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

أصدر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية IISS "تقرير التوازن العسكري لعام 2023″، في 15 فبراير 2023، الذي يرصد فيه أبرز سمات الحالة الأمنية والعسكرية في العالم، ويقدِّم بيانات مُحدَّثة عن المنظمات العسكرية ومخزونات المعدات وميزانيات الدفاع لـ 173 دولة، كما يُقيِّم التقرير التطورات الدفاعية العالمية المهمة، بما في ذلك التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، والدروس الناشئة من الصراع والتداعيات الأوسع على الأمن والاقتصاد العالمي. ومن خلال عرض رسوم بيانية كاملة، يستكشف التقرير سياسة الدفاع والمشتريات واقتصاديات الدفاع حسب كل منطقة في العالم.

خسائر فادحة

سلط التقرير الضوء على التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وخسائر جيشي البلدين من جرَّاء الحرب. ويتضح ذلك عبر ما يلي:

1– تعرض القوات البرية والجوية الروسية لخسائر كبيرة: عانت القوات المسلحة الروسية من خسائر كبيرة في الأفراد والمعدات نتيجة التدخل العسكري، على الرغم من زيادة أعداد الأفراد مقارنةً بالسنوات السابقة، كما عانت أساطيل الدبابات والمدفعية الروسية من استنزاف كبير. وتعرضت القوات الجوية الروسية لخسائر كبيرة في الحرب؛ إذ فقدت موسكو نحو 3.4% من مقاتلات الهجوم الأرضي في عام 2022.

2– تدمير جانب كبير من القدرات الجوية للجيش الأوكراني: على مستوى القوات الجوية، كانت خسائر أوكرانيا أكبر نسبياً من روسيا؛ حيث فقدت 28% من مقاتلاتها، بما في ذلك 44% من عدد مقاتلات "ميج–29" التي كانت أوكرانيا تمتلكها قبل الحرب.

تغيرات متفاوتة

أشار التقرير إلى أنه غالباً ما يكون التغيير في الميزان العسكري تدريجياً وبطيئاً؛ حيث إنه في العديد من الدول هناك عملية رسمية يتم من خلالها تقييم أولويات الأمن القومي، ويتم إنتاج السياسات الدفاعية أو تحديثها، وتُعِيد جهود إعادة الهيكلة تشكيل المؤسسات العسكرية، لكن بسبب الحرب الأوكرانية بشكل رئيسي وجد التقرير أن هناك تغيراً كبيراً في التوازن العسكري في 2023؛ إذ لجأت بعض المناطق إلى زيادة إنفاقها العسكري، مثل أوروبا وآسيا، في حين أن التخفيض طال مناطق أخرى بسبب ارتفاع التضخم والتداعيات الاقتصادية للحرب.

ويتضح تأثير حرب أوكرانيا على الإنفاق الدفاعي في العالم، بحسب ما ورد في التقرير، من خلال ما يلي:

1– حدوث زيادة كبيرة في حجم الإنفاق الدفاعي الأوروبي: تسببت الحرب الأوكرانية في إعادة العديد من دول أوروبا تقييم أولوياتها الدفاعية، وأعلنت 20 دولة عن زيادة الإنفاق الدفاعي بشكل فوري، أو تعزيز امتثالها لأهداف الإنفاق على المدى البعيد. وعلى سبيل المثال، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس عن تمويل بقيمة 100 مليار يورو (106 مليارات دولار أمريكي) للدفاع.

كما زاد الإنفاق الدفاعي في دول أوروبا الشرقية المجاورة لروسيا، وفي بولندا بشكل خاص؛ حيث قال وزير الدفاع البولندي إن ميزانية الدفاع يجب أن تزيد من 2% إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023. وجاءت كل من المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا ضمن قائمة أعلى عشر دول من حيث الإنفاق الدفاعي خلال عام 2022؛ حيث بلغت موازنة الدفاع بالمملكة المتحدة نحو 70 مليار دولار، وفي فرنسا نحو 54.4 مليار دولار، وفي ألمانيا نحو 53.4 مليار دولار.

2– صدارة أمريكية وصينية وروسية لميزانيات الدفاع: مثلت أمريكا الشمالية نحو 39.5% من الإنفاق الدفاعي العالمي، تليها منطقة آسيا بنحو 25.7%، ثم أوروبا بنحو 16.7%. وتظل الولايات المتحدة والصين من أكبر الدول على المستوى العالمي في الميزانيات الدفاعية والإنفاق العسكري خلال عام 2022؛ فقد جاءت الولايات المتحدة في المرتبة الأولى من حيث الإنفاق، بإجمالي إنفاق بلغ 766.6 مليار دولار، وبنحو 38.2% من إجمالي الإنفاق الدفاعي العالمي مقابل 754 مليار دولار لعام 2021.

كما تُواصِل الصين تنفيذ استراتيجيتها في تعزيز القوة العسكرية لتسجل أعلى زيادة عالمية في موازنات الدفاع بنحو %15.6، وتحتل المرتبة الثانية في موازنات الدفاع بنحو 242.4 مليار دولار. واحتلت روسيا المرتبة الثالثة في الإنفاق الدفاعي العالمي خلال عام 2022 بنحو 87.9 مليار دولار؛ حيث حققت ثاني أكبر زيادة في الإنفاق العسكري بعد الصين بنحو 13.3%.

3– تسبب التضخم في خفض الإنفاق الدفاعي في أقاليم عديدة: نما الإنفاق الدفاعي العالمي بالقيمة الاسمية في عامي 2021 و2022، لكن ارتفاع معدلات التضخم يعني انخفاض الإنفاق بالقيمة الحقيقية في كلا العامين؛ ففي السنوات الأخيرة، أدى التضخم المرتفع إلى تآكل الإنفاق الدفاعي بالقيمة الحقيقية في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وروسيا وأوراسيا، لكن هذا الاتجاه أصبح الآن أكثر انتشاراً.

4– تراجع الإنفاق الدفاعي بالشرق الأوسط مقارنةً بـ 2021: تحتل منطقة الشرق الأوسط مرتبة متقدمة في الإنفاق العسكري العالمي مقارنةً بالناتج المحلي الإجمالي؛ حيث تأتي سبع دول من المنطقة ضمن قائمة أكبر ميزانيات دفاعية نسبةً إلى الناتج المحلي الإجمالي، لكن بنسب أقل من عام 2021. وقد جاءت المملكة العربية السعودية وإيران ضمن قائمة أعلى عشر دول من حيث موازنات الدفاع خلال عام 2022؛ حيث بلغت موازنة الدفاع بالمملكة 45.6 مليار دولار، وفي إيران نحو 44 مليار دولار.

تطوير القدرات

أشار التقرير إلى أن الحرب الأوكرانية والتنافس بين القوى الكبرى دفعا الدول إلى تحديث قواتها المسلحة وتطوير قدراتها الدفاعية، ومن مؤشرات ذلك ما يلي:

1– استمرار الجهود الرامية لتطوير جيش التحرير الشعبي: بحسب التقرير، تعمل زيادة الإنفاق العسكري للصين على تمكين التحديث المستمر لجيش التحرير الشعبي، وعلى رأس ذلك إطلاق حاملة طائرات جديدة، كما تواصل بكين إطلاق المزيد من الفرقاطات والمدمرات. ووفقاً لوزارة الدفاع الأمريكية، حسَّنت بكين أيضاً قدراتها الاستراتيجية من خلال إدخال صواريخ باليستية جديدة وأطول مدى تُطلَق من الغواصات مثل جي إل– 3.

وبحسب وزارة الدفاع الأمريكية، من المحتمل أن تكون البحرية الصينية قد بدأت دوريات الردع شبه المستمرة في البحر؛ ما يمنحها خيارات لتعزيز قدرتها على الردع. كما أن هناك – وفقاً للتقرير – تغييرات على الردع النووي الصيني، وتزايد لمخزون القوات الجوية الصينية؛ فهناك المزيد من طائرات النقل Y–20 وناقلات YY–20A، والمزيد من الطائرات المقاتلة .J–20A

2– تبنِّي حكومة بولندا برنامجاً سريعاً لتحديث قواتها البرية: عزز التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا مخاوف وارسو الأمنية، بشكل دفعها نحو تبني برنامج سريع لتحديث قواتها البرية بمعدات جديدة، بما في ذلك المدرعات الكورية الجنوبية والأمريكية. ويتوقع التقرير أنه على مدى العقد القادم على الأقل، ستكون روسيا مركزية بالنسبة إلى المخاوف الأمنية الأوروبية، وستكون مهمة في دفع تطورات السياسة الدفاعية وخطط الاستحواذ.

3– توجه حكومة اليابان لتعزيز قدرات الجيش الدفاعية: أثرت الحرب في أوكرانيا والتطورات المتعلقة بتايوان على سياسة الدفاع لدى الحكومة اليابانية؛ إذ أصدرت الحكومة نسخاً منقحة من استراتيجية الأمن القومي، وإرشادات برنامج الدفاع الوطني، وبرنامج الدفاع المتوسط المدى في نهاية عام 2022، مع إعادة صياغة الأخيرين على أنهما استراتيجية الدفاع الوطني وبرنامج تعزيز الدفاع.

وأشار الكتاب الأبيض للدفاع السنوي إلى وجود بيئة أمنية "متزايدة الخطورة"، وأن اليابان بحاجة إلى تعزيز قدراتها الدفاعية "بشكل كبير". وبجانب مجموعة من المشتريات الدفاعية المهمة، تم الإعلان في ديسمبر الماضي عن أن اليابان ستنضم إلى إيطاليا والمملكة المتحدة في برنامج لتطوير طائرة مقاتلة من الجيل السادس. وقد رفعت اليابان موازنة الدفاع الخاصة بها لتسجل نحو 48.1 مليار دولار 2022، محققةً ثالث أعلى زيادة بالعالم بنحو 11.7% مقارنةً بعام 2021.

4– اتجاه كوريا الجنوبية لتطوير قدراتها الدفاعية المستقلة: بحلول أواخر أكتوبر 2022، أطلقت كوريا الشمالية صواريخ باليستية أكثر من أي عام سابق، وتزايدت حينها التكهنات بأن كوريا الشمالية تستعد لتجربتها النووية السابعة. وفي إطار ذلك، ركزت الإدارة الكورية الجنوبية الجديدة على تطوير القدرات العسكرية الوطنية المستقلة، وتعزيز التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، كما سمح رفع "الخطوط الإرشادية الصاروخية" التي فرضتها الولايات المتحدة في عام 2021 لسيول تسريع جهودها الرامية إلى تطوير الصواريخ الباليستية برؤوس حربية، التي يمكن أن تساعد في توفير قدرة قوية على الضربات الدقيقة.

دروس مستفادة

استعرض التقرير العديد من الدروس العسكرية المستفادة من الحرب الأوكرانية، ومن أبرزها ما يلي:

1– إبراز أهمية "دبلوماسية الاستخبارات" الحكومية والخاصة: قد تكتسب استراتيجيات "دبلوماسية الاستخبارات" المزيد من الزخم في المستقبل، خاصةً أن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا كشف عن اختراق المخابرات الأمريكية دوائر صنع القرار الروسية، ودقة تقييمها في هذه الحالة. علاوةً على ذلك، كانت هناك ثروة من المعلومات المفتوحة المصدر حول الحرب في أوكرانيا من إنتاج محللين مدنيين وشركات خاصة، مستفيدين من أنظمة الأقمار الصناعية المتاحة تجارياً لتقديم تقييمات قائمة على الصور كانت حتى وقت قريب حكراً على الحكومات.

2– قدرة الطرف الأضعف في الحرب على التكيف والصمود: تكيفت القوات الروسية والأوكرانية أثناء القتال بدرجات متفاوتة من النجاح؛ إذ إنه بعد فشل روسيا في محاولتها الأولية للاستيلاء على أوكرانيا، ركزت موسكو هجماتها على الشرق. وأدى فشل روسيا في السيطرة على الجو إلى اللجوء إلى استخدام أسلحة المواجهة بشكل أكبر، وتدعيمها بمسيرات وذخائر هجوم مباشر مصدرها إيران. ومن جانبها، قامت أوكرانيا بإيجاد واستخدام ذخائر الهجوم المباشر سريعاً، وطورت القدرة على دمج المعلومات من المُسيرات الصغيرة لتحسين قدرة قواتها المدفعية.

3– ظهور أهمية تحقيق التوازن بين كم الأسلحة ونوعيتها: كان هناك استخدام متزايد للأسلحة الموجهة وذخيرة المدفعية، واستنزاف شديد للدروع في الحرب الأوكرانية. ويشير هذا الأمر إلى أن أي قدرة عسكرية مستقبلية تعتمد حصرياً على الأسلحة الدقيقة، لن تكون مكلفة على الأرجح فحسب، بل ستحتاج أيضاً إلى تخطيط دقيق للإمدادات. وقد يتطلب ذلك بقاء بعض خطوط الإنتاج مفتوحة، وأن تعمل الحكومات والصناعات معاً على آليات الشراء المناسبة، مع تحقيق التوازن بين كم الأسلحة ونوعيتها.

وقد كشفت الحرب الأوكرانية عن انخفاض كبير في مخزون الدبابات الروسية الرئيسية بسبب الحرب؛ فهناك انخفاض بنحو يقارب 50 % من أسطول دبابات القتال الرئيسية T–72B3 وT–72B3M، كما كشفت عن سحب كبير من مخزون الأسلحة الغربية لدعم أوكرانيا، وهو ما يستدعي ضرورة زيادة الإنتاج لتعويض هذه الخسائر.

4– الكشف عن أهمية اتباع نهج الأسلحة المشتركة بالحرب: شدد التقرير على أن حرب أوكرانيا أظهرت أهمية اتباع نهج الأسلحة المشتركة في الحرب، بما في ذلك دمج قدرات المسيرات مع الوحدات البرية، وأيضاً كيف يمكن للمراقبة المنتشرة أن تشكل خطراً على قوات المناورة. علاوة على ذلك، سلطت الحرب الضوء على أهمية المدفعية الدقيقة البعيدة المدى، وكيف يمكن أن يؤدي تركيب أنظمة الحماية النشطة للمركبات المدرعة إلى تقليل التهديد من الأنظمة المضادة للدروع.

وتشير الحرب الأوكرانية أيضاً إلى أن كلًّا من الذخيرة غير الموجهة والذخيرة الموجهة لها أدوار متكاملة. وقد ظهرت العديد من الاتجاهات خلال عام 2023 التي تكشف عن التطور في التكنولوجيا العسكرية، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي بنسبة 20%، تليها المعدات الدفاعية المتطورة بنسبة 17%، والروبوتات الذاتية التشغيل بنسبة 14%.

5– إظهار أهمية الدفاع الجوي الأرضي المراقبة والاستطلاع: أثبت الدفاع الجوي الأرضي فاعليته في الحد من حرية العمل على الأرض؛ إذ تعرضت روسيا للخسائر بسبب افتقارها إلى الذخائر الموجهة بدقة قصيرة ومتوسطة المدى، التي يتم إطلاقها من الجو، كما تسلط الحرب الضوء على أهمية المراقبة والاستطلاع، بجانب القدرة على توزيع المعلومات بسرعة من المستشعِر إلى مطلِق النار.

6– توضيح أهمية ممرات الاتصال البحرية لفرض الحصار: أشار التقرير إلى أنه في المجال البحري، تعرضت البحرية الروسية للخسائر بسبب التكتيكات الأوكرانية، لكن رغم انتكاساتها، كانت روسيا في نهاية عام 2022 لا تزال تفرض حصاراً بعيداً على تجارة أوكرانيا. وهذا يؤكد – بحسب التقرير – الترابط العالمي في الطاقة والموارد، وأهمية تدفقات التجارة البحرية وممرات الاتصال البحرية، فضلاً عن إمكانية الحصار.

وختاماً، أشار التقرير إلى أن التداعيات الأوسع للحرب لم تتوقف على الأمن وميزانيات الدفاع، بل شملت الاقتصاد العالمي؛ إذ أدى ارتفاع معدلات التضخم، والارتفاعات الحادة في أسعار السلع الأساسية، وأزمات سلاسل التوريد، وتزايد عدم اليقين الاقتصادي الناتج عن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، إلى تراجع الانتعاش الاقتصادي الذي شهدته بعض الدول بعد الجائحة. ومن ناحية أخرى، فإنه رغم زيادة الإنفاق الدفاعي في أوروبا، يعتقد التقرير أن البيئة الاقتصادية العالمية الصعبة التي ستستمر على المدى القصير، ستفرض قيوداً على الإنفاق العام نتيجة ارتفاع تكلفة تمويل الديون في ضوء زيادة أسعار الفائدة.

المصدر:

The Military Balance 2023, The International Institute for Strategic Studies (IISS), Accessible at: https://www.iiss.org/publications/the–military–balance

الاتجاهات الرئيسية للإنفاق الدفاعي والتسلح في أقاليم العالم خلال عام 2023