ميرال حسين

في إطار سياسة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" نحو إعادة تشكيل الوجود الدبلوماسي الأمريكي على مستوى العالم، وخفض الإنفاق الفيدرالي؛ أعدَّت الإدارة الأمريكية خطة لإغلاق العديد من البعثات الدبلوماسية الأمريكية حول العالم، وخاصةً في أوروبا الغربية، وتقليص القوى العاملة في جميع أنحاء وزارة الخارجية. في المقابل، أثارت هذه الخطة مخاوف وقلق الكثير؛ لما فيها من تنازل عن الدور التاريخي للولايات المتحدة بإحدى أبرز أدوات القوة الناعمة، ومن ثم السماح لخصوم واشنطن بتوسيع حضورهم على الساحة الدولية.أهداف الخطةتتضمن خطة إدارة ترامب لإغلاق ما يقرب من اثنتي عشرة بعثة دبلوماسية، وتقليص القوى العاملة على مستوى العالم، عدة أهداف رئيسية، أبرزها ما يلي:1– خفض التكاليف المالية: من الأهداف الأساسية لخطة إغلاق البعثات الدبلوماسية هو خفض الإنفاق الحكومي؛ حيث تهدف إدارة "ترامب" إلى تقليص حجم البيروقراطية الفيدرالية، بما في ذلك البعثة الدبلوماسية الأمريكية في الخارج؛ من أجل توفير أموال دافعي الضرائب. وهذا يتناسب مع أجندة "أمريكا أولاً" الأوسع نطاقاً. يُنظر إلى إغلاق القنصليات الأصغر حجماً وتقليص عدد الموظفين الدبلوماسيين كجزء من هذا الجهد الأكبر لخفض التكاليف.2– استهداف إنشاء جهاز دبلوماسي أكثر كفاءةً: تهدف الخطة إلى تبسيط العمليات الدبلوماسية الأمريكية وإعادة تنظيمها مع أولويات السياسة الخارجية للإدارة؛ لذلك تستند الخطة إلى الاعتقاد بأن العديد من البعثات الدبلوماسية الأصغر حجماً، وخاصةً في أوروبا الغربية، لا تخدم المصالح الوطنية المباشرة، وقد يكون إغلاقها أو إدماجها أكثر فاعليةً من حيث التكلفة. ومن خلال التركيز على تقليص المناصب غير الضرورية أو الزائدة عن الحاجة، فإن الهدف هو إنشاء جهاز دبلوماسي أكثر كفاءةً يؤكد العلاقات الأكثر أهميةً، ويركز على المناطق الحرجة ذات الأولوية العالية.والجدير بالذكر أن وزارة الخارجية الأمريكية تعمل في أكثر من 270 بعثة دبلوماسية حول العالم بإجمالي قوة عاملة يبلغ عددها نحو 70 ألف موظف، وفقاً لموقعها على الإنترنت. ويعمل نحو 45 ألف موظف محلياً، و13 ألف موظف في الخدمة الخارجية، و11 ألف موظف في الخدمة المدنية.3– مواءمة السياسات مع رؤية "ترامب": بالإضافة إلى ذلك، فإن تقليص القوى العاملة – بما يشمل الموظفين المحليين الذين يشكلون جزءاً كبيراً من عمليات وزارة الخارجية – هو محاولة لإعادة تنظيم الجهود الدبلوماسية مع رؤية الرئيس "ترامب" للحد من مشاركة الولايات المتحدة في المساعدات الخارجية والمنظمات الدولية، مع تعظيم نفوذ الولايات المتحدة في المجالات التي تعتبر حيوية للأمن القومي، مثل التجارة ومكافحة الإرهاب.4– إعادة تنظيم مكاتب وزارة الخارجية: إن توحيد وإدماج المكاتب مثل التي تركز على حقوق الإنسان والعدالة الجنائية العالمية والعمل الإنساني، يشكل جزءاً من الجهود الرامية إلى القضاء على التكرار ومواءمة وزارة الخارجية مع أهداف سياسة الرئيس. والهدف هو إنشاء بيروقراطية أكثر كفاءةً تخدم أجندة الرئيس بشكل أفضل.5– تقليل الأعباء الأمريكية في الخارج: لطالما أعربت إدارة "ترامب" عن رغبتها في الحد من نفوذ الولايات المتحدة في الشؤون الخارجية، وخاصةً في المناطق التي تشعر فيها أن التدخل الأمريكي إما غير فعال أو غير ضروري؛ لذلك فإنه من خلال تقليص البصمة الدبلوماسية الأمريكية، تعتزم الإدارة تقليص دور الولايات المتحدة في الحوكمة العالمية، وتحويل مسؤولية معالجة التحديات الدولية إلى دول أخرى أو منظمات دولية. وهذا يتماشى مع وجهة نظر الإدارة القائلة بأن الولايات المتحدة لا ينبغي لها أن تتحمل العبء الأكبر لحل القضايا العالمية، وخاصةً إذا كانت هذه الإجراءات لا تفيد المواطنين الأمريكيين بشكل مباشر.6– القضاء على عناصر "الدولة العميقة" البيروقراطية: يهدف هذا المخطط أيضاً إلى إعادة هيكلة وزارة الخارجية الأمريكية وغيرها من منظمات الخدمة الخارجية بطريقة تقضي على ما سماها الرئيس "ترامب" "الدولة العميقة"، وهي العناصر البيروقراطية الراسخة التي يراها مقاومةً لأجندته. ومن خلال تخفيض عدد الموظفين والتغييرات الهيكلية، بما تشمله من إدماج مكاتب معينة، تسعى الإدارة إلى جعل الوزارة أكثر انسجاماً مع أولوياتها الخاصة والتخلص من الموظفين الذين قد لا يدعمون هذه الأهداف بشكل كامل.7– معالجة الهدر والاحتيال المتصور في الحكومة: إن السبب الرئيسي وراء هذه الخطة هو معالجة المخاوف بشأن الهدر والاحتيال وانعدام الكفاءة في عمليات الحكومة الأمريكية في الخارج؛ إذ يزعم الرئيس "ترامب" ومسؤولون آخرون في الإدارة أن أموال دافعي الضرائب الأمريكيين قد تم إنفاقها بشكل غير فعَّال على المساعدات الخارجية والبعثات الدبلوماسية، وغالباً مع عائد ضئيل على الاستثمار للولايات المتحدة؛ لذلك، يتم تقديم عمليات الإغلاق والتخفيضات كوسيلة للقضاء على ما يُنظر إليه على أنه نظام متضخم وغير فعال.8– التركيز على المخاوف المحلية: إذ يشير إدماج المكاتب الخبيرة المسؤولة عن القضايا العالمية، مثل حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية، إلى إعطاء الأولوية للمخاوف المحلية على القضايا العالمية. وقد يؤدي هذا إلى تقليص دور الولايات المتحدة في تعزيز المعايير الدولية أو معالجة التحديات العالمية، مثل تغير المناخ، أو الاتجار بالبشر، أو أزمات اللاجئين.انعكاساتها المحتملةلا شك أن لخطة إدارة "ترامب" لإغلاق العديد من البعثات الدبلوماسية الأمريكية في الخارج آثاراً كبيرةً على النفوذ الأمريكي العالمي والعلاقات الدولية؛ وذلك على النحو التالي:1– تهديد النفوذ العالمي والقوة الناعمة الأمريكية: إن إغلاق البعثات وتقليص عدد الموظفين الدبلوماسيين من شأنه أن يؤثر بشكل كبير على قدرة الولايات المتحدة على نشر القوة الناعمة عبر المناطق؛ فهذه المناصب الدبلوماسية ضرورية لبناء العلاقات مع الحكومات والمواطنين الأجانب، وتقديم الخدمات القنصلية، وجمع المعلومات الاستخباراتية. ومن ثم، فإن من المرجح أن يؤدي الإغلاق إلى تقليص قدرة الولايات المتحدة على التأثير على المحادثات العالمية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي المجالات التي دافعت عنها الولايات المتحدة تقليدياً.2– تعزيز فرص القوى المنافِسة للولايات المتحدة: يمكن أن يؤدي خفض الموارد الدبلوماسية إلى خلق فرصة للخصوم، مثل الصين وروسيا، لتوسيع نفوذهم في هذه المناطق؛ حيث يعني عددٌ أقل من الممثلين الأمريكيين مشاركةً أقل على الأرض لموازنة مبادرات القوى الأخرى. تمتلك الولايات المتحدة حالياً عدداً أقل من المناصب الدبلوماسية مقارنةً بالصين، لكن بصمة الصين مستمرة في النمو، وخاصةً في مناطق مثل أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. ومن ثم، فإن الولايات المتحدة، من خلال تقليص الوجود الدبلوماسي الأمريكي، وخاصةً في المناطق التي تنشط فيها الصين بشكل متزايد، تخاطر بفقدان قدرتها على موازنة نفوذ الصين، وخاصةً في المنظمات الدولية والحوكمة العالمية.3– تقلص قدرات الاستخبارات والأمن القومي: إذ تعتمد أجهزة الاستخبارات الأمريكية بشكل كبير على البعثات الدبلوماسية لجمع المعلومات، وخاصةً في المناطق التي تكون فيها شبكات الحكومة الرسمية محدودة. على سبيل المثال، تستخدم وكالة الاستخبارات المركزية القنصليات والسفارات كغطاء لعمليات الاستخبارات. ويعني تقليص البعثات الدبلوماسية تقليص الأماكن التي يمكن لضباط الاستخبارات الأمريكية العمل فيها؛ ما يحد من قدرتهم على مراقبة التطورات العالمية، من الإرهاب إلى عدم الاستقرار الاقتصادي. وقد يكون لهذا آثار خطيرة على الأمن القومي؛ لأن من شأنه أن يجعل من الصعب الحفاظ على الرقابة في المناطق الحساسة سياسياً أو المتقلبة.4– انكماش المساعدات الخارجية الأمريكية ووجودها الإنساني العالمي: إذ تلعب البعثات، مثل تلك الموجودة في "غازي عنتاب"، في تركيا، التي تساعد في تنسيق الدعم الأمريكي للاجئين من سوريا، دوراً أساسياً في الجهود الإنسانية الأمريكية. وقد يؤدي إغلاق مثل هذه المواقع إلى إعاقة قدرة الولايات المتحدة على تقديم المساعدات والدعم في مناطق الصراع؛ حيث غالباً ما يكون التدخل الأمريكي قوةً استقراراً. وقد يؤدي تقليص الجهود الإنسانية والتنموية إلى تنفير الحلفاء والشركاء؛ ما يضعف بشكل أكبر الزعامة العالمية للولايات المتحدة في قضايا مثل الصحة العالمية وحقوق الإنسان وحل النزاعات.5– تزايد حدة عدم الاستقرار داخل وزارة الخارجية الأمريكية: أدت خطة إغلاق البعثات الدبلوماسية وتسريح الموظفين إلى مقاومة كبيرة داخل وزارة الخارجية والحكومة الأمريكية ككل؛ حيث أعرب الدبلوماسيون عن مخاوفهم من أن هذه التخفيضات قد تقوض معنويات الوزارة وقدرتها؛ ما يؤدي إلى هجرة الأدمغة المحتملة مع استقالة أو تقاعد الدبلوماسيين المحترفين الكبار. تشهد وزارة الخارجية بالفعل معدلاً مرتفعاً من الاستقالات، وفقدان المعرفة المؤسسية، بجانب أن تجميد التوظيف المستمر، قد يجعل الوزارة غير مجهزة للتعامل مع التعقيد المتزايد للدبلوماسية العالمية.6– تنامي التحديات التشغيلية واللوجستية أمام المهام الخارجية الأمريكية: رغم أن من أهداف خطة "ترامب" تبسيط الإجراءات البيروقراطية، فإن إدماج الخدمات القنصلية أو تحويل المهام إلى مراكز إقليمية قد يؤدي إلى عدم كفاءة تشغيلية وتحديات لوجستية. على سبيل المثال، قد يؤدي إغلاق القنصليات الصغيرة في مدن مثل فلورنسا أو ستراسبورج إلى إعاقة قدرة المواطنين الأمريكين على الوصول إلى الخدمات القنصلية، وتأخير معالجة التأشيرات. كذلك قد يؤدي خفض عدد الموظفين الدبلوماسيين أيضاً إلى استجابة أبطأ لحالات الطوارئ في الخارج، مثل الكوارث الطبيعية.وإجمالاً لما سبق، فإن خطة "ترامب" لإغلاق البعثات الدبلوماسية وتقليص القوى العاملة هي خطوة جريئة تتماشى مع أجندة ترامب "أمريكا أولاً"، التي تهدف إلى خفض التكاليف وإعادة تركيز الجهود الدبلوماسية الأمريكية على المصالح الوطنية. ومع ذلك تعكس هذه الخطة التحول نحو سياسة خارجية أمريكية أكثر تركيزاً على الداخل، والتخلي عن مكانتها كزعيمة عالمية؛ ما قد يخلق فجوات في النفوذ الأمريكي، فيسمح لقوى أخرى مثل الصين وروسيا بملء الفراغ في المناطق الحرجة. وقد تؤدي هذه الخطة أيضاً إلى إضعاف قدرة الولايات المتحدة على الدعوة إلى حقوق الإنسان والديمقراطية والقضايا الإنسانية على مستوى العالم. وإذا استمر هذا الاتجاه، فقد يشهد المستقبل ولايات متحدة أكثر عزلةً، مع عواقب بعيدة المدى على علاقاتها الدولية ومصداقيتها ونفوذها.

تداعيات خطة ترامب لإغلاق بعثات دبلوماسية أمريكية حول العالم