منى مصطفى محمد

على الرغم من تركيز الاهتمام العالمي بشكل كبير على تهديدات الإرهاب المتصاعدة في أفريقيا، إلا أن التهديد الإرهابي في آسيا يظل كامناً بصورة خطيرة، حيث يشهد تمدداً تدريجياً لأسباب هيكلية ترتبط بطبيعة تجذر الإرهاب بعمق في القارة (Deep Rooted) كونها معقل تنظيم القاعدة الأساسي، والانقسامات العميقة داخل الدول الآسيوية، بالإضافة إلى الأزمات التي تعصف بالدول القومية في المنطقة. إن هذا التمدد لا ينبع فقط من تصاعد نشاط الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، بل يعكس أيضاً هشاشة البنية السياسية والاجتماعية (Political and Social Fragility) في العديد من دول آسيا، حيث تستغل التنظيمات الإرهابية الانقسامات الطائفية والعرقية، وتفاقم التوترات السياسية كسياقات مواتية لتأسيس حواضن آمنة دائمة (Safe Havens) للإرهاب.حالة "الإرهاب الآسيوي"تشير الأحداث الإرهابية التي وقعت في آسيا خلال عام 2024 إلى مجموعة من الاتجاهات المهمة التي تعكس تطور النشاط الإرهابي في المنطقة. يمكن تقسيم هذه الاتجاهات إلى محاور رئيسية تشمل توسع خريطة العمليات، وتصاعد الهجمات المرتبطة بالتوترات السياسية، وتزايد نشاط التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود.1- توسع خريطة العمليات والأهداف: تسعى الجماعات الإرهابية إلى توسيع نطاق عملياتها خارج المناطق التقليدية لنشاطها. هذا التوسع يتجلى في هجمات مثل تلك التي نفذها تنظيم داعش - ولاية خراسان في مناطق جديدة داخل روسيا. على سبيل المثال، الهجوم في مدينة كراسنوجورسك بروسيا في 22 مارس 2024، والذي تضمن إطلاق نار وتفجيرات في قاعة كروكوس سيتي، يعكس قدرة التنظيم على الوصول إلى مناطق كانت تعتبر خارج نطاق نفوذه التقليدي. بالإضافة إلى ذلك، شهدت مناطق مثل ميناء جوادر في باكستان هجمات من قبل جماعات مثل "لواء ماجد" في 20 مارس 2024، مما يشير إلى استراتيجية أوسع للجماعات الإرهابية تستهدف البنية التحتية الحيوية والمواقع ذات الأهمية الاقتصادية.2- تصاعد هجمات الإرهاب المحلي: تظهر العمليات الإرهابية المرتبطة بالتوترات السياسية كاتجاه رئيسي آخر في 2024، حيث تستغل الجماعات الإرهابية المناخ السياسي المضطرب لتحقيق أهدافها. حادثة محاولة اغتيال زعيم المعارضة لي جاي ميونغ في كوريا الجنوبية في 2 يناير 2024 هي مثال واضح على ذلك، حيث تم استهداف شخصية سياسية بارزة خلال فترة حساسة قبل الانتخابات التشريعية. هذا النوع من الهجمات يهدف إلى زعزعة الاستقرار السياسي وزيادة التوترات الاجتماعية.3- تزايد نشاط التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود: شهد عام 2024 تصاعداً ملحوظاً في نشاط التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود مثل تنظيم داعش - ولاية خراسان. الهجمات التي نفذها التنظيم في إيران وأفغانستان، وكذلك روسيا، تعكس قدرة التنظيمات الإرهابية على التحرك عبر الحدود واستهداف مناطق مختلفة. على سبيل المثال، يعكس تفجير بنك "نيو كابول" في قندهار، أفغانستان، في 21 مارس 2024، والهجمات الانتحارية في كرمان بإيران في 3 يناير 2024، استراتيجية التنظيم في توسيع نطاق عملياته لاستهداف دول متعددة بصورة متزامنة عبر خلايا لا مركزية تتحرك دون التقيد بتوجيهات قيادة التنظيم.4- استهداف المصالح الأجنبية والبنية التحتية الحيوية: تزايد استهداف الجماعات الإرهابية للمصالح الأجنبية والبنية التحتية الحيوية في آسيا، والمثال على ذلك الهجوم على الحافلة التي تقل مواطنين صينيين في شانجلا، باكستان، في 26 مارس 2024، هو مثال على استهداف المصالح الأجنبية ضمن سياق التوترات الإقليمية، حيث تشير هذه الهجمات إلى أن الجماعات الإرهابية تدرك الأهمية الاستراتيجية لاستهداف المشاريع والبنية التحتية التي لها تأثير دولي.5- تصاعد الهجمات المنسقة والمعقدة: تشير الهجمات المنسقة التي شهدتها داغستان بروسيا في 23 يونيو 2024، والتي استهدفت مساجد يهودية وكنائس أرثوذكسية شرقية، إلى اتجاه متزايد نحو تنفيذ عمليات إرهابية معقدة ومخطط لها بعناية. هذا النوع من الهجمات يعكس قدرة التنظيمات الإرهابية على تنفيذ عمليات متعددة في وقت واحد، مما يزيد من التحدي الأمني للدول المستهدفة.لماذا قارة آسيا؟يمكن فهم تصاعد التهديدات الإرهابية في آسيا بعدة عوامل هيكلية تسهم في تغذية الإرهاب في القارة وتعوق محاولات السيطرة عليه أو تفكيك شبكاته، حيث تتنوع هذه العوامل ما بين الحالة الجيوسياسية المضطربة للقارة والصراعات الداخلية المنتشرة في العديد من دولها والانقسامات الاجتماعية والحالة الاقتصادية التي تسمح بتفشي الإرهاب واستيطانه بهذه الدول.1- التعقيدات الجيوسياسية للتفاعلات عبر الإقليم: تشمل التعقيدات الجيوسياسية التي تسهم في تفشي الإرهاب واستيطانه بها، النزاعات الحدودية والطائفية بين الدول الآسيوية، مثل النزاع بين الهند وباكستان حول كشمير، والصراعات الحدودية بين باكستان وأفغانستان والأقليات العابرة للحدود في إقليم بلوشستان الممتد عبر حدود باكستان وأفغانستان وإيران. تخلق هذه النزاعات ظروفاً مواتية لنمو الجماعات المتطرفة، حيث تعتبر هذه الجماعات نفسها مدافعة عن هوية أو قضية معينة ضد "الآخر".ويمثل العامل الخارجي محدداً مهماً لنشاط التنظيمات الإرهابية. ففي أفغانستان، أدى الانسحاب الأمريكي وسيطرة حركة طالبان على الحكم إلى توفير ملاذ آمن للقاعدة وغيرها من الجماعات الإرهابية، كما أن الحرب الأمريكية على أفغانستان أسهمت في استدامة وجود التنظيمات الإرهابية في أفغانستان كونها أدت لخلق تحالف بين حركة طالبان وتنظيم القاعدة لمواجهة الوجود العسكري الأمريكي مما أسهم في تغلغل الإرهاب في بنية المجتمعات المحلية.2- الحرمان الاجتماعي واختلال التوازن: تلعب العوامل الاقتصادية والاجتماعية دوراً محورياً في تعزيز بيئة الإرهاب في آسيا؛ حيث تسهم أزمات الفقر، البطالة، والتهميش الاجتماعي، في زيادة الاستقطاب وتجنيد الشباب في صفوف الجماعات المتطرفة. ويضطلع الحرمان الاجتماعي (Social Deprivation) بدور في تأجيج الغضب والإحباط مما يدفع للانضمام للجماعات المتطرفة كوسيلة للتعبير عن الاستياء في ظل انتشار الفقر والبطالة.كما يؤدي اختلال التوزيع للمكاسب في المجتمع وعدم المساواة والتهميش إلى الشعور بالظلم والقابلية للتجنيد من جانب الجماعات الإرهابية خاصةً بين صفوف الأقليات؛ حيث تسعى جماعة أبو سياف في الفلبين، وجماعة جماعة أنصار الدولة في إندونيسيا، لاستغلال الاضطرابات السياسية والاجتماعية في المنطقة لتوسيع نفوذها وشن هجمات ضد المصالح الحكومية والأجنبية.3- تفاقم أزمات الهوية الوطنية: تؤدي أزمات الهوية الوطنية (National Identity) إلى استغلال الجماعات المتطرفة احتياج الأفراد للشعور بالانتماء لتعزيز الشعور بالتفوق أو المظلومية، مما يسهل عملية التجنيد. وتستغل داعش والقاعدة والخلايا التابعة لهما الهوية الدينية لدفع الأفراد للانضمام لهم لمحاربة "الآخر" بسبب الشعور بالاضطهاد الديني. حيث تقدم الجماعات المتطرفة نفسها كمدافعة عن الدين ضد "الأعداء"، مما يسهل استقطاب الأفراد الذين يشعرون بأن هويتهم الدينية مهددة.4- استغلال الشبكات الاجتماعية: تستغل الجماعات الإرهابية الشبكات الاجتماعية وعلاقات الثقة والقرابة (Social Networks) الممتدة بين المقيمين في الأقاليم الطرفية (Periphery Regions) خارج نطاق سيطرة الدول في بعض الدول الآسيوية لاستقطاب الأفراد والجماعات وتأسيس حواضن آمنة دائمة لوجودها في هذه المناطق التي تتحول تدريجياً إلى معاقل ثابتة لنشاط التنظيمات الإرهابية.5- توظيف الابتكار التكنولوجي لنشر الأفكار والتواصل: تُعد التنظيمات الإرهابية في آسيا من أكثر الفاعلين المسلحين من غير الدول استفادةً من الابتكار التكنولوجي (Technological Innovation) بدايةً من استغلال تطبيقات الاتصالات المشفرة البعيدة عن الرقابة الحكومية مثل تليجرام، مروراً بتوظيف الطائرات بدون طيار (Drones) في الاستطلاع والمراقبة وتنفيذ الهجمات والمتفجرات بدائية الصنع وانتهاءً بمنصات التجنيد وشبكات التواصل لنشر الأيديولوجيا وتجنيد الأعضاء. تؤدي هذه العوامل إلى خلق ساحات جديدة للحرب ضد الإرهاب والاحتياج لتكتيكات مغايرة نتيجةً لتمكن الجماعات الإرهابية من توجيه ضربات مدمرة بموارد محدودة.الاتجاهات المستقبلية مع استمرار تصاعد العمليات الإرهابية في آسيا، يبرز سؤال محوري حول مستقبل هذه التهديدات وكيفية تطورها في السنوات المقبلة. ويتوقع في هذا الإطار أن تتطور قدرات التنظيمات الإرهابية في استغلال الاتساع الشاسع للقارة الآسيوية في توسيع نطاق عملياتها وتطوير تكتيكاتها في الإفلات من السلطات الأمنية. وتتضمن الاتجاهات المحتملة لأنشطة التنظيمات الإرهابية التالي:1- زيادة الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة: يتوقع أن تلجأ الجماعات الإرهابية بشكل متزايد إلى استغلال التكنولوجيا المتقدمة، مثل الطائرات بدون طيار (Drones)، الهجمات السيبرانية (Cyber Attacks)، وتشفير الاتصالات (Encrypted Communications)، لتنفيذ هجمات معقدة وصعبة الكشف. هذه الأدوات يمكن أن تمنحهم القدرة على تنفيذ هجمات أكثر دقة وفاعلية، مع تقليل خطر الكشف والاعتقال.2- تزايد هجمات الذئاب المنفردة: بسبب زيادة الضغوط على التنظيمات الكبيرة قد نشهد ارتفاعاً في الهجمات التي ينفذها أفراد مستقلون (Lone Wolf Terrorism) أو خلايا صغيرة يصعب تتبعها، حيث يتم الاعتماد على الأفراد المتطرفين الذين يستلهمون أيديولوجياتهم من الدعاية الإلكترونية، ويعملون بشكل مستقل دون اتصال مباشر مع التنظيمات الكبرى.3- توسع رقعة العمليات الإرهابية: من الممكن أن تسعى الجماعات الإرهابية إلى توسيع نطاق عملياتها خارج مناطق الصراع التقليدية في آسيا، من خلال استهداف دول أخرى في المنطقة التي كانت تعتبر آمنة نسبياً. هذا التوسع قد يشمل استخدام المناطق الحدودية كقواعد لوجستية أو ملاذات آمنة. فعلى سبيل المثال، يتوقع أن يتوسع تنظيم داعش - ولاية خراسان في وسط وجنوب آسيا وخاصةً في طاجيكستان وأوزبكستان، والتسلل عبر الحدود من أفغانستان لدول الجوار. كما يتوقع أن يستغل تنظيم طالبان باكستان الفوضى الأمنية في أفغانستان لشن هجمات عبر الحدود والتمركز داخل المناطق الحدودية في أفغانستان بعيداً عن قبضة السلطات الباكستانية والتحرك لاستهداف نقاط حدودية باكستانية.4- تزايد التهديدات الإرهابية في جنوب وجنوب شرق آسيا: يحتمل أن تستغل الجماعات الإرهابية في الفلبين الحدود البحرية الواسعة بين الفلبين وماليزيا وأندونيسيا في شن هجمات وعمليات اختطاف بالمناطق الحدودية والمياه الإقليمية لهذه الدول، ومن المحتمل أن تستغل جماعات مثل أنصار التوحيد الأوضاع الأمنية المضطربة في سريلانكا وبنجلاديش لشن هجمات إرهابية. ويؤدي تصاعد الاضطرابات الطائفية في الهند والتوترات بين الطوائف الدينية لنشأة بيئة مهيأة لانتشار الإرهاب والتطرف، وهو ما يكشف عنه نشاط السلطات الأمنية الهندية مؤخراً في الكشف عن خلايا إرهابية نائمة وإحباط التخطيط لعمليات إرهابية خاصةً في الشطر الهندي من جامو وكشمير.وختاماً، يمكن القول إن القارة الآسيوية سوف تظل ساحة رئيسية لنشاط الجماعات الإرهابية في السنوات القادمة، في ظل تحول الجماعات الإرهابية نحو تنفيذ هجمات أكثر تعقيداً باستخدام التكنولوجيا المتقدمة، مما يفرض تحديات جديدة على الأجهزة الأمنية، ويؤدي إلى سباق تسلح تكنولوجي بين الدول والجماعات الإرهابية. ويعتمد النجاح في مواجهة هذه التهديدات على قدرة الدول على التكيف مع التغيرات السريعة، وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي، وتطوير استراتيجيات شاملة لمعالجة جذور التطرف. وتبقى الحاجة ملحة لتبني مقاربات مرنة ومبتكرة لضمان استقرار وأمن المنطقة على المدى الطويل.

لماذا لا تنتهي التهديدات الإرهابية في قارة آسيا؟