واجه الاقتصاد الروسي، خلال عام 2022، صعوبات عديدة نتيجة التداعيات السلبية للعقوبات الغربية الموقعة على روسيا منذ بداية الحرب في أوكرانيا، فضلاً عن امتصاص الحرب ذاتها جانباً كبيراً من إيرادات الدولة. وبحسب المؤسسات الدولية الكبرى – وبإجماع من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية – فإن 2022 كان عاماً سيئاً بالنسبة إلى روسيا.

غير أن روسيا تمكنت من إنعاش الناتج المحلي الإجمالي بها في عام 2023، والخروج من انكماش 2022؛ إذ نما اقتصادها بنسبة 3.6%، لكن مع اقتراب الانتخابات الروسية في مارس 2024، يطرح الاقتصاديون الروس تساؤلات حول مدى انعكاس النمو في الناتج المحلي الإجمالي على المواطنين، خاصة في ظل تنامي إشكاليات العمل والبطالة وانخفاض الأجور. وفي ضوء ذلك، يرى البعض أن الاقتصاد الروسي يواجه هذا العام "أوقاتاً حرجة للغاية"، على الرغم من تحسن توقعات النمو.

مؤشرات إيجابية

هناك عدد من المؤشرات الإيجابية على تحسن أداء الاقتصاد الروسي في الوقت الراهن مقارنةً بوضعه في بداية الحرب، وكذلك عند مقارنته بأداء الاقتصادات الكبرى في عام 2023، وهو ما يمكن تبيانه على النحو الآتي:

1- انخفاض أعداد السكان ذوي الدخل الأقل من حد الكفاف: قبل الحرب الأوكرانية، قُدر عدد السكان من ذوي الدخل الأقل من الحد الأدنى للكفاف في روسيا، في الربع الرابع من عام 2021 بنحو 12.4 مليون، في تراجع إيجابي عن 16 مليوناً في الربع الثالث من عام 2021، غير أن الحرب أسفرت عن زيادة كبيرة في أعداد السكان الذين تقع دخولهم تحت الحد الأدنى للكفاف إلى 20.9 مليون شخص في الربع الأول من عام 2022، لكن ذلك المعدل قد أخذ في التراجع من جديد إلى أدنى معدل له في الربع الرابع من 2022 عند 11.6 مليون، وإن كان وفق آخر بيانات متوافرة، قد تزايد العدد من جديد إلى 15.7 مليون في الربع الثاني من 2023، إلا أنه يظل أقل من المستوى الذي كان عليه عند بداية الحرب قبل عامين بنحو خمسة ملايين مواطن.

2- تفوق اقتصاد روسيا على اقتصادات مجموعة السبع: في الوقت الراهن، يروج الرئيس الروسي لصمود اقتصاد الدولة رغم ضغوط العقوبات، مستنداً إلى تصنيف صندوق النقد الدولي الناتج المحلي الإجمالي في روسيا مقارنة باقتصادات مجموعة السبع؛ فبحسب الصندوق، فإنه خلال عام 2023، نما الناتج المحلي الإجمالي الروسي بمعدل 3%، وهي بذلك تكون قد تفوقت على اقتصاد الولايات المتحدة الذي نما في ذلك العام بنحو 2.5%، وعلى اقتصاد ألمانيا (-0.3%)، وفرنسا (0.8%)، فضلاً عن اقتصاد إيطاليا الذي نما بمعدل 0.7%، واليابان بنحو 1.9%، والمملكة المتحدة بنحو 0.5%، وكندا بمعدل 1.1%؛ ما يُظهر تفوقاً واضحاً لصالح روسيا مقارنة باقتصادات مجموعة السبع.

3- رفع صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو الاقتصادي الروسي: يتوقع صندوق النقد الدولي أن يتفوق الاقتصاد الروسي مرة أخرى هذ العام على اقتصادات مجموعة السبع، في ضوء مساعي روسيا الواسعة لتجنب الانكماش، ومن ثم تغذية النمو على نحو مستمر. وعلى خلفية ذلك، فإنه في أواخر يناير 2024، رفع صندوق النقد الدولي توقعاته لوتيرة النمو الاقتصادي في روسيا لهذا العام إلى أكثر من الضعف، من 1.1% في أكتوبر 2023 إلى 2.6%.

4- انخفاض معدل التضخم عن مستويات بداية الحرب: أدت الحرب الأوكرانية، وما لحقها من تداعيات، إلى ارتفاع معدلات التضخم في روسيا إلى مستويات قياسية، وصلت إلى 17.8% في أبريل 2022، غير أن معدلات التضخم أخذت تتراجع على مدار العامين الماضيين، إلى أن وصلت في نوفمبر 2023 إلى 7.48%، وهو انخفاض في معدلات التضخم بمقدار 10 نقاط مئوية. ويبدو أن جهود البنك المركزي الروسي وسياسته التشددية خلال العامين الماضيين، كانت عاملاً محورياً أمام الانخفاض الكبير في معدل التضخم في روسيا.

5- إبقاء أسعار الفائدة دون تغيير: في اجتماع البنك المركزي الروسي للمرة الأخيرة قبل الانتخابات الرئاسية، تم الإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير للمرة الأولى منذ يونيو 2023، في ظل دورة من التشديد النقدي، أدت إلى مضاعفة تكاليف الاقتراض في النصف الثاني من العام الماضي؛ وذلك عند 16%؛ ما يشير إلى بداية تحول البنك المركزي الروسي تدريجياً عن سياسة التشديد الكمي، مع وجود احتمال بأن يتجه الاقتصاد الروسي في النصف الثاني من عام 2024، نحو انتهاج سياسة التيسير الكمي، في سبيل جذب الاستثمارات إلى الدولة وتعزيز النشاط الاقتصادي.

تحديات راهنة

رغم المؤشرات الإيجابية والمرونة التي أثبتها الاقتصاد الروسي في وجه العقوبات، فإن ثمة تحديات اقتصادية راهنة تواجه الرئيس الروسي بوتين مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في مارس المقبل، يمكن الوقوف على أبرزها فيما يأتي:

1- زيادة الإنفاق العام لدعم المجهود الحربي: في عام 2023، وجهت روسيا نحو ثلث ميزانية الدولة، بما يعادل 9.6 تريليون روبل نحو دعم المجهود الحربي، واستكمالاً لهذا النهج، فإنه في نوفمبر 2023، وافق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ميزانية الدولة لعام 2024، التي تقضي بزيادة الإنفاق العسكري إلى ما يقرب من 30% من الإنفاق المالي، بما يعادل 14.3 تريليون روبل، وهي زيادة مقدارها ثلاثة أضعاف عن عام 2021. ومن المتوقع أن يشكل الإنفاق الدفاعي والأمني نحو 40% من إجمالي إنفاق ميزانية روسيا هذا العام، وفق بعض التحليلات.

جدير بالذكر أن ذلك الإنفاق لا يقتصر على إنتاج الأسلحة فحسب، بل يشمل تقديم مدفوعات اجتماعية مرتبطة بالحرب لأولئك الذين يقاتلون في أوكرانيا وأسرهم، فضلاً عن بعض الإنفاق على المناطق الأوكرانية التي تفرض سيطرتها عليها. وفي هذا الصدد، تشير دراسة حديثة صادرة عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، إلى أن الزيادة الكبيرة في الإنفاق العسكري تمثل "انفصالاً صارخاً عن تطور روسيا في مرحلة ما بعد الشيوعية حتى الوقت الراهن".

2- انخفاض في إيرادات الطاقة بمقدار الربع: وصلت إيرادات الطاقة في روسيا خلال العام الماضي إلى 8.8 تريليون روبل، وهو انخفاض بنحو الربع عن النتيجة القياسية في عام 2022، وإن كانت أعلى من المتوسط على مدى السنوات العشر الماضية.

ونتيجة لذلك، اضطرت الدولة إلى اللجوء إلى أساليب غير منتظمة على نحو متزايد لتوليد الإيرادات من الضرائب والرسوم لمرة واحدة، بما في ذلك "التبرعات الطوعية" التي يتعين على الشركات الغربية دفعها عند مغادرة روسيا. وقد أثبت هذا النهج فاعليته في تخفيف التأثير الأولي للعقوبات في بداية الحرب، عندما جمدت الدول الغربية 300 مليار دولار من الاحتياطيات السيادية لروسيا؛ حيث قام الكرملين رداً على ذلك بفرض ضوابط على العملة لوقف هجرة رؤوس الأموال.

3- ثبات الإنتاج المدني مقارنةً بالإنتاج الحربي: تشير تقديرات وزارة المالية الروسية إلى أن التحفيز المالي المرتبط بالحرب في الفترة 2022-2023، يُقدر بنحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي، وأنه خلال الفترة ذاتها، ارتفع الإنتاج الصناعي المرتبط بالحرب بنسبة 35%. وبالنظر إلى الإنتاج المدني، فإنه قد ظل ثابتاً؛ وذلك وفقاً لبحث نشره معهد بنك فنلندا للاقتصادات الناشئة؛ ما يمثل تحدياً كبيراً أمام روسيا، يستوجب ضرورة تعزيز الإنتاج المدني في القطاعات الصناعية المختلفة، حرصاً على عدم تحول اقتصاد الدولة إلى اقتصاد حرب، قائم على الإنتاج الصناعي والحربي فحسب، خاصة أن قطاعات عديدة في الدولة مثل التعليم والرعاية الصحية، تعاني من نقص الإنفاق، في الوقت الذي يُضخ فيه المزيد من الموارد في المجهود الحربي.

وفي اعتقاد معهد بنك فنلندا، فإن النمو الاقتصادي الذي "روج" له بوتين، يأتي من "فروع ذات تكنولوجيا منخفضة نسبياً، مثل تصنيع المعادن المصنعة بالفعل؛ حيث تكون روسيا أقل اعتماداً على الواردات ومن ثم أقل تأثراً بالعقوبات الغربية".

4- هروب رأس المال البشري خارج روسيا: وفقاً لبعض التقديرات، فقد غادر أكثر من 800 ألف شخص روسيا، منذ بداية الحرب. وتكمن المشكلة هنا في كون الفارين من روسيا من العمال ذوي المهارات العالية في مجالات حيوية، مثل تكنولوجيا المعلومات والعلوم؛ ما يشكل تحدياً كبيراً أمام الرئيس بوتين في حال فوزه في الانتخابات، في ظل انخفاض قدرة روسيا على الوصول إلى التكنولوجيا بفعل العقوبات المفروضة عليها، وعدم توافر العلماء وذوي الخبرات القادرين على إحراز تقدم ملموس في مجال الذكاء الاصطناعي في روسيا مقارنة بالغرب.

5- ارتفاع تكاليف العيش: رغم تباطؤ التضخم بشكل كبير مقارنة ببداية الحرب، فإن الشعب الروسي لا يزال يعاني من ارتفاع تكاليف العيش في ظل ارتفاع أسعار السلع الأساسية. ووفقاً لاستطلاع للرأي أُجري مؤخراً، فإن التضخم يأتي في المرتبة الثانية بعد المشاكل الصحية الحادة، كأكبر المخاوف التي يواجهها الروس خلال عام 2024.

وفي سياق متصل، فإن مؤشر إنتاجية العمل في روسيا قد انخفض بنسبة 3.6% على أساس سنوي في عام 2022، وهو أكبر انخفاض سنوي له عقب الأزمة المالية العالمية؛ وذلك بحسب دائرة الإحصاءات الحكومية الفيدرالية روستات "Rosstat"، فيما يتركز نمو الأجور أيضاً في القطاعات التي تستفيد من الزيادة الحادة في الإنفاق على الدفاع والأمن؛ ما يجعل ضرورة تركيز بوتين على عكس مؤشرات الاقتصاد الإيجابية بصورة أوضح على المواطنين، متطلباً رئيسياً في حال فوزه في الانتخابات.

6- تشكيك داخلي في مؤشرات النمو الإيجابية: يذهب بعض المحللين الاقتصاديين الروس إلى التشكيك في مؤشرات النمو الإيجابية لروسيا خلال عام 2023؛ حيث يعتبرون أن النمو الحادث في الناتج المحلي الإجمالي في روسيا يعتمد اعتماداً كبيراً على إنتاج الأسلحة والذخيرة التي تمولها الدولة، كما أن ذلك النمو يُخفي حقيقة المشكلات الجسيمة التي تعرقل فرص تحسن مستويات معيشة الروس. ويذهب اقتصاديون إلى القول بأن روسيا تضخ في الاقتصاد استثمارات غير "مُنتجة"؛ حيث تحقق فوائد مستقبلية محدودة. وبحسب الخبيرة الاقتصادية ألكسندرا سوسلينا، فإن الإنتاج في المجمع الصناعي العسكري، يتم تمويله من الاقتصاد الروسي، أما الدبابات والقنابل التقليدية في حقيقة الأمر، فإنها – على حد اعتقادها – "تستخدم لمرة واحدة ولا تعطي أي تأثير على الاقتصاد".

فيما يرى اقتصاديون آخرون، أن الإنفاق الموسع على الإنتاج العسكري يشوه الاقتصاد ويدمر الموارد ويمتصها بوتيرة غير مستدامة، وأن بناء وإنتاج الأشياء بهدف تدميرها في ساحة المعركة ليست الطريق إلى النجاح الاقتصادي. وبالتبعية، يحذر كبار المسؤولين الاقتصاديون الروس من تداعيات زيادة الإنفاق العسكري، الذي قد ينتج عنه تأثيرات كبيرة في الاقتصاد في المستقبل القريب.

7- تأثير العقوبات سلباً على المستهلكين: في ديسمبر 2023، صرحت شركة الطيران الروسية S7، بأن نحو 20% من طائراتها توقفت فعلياً عن الطيران، بسبب عدم التمكن من إصلاحها؛ حيث إن محركاتها أمريكية الصنع؛ ما أدى إلى انخفاض عدد الرحلات الجوية وخفض عدد الموظفين بالشركة. في ضوء ذلك، فإن ثمة اتجاهاً يشير إلى أن العقوبات الغربية لها تأثير فعلي على المستهلكين والشركات الروسية، وأن ذلك التأثير سيكون طويل الأمد على الاقتصاد الروسي.

وبحسب المفوضية الأوروبية، في تقييم نُشر في منتصف عام 2023، فإن تأثير العقوبات سيزداد حدة بمرور الوقت؛ إذ من شأن تلك الإجراءات أن يكون لها تأثير هيكلي طويل المدى على ميزانية روسيا وأسواقها المالية والاستثمار الأجنبي وقاعدتها الصناعية والتكنولوجية.

على الجانب الآخر، تشير راشيل لينجاس كبيرة خبراء الاقتصاد المعنيين بالعقوبات في وزارة الخزانة الأمريكية، إلى أن قادة روسيا "يواجهون مقايضات مؤلمة على نحو متزايد، من شأنها أن تعيق آفاق النمو الطويلة الأجل في روسيا، مع تفاقم نقص الاستثمار، وتباطؤ نمو الإنتاجية، ونقص العمالة".

8- تنامي استياء المواطنين الروس عبر وسائل التواصل الاجتماعي: ثمة انتقادات يتعرض لها النظام الروسي من قبل مواطنين روس على وسائل التواصل الاجتماعي، تأتي في صورة شكاوى من النقص الكبير في السلع؛ فعلى سبيل المثال، تعاني روسيا من نقص كبير في البيض؛ نظراً إلى كون المنتجين غير قادرين على تمويل واردات الدجاج، فضلاً عن نقص العمالة في تلك الصناعة، وهو ما ترتب عليه ارتفاع صاروخي في تكاليف إنتاج البيض؛ ما أثار امتعاضاً شديداً من قبل المواطنين الروس على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، مصحوباً بالسخرية.

ارتدادات عكسية

إجمالاً، رغم مؤشرات النمو الإيجابية التي حظي بها الاقتصاد الروسي خلال عام 2023، وتوقعات النمو الإيجابية لعام 2024، فإن ذلك لم ينعكس بشكل إيجابي على المواطنين الروس؛ إذ لا تزال أسعار السلع في ارتفاع متزايد، مع انخفاض الأجور وارتفاع البطالة، وفرار ذوي الخبرة والمهارات خارج حدود الدولة، وثبات الإنتاج المدني مقابل اتساع كبير في أفق الإنتاج الصناعي والحربي، وتضرر العديد من القطاعات، وعلى رأسها التعليم والصحة، بفعل خفض الإنفاق العام لصالح الإنتاج الحربي والعسكري، الذي من المقرر أن يتوسع هذا العام إلى 40% من الميزانية الروسية في عام 2024.

أضف إلى ذلك ارتدادات العقوبات على مبيعات النفط والغاز الروسيين التي دفعت نحو انخفاض الإيرادات الروسية من الطاقة، بيد أن عائدات النفط والغاز لا تزال تصل إلى خزائن الدولة؛ حيث تتجه ناقلات النفط والغاز إلى الهند والصين، إلا أن انخفاض معدل تلك الإيرادات إلى الربع، فضلاً عن آثار العقوبات على المستهلكين، بما في ذلك شركات الطيران، يزيد من تحديات الاقتصاد الروسي بما يؤثر بشكل مباشر على المواطنين، ويثير بدوره انتقادات واسعة من قبل الاقتصاديين والمحللين الروس والمعارضين في الداخل الروسي.

وتعد الانتخابات الرئاسية الروسية بمنزلة اختبار ثقة لبوتين، وإن كان سيحتاج في حال فوزه وكسب ثقة شعبه، أن يدفع بشكل موسع نحو تحفيز النشاط الاقتصادي في الداخل الروسي، ودعم مختلف القطاعات، مع مراعاة تحسين مستوى معيشة المواطنين، وجذب القوى العاملة الماهرة منهم ورفع الأجور، لدعم الاقتصاد الروسي بالصورة التي تلقى رضاءً حقيقياً وواسعاً في الشارع الروسي.

تحديات الاقتصاد الروسي بعد عامين من الحرب