تزخر الكتابات التحليلية بكثير من الرؤى والأطروحات الرامية إلى تشخيص ما يُعانيه الاقتصاد الصيني وتداعياته على الاقتصاد العالمي، خاصةً مع تواتر الأداء السلبي لمؤشرات اقتصادية رئيسية مؤخراً، وهي المؤشرات التي جاءت مُغايرة للتوقعات المأمولة منه؛ ذلك أن العالم يُعوِّل على ثاني أكبر اقتصاد فيه لتحفيز أدائه المُتباطئ، الذي يُعاني بالفعل من آفاق قاتمة؛ حيث توقع صندوق النقد الدولي، في يوليو 2023، تراجع النمو العالمي من 3.5% عام 2022 إلى 3.0% خلال عامي 2023 و2024، مدفوعاً بعوامل عِدة؛ يأتي في مقدمتها ارتفاع معدلات التضخم عن المستهدف من قِبل البنوك المركزية، وتفاقم تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وأحداث الطقس القاسي التي تعم أرجاء الكوكب.
سمات المشهد
في يوم 11 أغسطس 2023، أطلت صحيفة "الجارديان" البريطانية بتصريحات الرئيس الأمريكي القائلة بأن "الصين أضحت قنبلة موقوتة" نتيجةَ تحدياتها الاقتصادية. وفي اليوم السابق عليه، نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية مقالاً بعنوان "مُتلازمة الصين"، وهو مصطلح غربي أُطلِق عام 2013 للتعبير عن الخسائر التي ألمَّت بأسواق العمل في البلدان المتقدمة من جراء صعود القوة التصديرية الصينية، ثم اتسع مداه لوصف أي سلوك أو سياسة أو موقف يتعلق بالصين ويرتبط بكارثة فعلية أو مُحتملة. واتصالاً بذلك عنونت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية مقالاً لها في التاسع من أغسطس الماضي بـ"الاقتصاد الصيني يُعاني مساراً مُتعرجاً نحو التعافي".
وفي وقت سابق على ذلك، حذرت صحيفة "الواشنطن بوست" الأمريكية، يوم العاشر من يوليو الماضي، بأن الاقتصاد الصيني قد يكون على مشارف "عقد ضائع"، أسوةً بما عاناه الاقتصاد الياباني عقب انفجار فقاعات أسعار أصوله العقارية والمالية، الناجم عن حدوث انخفاضات حادة في أسعارها بعد أن شهدت ارتفاعات متتالية غير مُبررة. وفي 18 يونيو الماضي، لفتت مجلة "إيكونومست" اللندنية، الانتباه إلى أن الاقتصاد الصيني يسلك مساراً نحو "الانحدار الُمزدوج" (Double Dip)، للدلالة على ضعف النشاط الاقتصادي لفترة، ليشهد بعدها تحسناً طفيفاً ثم يُعاود الانخفاض مرة أخرى.
تتعالى هذه الصيحات التحذيرية، وغيرها، مُؤيَّدةً بالأداء المتراجع للعديد من المؤشرات الاقتصادية، وهو ما يُنذر بمشهد صيني مُتأزم، يأتي في مقدمته:
1- التأثير المعاكس لتراجع معدلات التضخم: فقد تهاوى معدل تضخم أسعار المستهلكين على أساس سنوي خلال الأشهر السابقة، ليستقر في المنطقة السالبة في يوليو الماضي، مُسجلاً (-0.3%) وفقاً لبيانات "المكتب الوطني للإحصاءات" الصيني. لقد سجل معدل التضخم السنوي 0.5% في المتوسط منذ بداية العام، مُتخلفاً بدرجة كبيرة عن مستواه المُستهدف من قِبل الحكومة الصينية البالغ 3%، كما انخفض معدل تضخم أسعار المُنتجين (أسعار المصنع) على أساس سنوي إلى 4.4% في الشهر ذاته. هذه المؤشرات تنعكس بصورة سلبية على الاقتصاد الصيني؛ لأنها تشير إلى إمكانية التعرض للانكماش الاقتصادي في ظل انخفاض الطلب الاستهلاكي والاستثمار الخاص.
2– تباطؤ معدلات نمو مبيعات التجزئة: فقد أظهرت البيانات تباطؤ معدل النمو الشهري لمبيعات التجزئة على أساس سنوي ليصل إلى 2.5% في يوليو الماضي بعد أن سجل 3.1% في الشهر السابق عليه، مُنحدراً إلى مستوى 12.7% المُسجل في مايو الماضي، بعد أن بلغ 18.4% في أبريل 2023؛ وفقاً لتصريحات "المكتب الوطني للإحصاءات" الصيني الصادرة في 15 أغسطس الماضي.
3– تراجع قيمة الصادرات الصينية: إذ تراجعت قيمة الصادرات الصينية المُقوَّمة بالدولار الأمريكي في شهر يوليو الماضي على أساس سنوي بنســــبة (–14.5%)، لتُسجل أدنى مستوى لها منذ فبراير 2020، متأثرةً بضعف الطلب العالمي، عقب السياسات النقدية التقييدية المُتبناة لمكافحة التضخم، خاصةً في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. واكب ذلك تقلُّص قيمة الواردات الصينية بنسبة (–12.4%) على أساس سنوي خلال شهر يوليو الماضي، وفق ما أعلنته "الإدارة العامة للجمارك" الصينية يوم الثامن من أغسطس الماضي.
واستمراراً لهذا التراجع أظهرت بيانات للجمارك الصينية، يوم 7 سبتمبر 2023، أن صادرات البلاد انخفضت 8.8% في أغسطس الماضي على أساس سنوي؛ وذلك للشهر الرابع على التوالي، فيما تراجعت الواردات 7.3%؛ ما يزيد الضغوط على قطاع الصناعات التحويلية الضخم بالبلاد، في ظل هبوط الطلب في الداخل والخارج.
4– هبوط قيمة التزامات الاستثمار الأجنبي المباشر: فقد تراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة الوافدة للصين إلى 4.9 مليار دولار أمريكي في الفترة أبريل–يونيو 2023، مُنخفضةً بنحو (–87%) عن الفترة المناظرة في العام السابق؛ ما يُعد أدنى مستوى لها منذ 25 عاماً (تحديداً عام 1998)، وفقاً لما نشرته وكالة "بلومبرج" في السابع من أغسطس الماضي. رافق ذلك تراجع قيمة الاستثمار الأجنبي المباشر على أساس سنوي في يونيو 2023 بنسبة (–2.7%)، وفقاً لبيانات وزارة التجارة الصينية.
5– انخفاض حجم استثمار الشركات في الأصول الثابتة: بحسب ما أعلنته وكالة رويترز، انخفض حجم استثمار الشركات الخاصة في الأصول الثابتة بنسبة 0.1% خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2023 مقارنةً بالفترة نفسها من العام السابق، كما تراجعت أرباح الشركات الصناعية التي يديرها القطاع الخاص بنسبة 21.3% على أساس سنوي خلال الفترة نفسها.
6– استمرار أزمة قطاع العقارات: يشكل قطاع العقارات أحد القطاعات الرئيسية في الاقتصاد الصيني، ومن ثم فإن الأزمة القائمة في هذا القطاع في الوقت الراهن تفرض ضغوطاً كبيرةً على الاقتصاد الصيني، وخاصة أن قطاع العقارات يمثل 29% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي للصين. وفي هذا الصدد، انخفضت أسعار المنازل الجديدة في مايو 2023 مقارنةً بالشهر السابق عليه، وفقاً لتصريحات بنك "جولدمان ساكس"، مع تراجع مبيعات العقارات والمساكن الجديدة لتُسجل نحو 70% و40% مما كانت عليه في الفترة المناظرة من عام 2019 على التوالي وفقاً لتصريحات شركة "جافيكال دراجونوميكس" (Gavekal Dragonomics) الصادرة في مجلة "إيكونومست" بتاريخ 18 يونيو الماضي. وما يفاقم أزمة قطاع العقارات، تعرُّض بعض الشركات الضخمة لسيناريو الإفلاس المحتمل؛ فعلى سبيل المثال، تقدمت شركة العقارات الصينية العملاقة "إيفرجراند جروب" في شهر أغسطس الفائت بطلب لإشهار إفلاسها في الولايات المتحدة.
7– ضعف مؤشرات الائتمان في الصين: حيث أظهرت بيانات "بنك الشعب الصيني" – التي نشرتها وكالة رويترز يوم الرابع عشر من أغسطس الماضي – أن البنوك وفرت 47.8 مليار دولار أمريكي قروضاً جديدة خلال شهر يوليو الماضي، مُتراجعةً بنسبة 89% عن الشهر السابق عليه، لتُسجل بذلك أدنى مستوى لها منذ أواخر عام 2009.
8– تزايد قصور الإنفاق الاستهلاكي (Under–consumption): فقد شهدت الصين قصوراً في عمليات بيع السلع والخدمات نتيجة تآكل القوة الشرائية للمجتمع؛ ما يُفضي إلى تدهور الطلب النهائي (مُشتريات الحكومة والقطاع العائلي والصادرات دون الإنفاق الاستثماري) ومن ثَمَّ تباطأ النشاط الاقتصادي. أسهم في ذلك تراجع الطلب الخارجي على الناتج الصيني في ظل الحرب التجارية الصينية الأمريكية، والسياسة النقدية التقييدية المُتبناة من قِبل بنوك مركزية عدة. كما تعاني الصين من عوامل ديموغرافية هيكلية – بجانب شيخوخة السكان – تُضعف الإنفاق الاستهلاكي، وعلى رأسها تزايد معدلات البطالة التي وصلت بين الشباب في الفئة العمرية (16–24 عاماً) إلى نحو 21%، ومرشحة للارتفاع إلى مستوى 46.5% كما صرح الدكتور "تشانج داندان" أستاذ الاقتصاد بجامعة بكين لصحيفة "فورتشن" في الثامن من أغسطس الماضي، عند تضمين جميع الشباب القادرين على العمل، وعدم قصره على الباحثين النشطين عنه فقط وفق المنهجية المُتبعة.
9– اختلال عمليات تمويل مشروعات التنمية بالمدن: وقد نتج هذا الأمر عن اعتماد مشروعات التنمية بالمدن في الأساس على "أدوات التمويل الحكومية المحلية" (Local Government Financing Vehicles, LGFVs) ذات الأغراض الخاصة، التي تُوفرها الحكومة للمدن خارج ميزانياتها الرسمية لتمويل مشروعات مثل الطرق والمطارات والبنية التحتية ومحطات الطاقة التي تستغرق وقتاً لاستكمالها.
بيد أن ذلك رافقه تصاعد قيمة هذه الديون المُستترة مع جائحة "كوفيد–19" حتى قدَّرها صندوق النقد الدولي مؤخراً بنحو 9.1 تريليون دولار أمريكي وفقاً لتصريحات وكالة "رويترز" في الحادي عشر من أغسطس الجاري؛ لتُمثِّل بذلك نحو نصف قيمة الناتج المحلي الإجمالي الصيني، ناهيك عن مشكلات في السيولة وارتفاع مخاطر تعثُّر المدن الصينية مع الأوضاع الراهنة للسوق العقارية الصينية؛ حيث كانت تُعوِّل على إيراداتها من بيع الأراضي والعقارات لتمويل مدفوعات هذه الديون؛ لأن المشروعات المُوجهة إليها تستغرق وقتاً طويلاً لإنهائها، وتُدر عائداً محدوداً. أضف إلى ذلك تضخم إجمالي الديون الحكومية التي أشارت صحيفة نيويورك تايمز في مقالها الصادر في الحادي عشر من أغسطس الماضي إلى أنها أصبحت تُقدَّر بنحو 282% نسبةً من الناتج المحلي الإجمالي.
انعكاسات مُتوقعة
رغم الأداء المُتراجع لعدد من المؤشرات الاقتصادية الرئيسة الصادرة خلال الأيام الماضية، والاختلالات الهيكلية التي يُعانيها، سجل الاقتصاد الصيني معدل نمو 5.5% خلال النصف الأول من عام 2023 على أساس سنوي وفقاً "للإدارة الوطنية للإحصاءات" الصينية، ليزيد بذلك عن المستوى الذي تستهدفه الدولة لعام 2023، وهو 5.0%. اللافت للانتباه أنه وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، من المتوقع أن يُسجل الاقتصاد الصيني معدل نمو سنوياً حقيقياً 5.2% عام 2023، ليتفوَّق في ذلك على كل من الولايات المتحدة الأمريكية ومنطقة اليورو (1.6% و0.8% على التوالي). ومع ذلك، فإن المؤشرات السلبية المشار إليها سابقاً يمكن أن تؤدي إلى انعكاسات سلبية على الاقتصاد العالمي، وهو الأمر المرتبط بعدة محددات:
1– التأثير المحتمل على النمو الاقتصادي العالمي: يُعد الاقتصاد الصيني المصدر الأول لتوليد النمو العالمي، يليه اقتصاد الولايات المُتحدة الأمريكية وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، بيد أن نسبة مساهمته في توليد النمو قد تناقصت بمرور الزمن؛ فبعد أن كان يُسهم بأكثر من 40% في توليد النمو (والاقتصاد الأمريكي 22%) خلال العقد الماضي، من المتوقع أن تتراجع مساهمته لتُسجل 22.6% عام 2023 (والاقتصاد الأمريكي 11.3%).
وفي هذا الصدد، من غير المُتوقع أن تشهد الصين زخماً اقتصادياً بالوتيرة التي كان عليها في الماضي؛ فبعد أن سجل معدل النمو الاقتصادي الحقيقي 6.7% في المتوسط خلال الفترة (2012–2021)، من المرجح أن ينخفض المعدل إلى 4.9% خلال الفترة (2022–2032)، وفقاً لتقديرات وكالة فيتش سوليوشنز الصادرة في أواخر يونيو 2023.
2– الانعكاسات على حجم الاستهلاك العالمي: تُعد الصين أكبر مُستهلك في العالم، ومن ثم فإن من المرجح أن يؤثر تراجع الطلب النهائي في سوقها الداخلية على حجم الاستهلاك العالمي، فتتباطأ وتيرة الانتعاش الاقتصادي، خاصةً مع تنامي ميل مواطنيها للادخار. وكانت ودائع القطاع العائلي في القطاع المصرفي قد ارتفعت قيمتها بنحو 1.7 تريليون دولار أمريكي خلال النصف الأول من عام 2023؛ ما يُعد أكبر زيادة مُشاهَدة خلال السنوات العشر الماضية، حسبما تُشير جريدة نيويورك تايمز في مقال لها بتاريخ 11 أغسطس الماضي.
3– تراجع الاستثمار والتصدير الصينيين: حيث يشهد الاقتصاد الصيني تحولاً في نموذج النمو المُتبنى، من نموذج قائم على الاستثمار والتصدير إلى آخر يعتمد بدرجة أكبر على الاستهلاك المحلي والخدمات والابتكار لدفع النشاط الاقتصادي، خاصةً مع تصاعد المنافسة مع الغرب، والتوقعات بتواضع معدلات النمو العالمي خلال العقد القادم، بيد أن ذلك يتطلب تحفيزاً أكثر على الإنفاق الاستهلاكي المحلي. وقد يبدو للبعض أن الخيارات الحكومية في هذا السياق تتسم بالمحدودية نتيجة تصاعد أعباء الدين الحكومي.
4– الإضعاف الممتد للإنفاق الاستثماري: من المرجح أن يُمثِّل ارتفاع أعباء ديون القطاع العائلي – التي سجلت 62% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي في نهاية عام 2021 – عائقاً أمام الاستهلاك العائلي الآجل. كذلك فإن ارتفاع مديونية الشركات والحكومات المحلية من شأنها أن تُقوِّض الإنفاق الاستثماري العام والخاص مستقبلاً، بالإضافة إلى تعرض القطاع المصرفي لمخاطر انكشاف القطاع العقاري؛ ما ينعكس سلباً على جودة الأداء الائتماني خلال السنوات القادمة.
5– التخوف من انتقال أزمة العقارات الصينية إلى الخارج: يُحتمَل أن تمتد أزمة العقارات الصينية إلى الأسواق الخارجية، وخاصةً أن بعض الشركات الصينية لها أنشطة في دول مختلفة. ولعل النموذج الأبرز على ذلك، شركة العقارات الصينية العملاقة "إيفرجراند جروب"، التي تقدمت في شهر أغسطس الفائت بطلب لإشهار إفلاسها في الولايات المتحدة. اللافت أن بعض الدول سارعت إلى تأكيد أن أزمة العقارات الصينية لن تؤثر عليها؛ لتجنب حدوث ذعر اقتصادي في الأسواق؛ فعلى سبيل المثال، ذكر وزير المالية الكوري الجنوبي "تشو كيونج–هو" في تصريحات تلفزيونية يوم 3 سبتمبر الجاري، أن "المؤسسات المالية المحلية اتخذت موقفاً حذراً بشكل استباقي ضد الاستثمارات في سوق العقارات الصينية. لقد استثمرت مبلغاً صغيراً جداً من المال في شركات تطوير العقارات الصينية"، وخلص إلى أن بلاده "لا تتوقع أي تأثير مباشر لأزمة العقارات في الصين على الاقتصاد الكوري".
6– إمكانية التأثير على سوق النفط العالمية: ثمة تخوف من أن يكون للمؤشرات الاقتصادية السلبية في الصين تأثير على استقرار سوق النفط العالمية، لا سيما أن الصين تعد أكبر مستورد للنفط عالمياً، ومن ثم فإن تعرض الصين لحالة انكماش وتراجع الإنفاق الاستهلاكي وكذلك الاستثماري، يمكن أن يكون له تداعيات سلبية على سوق النفط.
ومع ذلك، فإن ثمة توقعات إيجابية تشير إلى احتمالية أن يُسجل الطلب العالمي على النفط ارتفاعات قياسية خلال عام 2023، ليزيد بمقدار 2.2 مليون برميل/يوم، ويصل إلى 102.2 مليون برميل/يوم. هذا ويُعد الاقتصاد الصيني مسؤولاً عن توليد ما يزيد على 70% من ذلك النمو – بحسب تقرير الوكالة الدولية للطاقة الصادر في أغسطس الماضي – نظراً إلى تزايد نشاط قطاع البتروكيماويات به، بالإضافة إلى زيادة حركة السفر الجوي خلال أشهر الصيف وزيادة استخدام النفط لتوليد الطاقة.
7– ترقب السوق العالمية لحركة السياحة الصينية: يُعد السائح الصيني مُحركاً رئيسياً لنمو الكثير من الوجهات السياحية حول العالم؛ حيث كانت الصين أكبر مُساهم في سوق السياحة العالمية عام 2019، بواقع 170 مليون رحلة، تولَّد عنها 253 مليار دولار أمريكي للاقتصاد العالمي، وفقاً لتحليل شركة "ماكينزي". ومع إنهاء سياسات الإغلاق الصينية، ورغم أن زخم السياحة الصينية لن يعود إلى مستويات ما قبل الجائحة، فإن تقديرات "معهد الصين لبحوث السياسة الخارجية" تُشير إلى أن السياحة الخارجية الصينية ستبلغ في عام 2023 ثلثي ما كانت عليه عام 2019 (110 ملايين رحلة دولية)، وفق ما نشرته "فوربس" في 24 مارس. كذلك، فإن من المتوقع أن ينتعش الإنفاق السياحي الصيني خلال عام 2023 ليُسجل نحو 168 مليار دولار أمريكي بحسب شبكة ديسكوفر العالمية في الأول من أغسطس الجاري. ومن هذا المنطلق، فإن ثمة تخوفاً أن يكون للمؤشرات الاقتصادية السلبية داخل الصين وتراجع الإنفاق في الدولة انعكاس سلبي على حركة السياحة الصينية عالمياً.
مآلات مُنتظرة
رغم النمو الاقتصادي الإيجابي المُتحقق خلال النصف الأول من عام 2023، فإنه لا ينفي حقيقة أن سنة المُقارنة (عام 2022) تُمثِّل قاعدة مُنخفضة للقياس؛ حيث كان الاقتصاد الصيني تحت وطأة التداعيات السلبية للجائحة. كما أن سيناريو استمرارية الاتجاه النزولي لمؤشرات أدائه الرئيسية لفترة، قد يعوق النمو الوطني والعالمي، في ظل الاختلالات الهيكلية التي يُعانيها. ورغم أن طيف "العقد الضائع" الياباني يلوح في الأفق لدى بعض المُتابعين، فإن الحكومة الصينية ستقوم غالباً بكل ما يحتاجه الأمر لمنع تكرار هذا السيناريو على أراضيها والحفاظ على معجزتها الاقتصادية.
وبالفعل، شعرت السلطات الصينية بالإنذار شديد اللهجة الذي حملته مؤشرات أدائها الاقتصادي المُتراجعة، وبدأت خلال الفترة الماضية تتخذ عدداً من الإجراءات التصحيحية لإنعاش اقتصادها الوطني، وفي مقدمتها:
1– التوسع في إصدار سندات: حيث تم السماح للسلطات البلدية بإصدار سندات بقيمة 140 مليار دولار أمريكي لتحل محل ديون أدوات التمويل الحكومية المحلية، بما يوازي 1.5% فقط من الإجمالي وفق ما أعلنته رويترز في 11 أغسطس الماضي؛ لمعالجة مخاطر الديون الحكومية المحلية. جدير بالذكر أن هذه السماحية (بيع السندات مباشرة في السوق) كانت محظورة من قبل على السلطات البلدية؛ الأمر الذي يعكس مرونة أكبر في تمويل المحليات لدعم النمو الاقتصادي في ظل تباطؤ مبيعات الأراضي.
2– تقديم قروض وتيسير عمليات شراء العقارات: في إطار مساعي الحكومة لمواجهة المؤشرات الاقتصادية السلبية، بدأت أكبر البنوك الحكومية تقدم قروضاً بآجال ذات استحقاقات طويلة، وتخفيفاً مؤقتاً لمعدلات الفائدة، حتى تستطيع السلطات المحلية من خلالها الوفاء بديونها ولتجنب تعثرها، كما تم تخفيض متطلبات الدفعة الأولى وتيسير القيود المفروضة على شراء عقارات متعددة في بعض المدن؛ لإنعاش سوق العقارات.
3– سياسات تخفيض سعر الفائدة: تبنت السلطات الصينية سياسات تخفيض سعر الفائدة خلال الشهور الماضية؛ ففي يوم 15 أغسطس الماضي، على سبيل المثال، تم تخفيض سعر الفائدة بواقع 10 نقاط أساس ليصل إلى 2.65%، وتخفيض أسعار الفائدة على مدار سبعة أيام وشهر واحد بواقع 10 نقاط أساس ليصل إلى 2.8% و3.15%على التوالي. وفي يوم 21 أغسطس الماضي، خفض البنك المركزي الصيني مجدداً سعر الفائدة على القروض الممنوحة مدة عام؛ ما يشكل مرجعاً للقروض المصرفية للشركات والأسر من 3.55% إلى 3.45%.
4– مواصلة سياسة تنويع الأسواق الخارجية: ثمة توقعات إيجابية بشأن نمو التجارة الخارجية الصينية في المستقبل القريب، رغم التراجع الراهن للطلب الخارجي؛ فمن المرجح أن تسجل معدل نمو سنوي حقيقي 5.3% خلال عام 2023، و5.0% في المتوسط خلال الفترة 2023–2027، وفقاً لتقرير وكالة "فيتش" المنشور في 14 أغسطس الماضي. اللافت للانتباه أن الصين مُستمرة في تنويع أسواقها الخارجية حفاظاً على تنامي تدفقاتها التجارية مع التركيز أكثر على مُحيطها الإقليمي، وفي مقدمته روسيا التي حققت التجارة بينهما نمواً بنحو 29.3% على أساس سنوي خلال عام 2022.
5– استمرار مساعي بكين لتغيير هيكل الصادرات: تعمل بكين على مواصلة تغيير هيكل صادراتها استجابةً لتطورات حربها التجارية مع الولايات المُتحدة الأمريكية. ورغم أن ذلك سينعكس حتماً على السوق العالمية للمواد الأولية وسلاسل التوريد، فإنها في المُقابل ستُحافظ على نمو تدفقات تجارتها الخارجية. مثال ذلك إعلان الحكومة الصينية في الثالث من يوليو الماضي أنها ستُقيِّد تصدير معدنَي "الغاليوم" (Gallium) و"الجرمانيوم" (Germanium) المُستخدمَين في إنتاج أشباه الموصلات والمصابيح المُوفرة للطاقة والإلكترونيات والمركبات الكهربائية لحماية أمنها القومي، اعتباراً من الأول من أغسطس 2023. جدير بالذكر أن الصين تحتكر 80% و60% من الإنتاج العالمي للمعدنَين على التوالي، بحسب "الجمعية الأوروبية لتحالف المواد الخام الحرجة".
ختاماً، ينبغي للإدارة الصينية أن تُعزِّز مستوى ثقة المستهلكين والمستثمرين على حد سواء. ومن الأدوات الرئيسية التي يُمكن التعويل عليها "الاقتصاد السردي"؛ حيث تتأكد دوماً أهمية الرواية السردية لتفسير الواقع الاقتصادي الراهن والأحداث الاقتصادية التي تواجهها الصين، لتشكيل سلوك إنساني وقرارات شخصية ومؤسسية مواتية لواقعها المأمول. ولنتذكر دوماً أن الاقتصاد الصيني سوف يستغرق وقتاً أطول للتعافي الكامل.