منذ إعلان بنكَي سيليكون فالي Silicon Valley وسيجنتشر Signature إفلاسهما في العاشر من مارس 2023، ثارت التساؤلات حول إذا ما كان هناك حلول تنظيمية يمكن أن تحمي البنوك الأصغر من الانهيار، في ظل تراجع ربحية العديد من البنوك الصغيرة والأزمات المصرفية التي تتعرض لها. وبحسب مارك فيتزجيبون Mark Fitzgibbon مدير الأبحاث في بنك بايبر ساندلر Piper Sandler، فإن البنوك أصبحت سلعة، ونتيجة تزايد التكاليف التنظيمية لأعمال البنوك، أصبح هناك ضغط نزولي على ربحيتها، وهو ذلك الأمر الذي يرجح – من وجهة نظر فيتزجيبون – اندماج البنوك الصغيرة معاً على أمل أن تؤدي عمليات الاندماج بين البنوك أو الاستحواذ عليها، إلى خفض نفقات تلبية متطلبات رأس المال المتزايدة والامتثال للقواعد الأخرى، وكذلك زيادة عوائد المستثمرين بتنويع الخدمات والأنشطة الاستثمارية الناجمة عن عمليات الاندماج والاستحواذ.

فارق جوهري

إن كان يتم في كثير من الأحيان التعامل مع اندماج البنوك والاستحواذ عليها كأنهما إجراء واحد، إلا أن ثمة فارقاً جوهرياً بين الاندماج والاستحواذ، يكمن في كون الاندماج يحدث عندما ينضم بنكان لتشكيل شركة واحدة ذات ملكية جديدة وهيكل قانوني موحد، وتعتبر عادةً عملية شراء ودية؛ حيث يتفق البنكان على تجميع مواردهما تحت عمليات الاندماج بوجه عام بين مؤسستين من الحجم نفسه أو بموارد مماثلة.

أما الاستحواذ على البنوك فيحدث عندما تشتري شركةٌ شركةً أخرى، وعادةً ما تكون أصغر، ليصبح البنك الأصغر جزءاً من البنك الأكبر، ويتوقف عن العمل بشكل مستقل. واعتماداً على شروط الصفقة، قد يحتفظ البنك المستحوذ عليه باسمه الأصلي، أو يمكن استيعابه داخل البنك الأكبر، وهو الإجراء الذي يضطر إلى قبوله البنك الأصغر عندما يعاني من مشكلات مصرفية لا يقدر على حلها أو استيعابها؛ فحينئذٍ يتجه البنك الأصغر إلى قبول عرض الاستحواذ باعتباره حلاً أفضل بكثير من التعرض للإفلاس، خاصةً أن البنك المستحوِذ هو مؤسسة ذات أداء مالي أقوى بكثير، ومن ثم فإن لديه القدرة على التعامل مع الأزمات التي يكابدها البنك المستحوَذ عليه والتغلب عليها.

دوافع ملحَّة

ثمة دوافع تُحرِّك البنوك نحو قبول عروض الاندماج أو الاستحواذ من قبل بنوك أخرى، ويمكن استعراض أبرزها فيما يأتي:

1– إتاحة فرص التوسع في أسواق جديدة: قد يقرر البنك الاندماج مع بنك آخر بغية التوسع في سوق جديدة، واكتساب المزيد من العملاء والمستثمرين، بما يعني المزيد من تدفق رأس المال للبنوك، والمزيد من القدرة على تقديم خيارات إقراض إضافية للمستهلكين.

فعندما يندمج بنكان، فإنهما قد يكونان قادرين على توسيع بصمتهما في الأسواق المحلية المختلفة؛ فعلى سبيل المثال، إذا كان أحد البنوك قد أسس وجوده في الجنوب الشرقي من الدولة وكان للآخر وجود أكبر في الشمال الشرقي، فإن الاندماج قد يسمح لهما بخدمة العملاء بشكل أفضل صعوداً وهبوطاً، كما قد يوفر الاندماج أو الاستحواذ المزيد من مواقع الفروع وأجهزة الصراف الآلي؛ ما يمنح العملاء مزيداً من المرونة والراحة لإكمال معاملاتهم المالية.

2– سد فجوات التكنولوجيا أو المنتجات: يمكن أن يقرر بنكان الاندماج بهدف سد فجوات التكنولوجيا أو المنتجات؛ فقد يكون لأحد البنوك فريق إقراض تجاري كبير، بينما قد يقدم الآخر خبرة في إدارة الثروات وتقديم أفضل الحلول الابتكارية لذلك، فيما قد يتميز بنك آخر بقدرة على توفير موارد أفضل للعملاء. وإن كان في بعض حالات الاندماج لا يتغير شيء بخلاف اسم البنك، إلا أنه في حالات أخرى، تتم إضافة المزيد من المنتجات والخدمات لتحسين تجربة العملاء بوجه عام، ومن ثم رفع مستوى رضاء العملاء عن البنك، خاصة عندما يدرك العميل أن تجربة الاندماج أو الاستحواذ صبَّت في مصلحته في المقام الأول.

وفي هذا الصدد، يمكن أن توفر عمليات الدمج أو الاستحواذ فرصة لتوسيع عروض البنوك المندمجة للعملاء؛ فقبل الدمج أو الاستحواذ، قد يتخصص أحد البنوك في خدمة عملاء الشركات الصغيرة، بينما قد تكون خبرة بنك آخر في الإقراض العقاري، فيتيح الدمجُ لهما تقديمَ مجموعة واسعة من الخدمات لتلبية جميع احتياجات العملاء، سواء كانوا مدخرين أو مستثمرين.

3– تقليل التكاليف: تسمح عمليات الاندماج والاستحواذ على البنوك بتقليل التكاليف، لا سيما في أجزاء من الأعمال التجارية؛ حيث تتداخل عملياتها؛ إذ يمكن أن يؤدي دمج العمليات التجارية والموردين الخارجيين وأنظمة التكنولوجيا إلى توفير التكاليف التي يتم تمريرها إلى العملاء بالتبعية، والتي قد تأخذ شكل رسوم بنكية أقل لأشياء مثل حسابات التدقيق والادخار، ورسوم إنشاء ومعاملات أقل لقروض السيارات أو الأعمال، أو امتيازات أفضل ضمن برنامج ولاء العملاء،في حين أن أسعار الفائدة على الرهون العقارية وشهادات الإيداع لن تتغير؛ فقد تكون هناك تغيرات في أسعار الفائدة على حسابات المدخرات وحسابات سوق المال.

4– تقديم تجربة رقمية محسنة: قد تتمكن البنوك من تقديم تجربة رقمية أفضل،من خلال الدمج أو الاستحواذ، وهو ما يعد عاملاً مُحرِّكاً نحو الإقدام على خطوة الاندماج؛ إذ يمكن للبنك توسيع قدراته الرقمية دون الحاجة إلى بنائها من الألف إلى الياء، أو فحص مقدمي خدمات التكنولوجيا الجدد. كما يمكن للكيان المدمج تقديم تجارب جديدة ومحسنة؛ فعلى سبيل المثال، قد يقدم البنك المزيد من تقنيات الخدمة الذاتية للمساعدة في عملية تقديم طلب للحصول على قرض عقاري أو سيارة أو قرض تجاري، بما يسهل طبيعة العمليات المصرفية الطويلة والمعقدة أحياناً، ويختصر المزيد من الوقت.

5– وسيلة تكيف للتعامل مع الأزمات المصرفية: تُوافِق بعض البنوك في كثير من الأحيان على عمليات اندماج أو تقبل عروض استحواذ من قبل بنوك أكبر منها حجماً وأكثر مقدرةً ماليةً، باعتبار ذلك وسيلة للتكيف بشكل أفضل مع السوق المتقلبة وغير المستقرة ولتلبية احتياجات العملاء، بما يعزز مرونة البنك في التعامل مع الأزمات المصرفية، ويضمن لها الاستمرار والحفاظ على عملائها وتوفير سيولة مالية. وهو ما قد يتحقَّق وينجح بالفعل إذا تمكنت كلتا المؤسستين المندمجتين من الحفاظ على وضع العميل وتلبية احتياجاته في المقدمة. ولعل ما قد يدعمهما في ذلك الاستفادة من الاندماج في تحقيق دمج حقيقي على مستوى الخبرات والعمليات والتكنولوجيا، لتقديم مستوى من الخدمة أفضل مما كانا عليه سابقاً قبل الاندماج أو الاستحواذ.

اتجاهات واسعة

توجد اتجاهات عالمية ومؤشرات واضحة على التوجه العالمي نحو اندماج البنوك والاستحواذ على بعضها، وهي الاتجاهات والمؤشرات التي يمكن تناول أبرزها فيما يأتي:

1– اندماج بنك (HDFC) مع مؤسسة تمويل تنمية الإسكان: في أبريل 2022، أُعلِن عن قبول عرض الاندماج بين بنك "إتش دي إف سي" أكبر مقرض – وهو بنك خاص في الهند – وبين مؤسسة تمويل تنمية الإسكان (Housing Development Finance Corp). وعلى خلفية ذلك صرَّح بنك (HDFC) مؤخراً بأنه تلقى بعض التوضيحات من المنظم المصرفي فيما يتعلق بالاندماج المقترح مع مؤسسة تمويل تنمية الإسكان؛ وذلك بعد أن سعى البنك إلى بعض التخفيفات من جانب بنك الاحتياطي الهندي (RBI) لتسهيل عملية الاندماج، التي من المتوقع أن تدخل حيز التنفيذ بحلول يوليو هذا العام.

ومن بين تلك التخفيفات تلقِّي إعفاء في بعض المجالات الرئيسية؛ حيث قدم البنك الاحتياطي الهندي أكبر تخفيف في معايير إقراض القطاع ذات الأولوية (the priority sector lending)، لبنك إتش دي إف سي. وبموجب ذلك، يحتاج الكيان المصرفي إلى إقراض 40% من صافي الائتمان المصرفي المعدل لما يسمى قطاع الأولوية (priority sector)، أو الأقسام الأضعف اقتصادياً مثل الزراعة والشركات الصغيرة.

2– اندماج بنك جزر الفلبين مع بنك روبينسونس (Robinsons Bank): أُعلِن مؤخراً عن أن بنك جزر الفلبين (BPI) التابع لمجموعة أيالا القابضة Ayala Group عزز وجوده وسط اندماج مستمر مع بنك Robinsons Bank بقيادة مجوعة جوكونجوي Gokongwe . وعلى خلفية ذلك، يضع البنك هدفاً طموحاً لتنمية قاعدة عملائه بمقدار خمسة أضعاف لتصل إلى أكثر من 50 مليوناً في خمس سنوات. وبحسب ماريا كريستينا Maria Cristina رئيسة قسم الخدمات المصرفية للأفراد في بنك جزر الفلبين، في مقابلة أجريت حديثاً، فإن ذلك الهدف الصارم جاء في الوقت الذي يوسع فيه ثالث أكبر مقرض في الفلبين وجوده من خلال شراكات مصرفية تابعة، وفي إطار عملية اندماجه مع بنك روبينسونس.

3– اندماج بنك كريدي سويس مع يو بي إس: عقب إعلان إفلاس بنك سيليكون فالي وبنك سيجنتشر في مارس الماضي، تعرَّض بنك كريدي سويس لأزمة مالية دفعته إلى قبول عرض استحواذ من قبل بنك يو بي إس في 19 مارس 2023، في صفقة قُدِّرت بنحو 3.02 مليار يورو، وبضمانات مالية مقدمة من قبل الحكومة الاتحادية والبنك المركزي، بغية إنقاذ ثاني أكبر مصرف في سويسرا من الإفلاس. هذا وقد صرح بنك "يو بي إس"، يوم 25 أبريل 2023، بكونه يطمح إلى استكمال إجراءات الاستحواذ على منافسه كريدي سويس في نهاية يونيو المقبل.

4– احتمالات حدوث موجة اندماج بنوك في الولايات المتحدة: خلال عام 2021، حطمت الولايات المتحدة الرقم القياسي في عمليات الاندماج والاستحواذ المصرفي الأمريكي من حيث حجم الصفقات، غير أن الظروف قد تغيرت خلال عام 2022؛ فعلى الرغم من أنه كان عاماً قوياً مقارنة بالسنوات السابقة، فإن إبرام الصفقات تباطأ استجابةً للرياح الاقتصادية المعاكسة والانكماش المحتمل وحالة عدم اليقين الجيوسياسي؛ لذا انخفض حجم صفقة الاندماج والاستحواذ المصرفية بنسبة 37% في الأشهر التسعة الأولى من عام 2022 مقارنةً بالأشهر التسعة الأولى من عام 2021. غير أن الإفلاس الذي تعرَّض له بنك سيليكون فالي، والأزمة المصرفية الأمريكية التي كان لها انعكاساتها الواسعة؛ لا على أسواق المال في الولايات المتحدة فحسب، بل امتدت آثارها إلى كثير من الأسواق الأخرى؛ دفع إلى القول بأن البيئة الحالية تقدم فرصة ممتازة لزيادة حجم صفقات الاندماج والاستحواذ بين البنوك.

إذ يمتلك صانعو الصفقات غالباً قناعةً بأن العمل في أوقات عدم اليقين يُقدِّم فرصاً أكبر وأكثر احتماليةً لتحقيق عائدات إجمالية قوية للمساهمين. ووفق استطلاع حديث أجرته شركة McKinsey على 20 متخصصاً في تطوير الشركات في البنوك الأمريكية بأحجام مختلفة وبأولويات استراتيجية مختلفة؛ قال نحو 60% إن الأشهر الـ18 إلى الـ24 القادمة، من المحتمل أن توفر للبنوك فرصاً للاندماج والاستحواذ ذات قيمة أفضل من تلك التي تم تحقيقها خلال العامين الماضيين.

5– توجه متصاعد نحو اندماج البنوك في النرويج: تاريخياً، هيمنت بنوك الادخار على المشهد المصرفي في النرويج، لا سيما في المناطق الشمالية والغربية من الدولة؛ حيث كان لدى النرويج ما يقدر بـ100 بنك ادخار يخدم 4.5 مليون نسمة في نهاية عام 2022، غير أن التوقعات تشير إلى انخفاض هذا الرقم إلى أقل من 80 بنكاً بحلول عام 2025؛ وذلك على خلفية الموجة الحالية من اندماج البنوك التي تشهدها النرويج، خاصةً مع توقيع صفقة اندماج ثلاثية بين Skagerrak Sparebank وAndebu Sparebank وLarvikbanken في جنوب شرق النرويج، وهي الصفقة التي من المفترَض أن تقدم باعتبارها صفقة نهائية بحلول شهر مايو الجاري، وسيتم بمقتضاها إنشاء بنك ادخار جديد برأسمال 3.3 مليار دولار، يدخل حيز التنفيذ في عام 2024.

ولعل ذلك الاندماج في النرويج يعكس ارتفاعاً عاماً في عمليات الاندماج والاستحواذ (M&A) في جميع أنحاء الدول الاسكندنافية وأوروبا؛حيث تنتهج البنوك بشكل متزايد استراتيجيات نمو محلية وعابرة للحدود، وتركز بشكل أكبر على بلوغ الحجم والموهبة والكتلة الحرجة اللازمة للبقاء في الأسواق المعززة بالمنافسة التي يسكنها عدد متزايد من البنوك الرقمية وشركات التكنولوجيا المالية المتعطشة إلى العملاء التي تدخل سوق الإقراض.

مخاطر محتملة

إجمالاً، في الوقت الراهن، تتطلع كثير من البنوك إما إلى الاستحواذ على بنك آخر وإما إلى الاندماج مع غيره في سبيل توسيع نطاق عملياتها وإمكاناتها وتطوير قدراته وخفض التكاليف التنظيمية، وهو التوجه الذي من المحتمل انتهاجه عالمياً في ظل تعقُّد الأزمات الاقتصادية والمصرفية لتجنُّب مخاطر الإفلاس وسوء إدارة المخاطر والأزمات، غير أن اندماج البنوك أو الاستحواذ عليها لا يخلو من بعض العيوب الجوهرية.

وقد يكون من تلك العيوب، مخاطر التنفيذ التي تمثل الخطر الرئيسي المحتمل في عمليات اندماج البنوك؛ إذ إنه في بعض الحالات، لا يلتزم المسؤولون التنفيذيون المصرفيون بالوقت والموارد الكافية للجمع بين المنصتين المصرفيتين معاً، بما يؤثر بشكل سلبي ومباشر على عملائهما، ويدفع بالتبعية نحو فشل البنك المدمج حديثاً، وإن كان من الممكن تجنب ذلك، من خلال تخصيص موارد كافية لتحقيق التكامل التام بين المؤسستين.

أضف إلى ذلك، أنه عند إعلان الاندماج أو الاستحواذ، غالباً ما يستجيب العملاء بأسلوب عاطفي للغاية مع عمليات الاستحواذ المصرفية، خاصةً مع البنوك الاجتماعية الصغيرة؛ لذلك فإن من الضروري أن تدير البنوك المندمجة تصور العميل من خلال التواصل المنتظم والحذر. وبمجرد أن يتم الدمج أو الاستحواذ بشكل كامل، لا بد أن تضع البنوك في اعتبارها التأثير المحتمل على عملائها في كل مرحلة؛ إذ من شأن أي تغيير في الأنظمة الأساسية التكنولوجية أو المنتجات المالية، أن يؤثر سلباً على عملائها إذا لم يتم إيلاؤهم الاهتمام الكافي.

ويتمثل الخطر الأخير الذي يجب على البنوك المندمجة أخذه في اعتبارها، أثناء عملية الاندماج أو الاستحواذ التالية، في عدم وجود ثقافة مخاطر وامتثال موحدة؛ فعندما تتعامل كل مؤسسة مالية مع الامتثال المصرفي واللوائح المصرفية الفيدرالية بصورة مختلفة، يحدث نوع من التضارب والتعارض؛ لذا من الهام جداً أن يتفق البنكان المندمجان على نهج موحد؛ لتجنُّب الوقوع في صدامات؛ إذ إنه عندما تصطدم ثقافتان غير متطابقتين من حيث المخاطر أثناء اندماج مصرفي، تتأثر ربحية البنكين بالسلب مستقبلاً، إذا لم يتوصَّلا إلى حل عملي.

أبعاد تصاعد عمليات اندماج البنوك عالمياً