تأتي زيارة الرئيس الجزائري "عبد المجيد تبون" إلى الصين لملاقاة نظيره "شي جين بينج" خلال الفترة (17–21) يوليو الجاري، ضمن نشاط الدبلوماسية الرئاسية المتنامي خلال الآونة الأخيرة. ورافق الرئيس الجزائري وفد رسمي رفيع المستوى مكون من وزراء الخارجية والمالية والطاقة والإسكان والتجارة، وقد تم التحضير لهذه الزيارة في مارس الماضي؛ حيث عُقدت عدة اجتماعات فنية بين مسؤولين جزائريين وصينيين للتحضير للملفات السياسية والاقتصادية، كما تأتي بعد استقبال الرئيس الجزائري سفير جمهورية الصين الشعبية لدى الجزائر "لي ليانهي" في مارس 2022. وتعد هذه الزيارة أول زيارة يقوم بها الرئيس الجزائري الحالي إلى الصين منذ وصوله إلى السلطة في عام 2019، وهي الزيارة التي تتزامن مع الذكرى الخامسة والستين لنشأة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين. ويمكن القول بوجود العديد من الدلالات المؤثرة المرتبطة بهذه الزيارة، لا سيما مع مساعي الجزائر لتنويع علاقاتها مع القوى الدولية المؤثرة في النظام الدولي دون الانحياز إلى طرف بعينه.

دلالات مؤثرة

ثمة عدد من الدلالات المؤثرة المرتبطة بزيارة الرئيس الجزائري إلى جمهورية الصين الشعبية، وهي الدلالات المتمثلة فيما يلي:

1– تعزيز التوجه نحو الشرق لموازنة الضغوط الغربية: تسعى الجزائر إلى تعزيز وتجديد أواصر التعاون الوثيق مع الأقطاب المؤثرة في النظام الدولي على مستوى العالم الشرقي، وعلى رأسها روسيا الاتحادية والصين، وهو ما تبلور بشكل جلي خلال الآونة الأخيرة؛ حيث قام الرئيس الجزائري "عبد المجيد تبون" بزيارة رسمية إلى روسيا الاتحادية في منتصف يونيو الماضي، وهي الزيارة التي شارك من خلالها في منتدى "سان بطرسبرج" الاقتصادي الدولي، وهو ما شكَّل دفعة للعلاقات الثنائية بين الطرفين، ولا سيما في ظل الموقف الجزائري المحايد من الحرب الروسية–الأوكرانية؛ حيث حافظت الجزائر على تبني خيار "الامتناع عن التصويت" في مختلف القرارات الأممية المتعلقة بهذه الحرب.

وتأتي زيارة الرئيس الجزائري إلى الصين لتعزيز التوجه نحو الشرق، ولا سيما في ضوء ما تشهده العلاقات مع العديد من الدول الأوروبية التقليدية من تراجع ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، وعلى رأسها فرنسا "المستعمر القديم" من جانب، ورغبة الجزائر من جانب آخر في التحرر من القيود والضغوط الغربية المرتبطة بالتفاعلات الاقتصادية التي تنظر إليها على أنها تكرس للتبعية، أكثر من كونها مستندة إلى أسس الشراكة المتوازنة.

2– تنشيط وتيرة السياسة الخارجية الجزائرية: تأتي هذه الزيارة في محاولة من القيادة السياسية الجزائرية لتعويض حالة التراجع في إدارة ملف الشؤون الخارجية خلال الولايتين الأخيرتين للرئيس الجزائري الأسبق "عبد العزيز بوتفليقة"، وضخ دماء مستمرة من أجل تنشيط تفاعلات الجزائر حيال دوائر الحركة الاسترتيجية للمجال الخارجي لها، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، وهو ما تبلور من خلال حالة النشاط الدبلوماسي خلال الآونة الأخيرة؛ وذلك عبر تدشين العديد من الزيارات الرئاسية إلى دول عديدة في دوائر جغرافية مختلفة، على غرار الزيارة الرسمية التي أُجريت إلى قطر في منتصف يوليو الجاري، والتي تعد الثالثة من نوعها للرئيس الجزائري "تبون" منذ وصوله إلى السلطة في عام 2019، وكذلك زيارته إلى تركيا في يوليو الجاري، التي تعد الثانية من نوعها للرئيس بعد زيارة أُجريت في مايو 2022، وقد سبق هاتين الزيارتين، زيارتان رسميتان إلى كل من البرتغال في أواخر مايو من العام الجاري، وإيطاليا في مايو 2022. ويضاف إلى ذلك استضافة الجزائر فعاليات القمة العربية في نوفمبر 2022.

3– السعي إلى الانخراط في تجمعات دولية فاعلة: تبلور ذلك بشكل جلي من خلال مساعي الجزائر للانضمام إلى "منظمة شنجهاي للتعاون" (SCO) عضواً مراقباً، وكذلك إلى تجمع "بريكس" الذي أصبحت عضويته تمثل أولوية دبلوماسية للجزائر، ولا سيما في ظل وجود تقلبات جذرية في مؤشرات وأوضاع الاقتصاد العالمي بفعل الحرب الروسية–الأوكرانية التي بدأت في أواخر فبراير 2022. ويعد هذا التجمع بمنزلة إطار مؤسسي متعدد الأطراف، تأسس بمبادرة روسية في الأصل، وعُقد أول مؤتمر له في عام 2009، ويضم حالياً خمس دول؛ هي (روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا). ويهدف التجمع إلى تعزيز الحوار والتعاون المشترك من أجل تعزيز المصالح المشتركة لاقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية، ومن ثم يُنظر إليه باعتباره قوة موازنة ضد الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي؛ حيث يمثل نحو (30%) من حجم الاقتصاد العالمي، كما يمثل نحو (26%) من مساحة العالم، ويمثل سكان الدول الأعضاء في إطاره نحو (43%) من سكان العالم، كما ينتج أكثر من ثلث إنتاج الحبوب في العالم.

وقد أكدت الجزائر أنها استوفت جزءاً كبيراً من المعايير الاقتصادية للانضمام إلى هذا التجمع في عام 2022، كما شارك الرئيس الجزائري "تبون" في قمة التجمع الافتراضية في أواخر يونيو الماضي، التي دعا الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" خلالها قادة المجموعة إلى التعاون في مواجهة الأعمال الأنانية من قِبل الغرب، كما توجه الرئيس الجزائري بطلب للحصول على دعم روسيا لانضمام الجزائر إلى التجمع؛ وذلك خلال زيارته إليها في يونيو الماضي، كما استهدف الحصول على الدعم الصيني في هذا الشأن، وهو ما شكَّل إحدى نقاط الحديث والتركيز بين الجانبين خلال زيارة الرئيس الجزائري إلى الصين في يوليو الجاري.

مضامين محورية

ثمة العديد من المضامين المحورية التي انطوت عليها زيارة الرئيس الجزائري "تبون" إلى الصين، والتي عكسها بشكل مباشر البيان الختامي المشترك للزيارة، وهي المضامين المتمثلة فيما يلي:

1– تعزيز أطر التعاون الاستراتيجي بين الجانبين: تبلور ذلك من خلال تأكيد أهمية وجوهرية الوثائق الضابطة لواقع ومستقبل التعاون البيني المشترك، ولعل من بينها "الخطة الخماسية الثانية للتعاون الاستراتيجي الشامل 2022–2026″، التي تم تبنيها في نوفمبر 2022، والتي تهدف إلى تكثيف التعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة والطاقة والزراعة والعلوم والتكنولوجيا والفضاء والصحة والتواصل الإنساني والثقافي، و"الخطة التنفيذية للبناء المشترك لمبادرة الحزام والطريق" التي انضمت إليها الجزائر منذ عام 2018، و"الخطة الثلاثية للتعاون في المجالات الهامة 2022–2024″. وقد قام الطرفان بالتوقيع على كلتا الوثيقتين السابقتين في ديسمبر 2022؛ علماً بأن العلاقات البينية القائمة بين الطرفين ذات جذور تاريخية ممتدة؛ حيث كانت الصين أول دولة غير عربية تعترف بالحكومة الجزائرية المؤقتة في عام 1958، التي تأسست إبان معركة التحرير والاستقلال الوطنية في مواجهة الاستعمار الفرنسي. وقد شهدت هذه العلاقات البينية تحولاً جذرياً في عام 2014؛ حيث ارتقت إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة، وهو ما جعل الجزائر أول دولة عربية تصل إلى مثل هذه الشراكة مع الصين.

وفي هذا الصدد، شهدت الزيارة الأخيرة التوقيع على (19) اتفاقية بين الطرفين في قطاعات عدة تشمل الفضاء والزراعة والطاقة والنقل بالسكك الحديدية والعلوم والتكنولوجيا والاتصالات والتعليم والرياضة والتنمية الحضرية المستدامة والتجارة والتفتيش والحجر الصحي.

وكذلك تم الاتفاق على استثمار الصين نحو (36) مليار دولار في الجزائر في قطاعات تشمل التصنيع والتكنولوجيا الجديدة واقتصاد المعرفة والنقل والزراعة. كما تم الاتفاق على تعزيز التعاون المشترك في مجال الرعاية الصحية، ومواصلة تقديم الصين المنح الحكومية للجزائر، وتعميق التعاون في المجالات التقليدية مثل البنية التحتية والبتروكيماويات والتعدين، وتوسيع التعاون في مجالات صناعة السيارات، وعلوم الفضاء، والثقافة والسياحة، وبناء الموانئ والخدمات اللوجستية وتحلية المياه، والبنى التحتية، والصناعات التحويلية، والتعدين، والقطاع المالي والاقتصاد الرقمي، والطاقة والمناجم، والتعليم والبحث العلمي وتدريس اللغة الصينية والإعلام، والإدارة الضريبية والجمارك، ومكافحة الفساد.

2– تفعيل مجالات التعاون الاقتصادي المشتركة: شكَّل الجانب الاقتصادي أحد أبرز مضامين هذه الزيارة، وهو ما عكسه البيان الختامي المشترك لها، الذي أشار إلى عدد من الأمور تتمثل أهمها في استهداف تعميق الشراكة الاقتصادية في كافة المجالات، والعمل على زيادة حجم التبادل التجاري وتسهيل صادرات الجزائر غير النفطية إلى الصين، وزيادة حجم الاستثمارات النوعية الصينية بين البلدين في ظل الامتيازات المتعددة التي يقدمها قانون الاستثمار الجديد بالجزائر، وتعزيز العمل للاستفادة من الفرص التجارية والاستثمارية المتاحة، وتكثيف التواصل والزيارات بين القطاعين العام والخاص في البلدين.

وفي الواقع الفعلي، أصبحت الصين المصدر الأول للواردات الجزائرية، متقدمةً بذلك على الشريكين التقليديين فرنسا وإيطاليا؛ حيث ارتفعت من نحو (400) مليون دولار في عام 2003 إلى نحو (8) مليارات دولار في عام 2022، كماتعد الصين أول ممول تجاري للجزائر منذ 2019 بنحو (17%) (بما يعادل 9 مليارات دولار).

وعلى مستوى الاستثمارات الصينية في الجزائر، فقد شهدت تصاعداً ملحوظاً خلال السنوات الماضية؛ فقد بلغ حجمها نحو 1.72 مليار دولار في عام 2021. وترتكز معظم الاستثمارات الصينية على قطاع البناء والتشييد، وقد وقَّع الطرفان على اتفاق للمساهمين لاستثمار نحو (7) مليارات دولار لإنتاج (5.4) مليون طن من الأسمدة سنوياً في منطقة "تبسة" الجزائرية في مارس من العام الجاري.

3– تسريع تنفيذ المشروعات الحيوية: تستهدف الجزائر تسريع تنفيذ العديد من المشروعات الاقتصادية الحيوية بتمويل وشراكة صينية، بما في ذلك مشروع استغلال رواسب الحديد في "غارا جبيلت" بولاية "تندوف" الجنوبية الغربية، كما وقَّعت شركة "كونسورتيوم" الصينية مذكرة تفاهم مع شركة حكومية جزائرية لاستغلال رواسب الحديد، كما يوجد العديد من المشروعات المشتركة الواعدة بين البلدين، وعلى رأسها الاستخراج والاستفادة من معدن الفوسفات، الذي اكتشفته الجزائر في الجنوب بالشراكة مع الصين، وكذلك قامت الصين باستثمارات ملحوظة في الجزائر في قطاع الطاقة، ولعل من بينها العقد القائم بين مجموعة النفط والكيميائيات الصينية "سينوبيك"، وشركة "سوناطراك" الجزائرية. وقد قام مسؤولون من هذه الشركة بزيارة الصين في مايو من العام الجاري لبحث التعاون في مجال الطاقة وتوقيع عقد تسليم الغاز مع شركائهم الصينيين.

4– تكريس الفهم المشترك حيال القضايا الأمنية: تبلور ذلك من خلال تأكيد تعزيز التعاون في مجال الأمن والدفاع الوطني القائم على حماية السيادة الوطنية والسلامة الإقليمية لكل منهما، وبلورة ثوابت للحركة المشتركة حيال إدارة الملفات الإقليمية والدولية التي تشكل تهديداً لواقع السلم والأمن الدولييَّن؛ حيث تم التوافق على تسوية الحرب الروسية–الأوكرانية بالوسائل السلمية في ضوء قواعد القانون الدولي وقرارات المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، وتفادي اللجوء إلى تبني العقوبات الأحادية الجانب، وغيرها من الإجراءات القسرية في التعامل مع هذه الحرب القائمة. وكذلك تأكيد دعم بدائل التسوية السلمية للقضايا والأزمات المشتعلة في المنطقة العربية والأفريقية، وعلى رأسها سوريا وليبيا واليمن والسودان؛ وذلك من خلال الحوار والتشاور القائم على احترام سيادة دول المنطقة واستقلالها وسلامة أراضيها ورفض التدخلات الأجنبية.

هذا بالإضافة إلى التوافق بشأن ضرورة دعم العمل المشترك في مواجهة التنظيمات الإرهابية المتطرفة التي تشكل تهديداً للواقع القانوني للدولة الوطنية، ودعم الجهود المبذولة لتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية في بعض الدول، مثل لبنان والصومال والسودان، فضلاً عن دعم جهود المؤسسات المتعددة الأطراف الرامية إلى إقرار وحفظ السلام؛ فعلى سبيل المثال، تم التوافق على دعم جهود الأمم المتحدة الرامية للوصول إلى حل دائم وعادل بشأن قضية الصحراء بما يكفل لشعب هذه المنطقة تقرير مصيره في ضوء ميثاق الأمم المتحدة الصادر في عام 1945.

5– تبادل الدعم والتنسيق على المستويين الإقليمي والدولي: تبلور ذلك من خلال تقديم الجزائر الدعم لموقف الصين بشأن مصالحها الجوهرية، ولعل على رأسها مبدأ "الصين الواحدة"، ومعارضة استقلال تايوان بأي شكل من الأشكال، والقضايا المتعلقة بحقوق الإنسان، ومعارضة محاولات تسييس هذه القضايا أو استعمالها وسيلة ضغط في العلاقات الدولية، ودعم المبادرات الصينية، وعلى رأسها مبادرة التنمية العالمية (GDI) ومبادرة الأمن العالمي (GSI) ومبادرة الحضارة العالمية (GCI) ومبادرة "الحزام والطريق"، كما تساند الجزائر الدور الرئيسي للصين بشأن تعزيز وجود نظام عالمي أكثر انفتاحاً وشموليةً وعدالةً وعقلانيةً، وكذلك دعم دورها البناء في البحث عن حلول عادلة للبؤر الإقليمية المشتعلة، مثل قضية الصراع العربي–الإسرائيلي.

وفي المقابل، أعربت الصين عن استعدادها للعمل مع الجزائر لتسريع تنفيذ نتائج القمة الأولى الصينية–العربية التي انعقدت في مدينة "الرياض" في ديسمبر 2022، وتعزيز التعاون في إطار "منتدى التعاون الصيني الأفريقي" المعروف اختصاراً باسم "فوكاك"، الذي ينعقد بانتظام منذ تأسيسه في عام 2000، كما دعمت الصين مسألة انتخاب الجزائر عضواً غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة خلال الفترة (2024–2025)، وكذلك أكدت استعدادها لتعزيز التنسيق والتعاون المشترك مع الجزائر في محافل الأمم المتحدة وغيرها من المحافل المتعددة الأطراف لدعم النظام الدولي المرتكز على القانون الدولي والمعايير الأساسية للعلاقات الدولية القائمة على مقاصد ومبادئ العدالة المشتركة.

وختاماً، يمكن القول إن زيارة الرئيس الجزائري "تبون" إلى الصين تأتي ضمن الصياغة الجديدة لمصفوفة ومنظومة التفاعلات الخارجية التي تتحرك في إطارها الجزائر خلال السنوات الأخيرة، والتي تعتمد على تحقيق التوازن الاستراتيجي المطلوب في سياستها وعلاقاتها الخارجية؛ حيث سعت إلى تطوير علاقات مع الأقطاب المؤثرة في العالم الشرقي، وعلى رأسها روسيا والصين من جانب، وبناء علاقات مستقرة مع بعض دول أوروبا الغربية من جانب آخر، وهو ما من شأنه أن يقلل من التأثيرات السلبية لواقع سياسات التنافس الدولي المتصاعدة منذ بدء الحرب الروسية–الأوكرانية في أواخر فبراير من العام الماضي، التي أعادت معها إلى الأذهان بلورة سياسات الاستقطاب الدولي التي كانت قائمة بين المعسكرين الغربي والشرقي في مرحلة الحرب الباردة.

ما أبعاد زيارة الرئيس الجزائري إلى الصين؟