ميرال حسين

شكلت دول شرق أوروبا، بما فيها بيلاروسيا، واحدة من المناطق الرئيسية للتحركات الصينية على مدار السنوات الماضية؛ حيث تقدم هذه الدول فرصاً سياسية واقتصادية هامة، سواء من خلال تعزيز حضورها السياسي، إذ تعتبر هذه الدول بوابة لأوروبا، أو حتى عبر توسيع استثماراتها في هذه الدول وتحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة. أضف إلى ذلك أن بعض هذه الدول وخاصة بيلاروسيا باتت محسوبة على المحور الساعي إلى إحداث تغييرات جوهرية في بنية النظام الدولي الراهن. وفي هذا الصدد، يُمكن فهم الزيارة التي أجراها رئيس مجلس الدولة الصيني "لي تشيانج" إلى بيلاروسيا، في أغسطس 2024، والتي شكّلت لحظة مهمة في تطور العلاقات الصينية البيلاروسية الجارية؛ حيث أكدت على تعميق العلاقات بين البلدين، وتميزت الزيارة بالتزام مشترك من الدولتين بتعزيز شراكتهما الاستراتيجية.تطور تدريجيعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، تطورت العلاقات بين الصين وبيلاروسيا بشكل تدريجي من العلاقات الدبلوماسية الأساسية إلى شراكة استراتيجية شاملة، ويتجلى هذا التوجه بوضوح في:1- تزايد معدلات الانفتاح السياسي: شهدت السنوات الماضية تزايد معدلات الانفتاح السياسي بين الصين وبيلاروسيا، وهو ما ظهر -على سبيل المثال- مع اللقاءات المتكررة بين مسؤولي الدولتين وذلك على غرار اللقاء الذي جمع الرئيس الصيني بنظيره البيلاروسي في يوليو 2024 على هامش قمة منظمة شانغهاي للتعاون في أستانة. وتبلور ذلك أيضاً في الزيارة الأخيرة لرئيس مجلس الدولة الصيني "لي تشيانج" إلى بيلاروسيا، والذي أكد حينها على أن العلاقات الثنائية تقدمت بسرعة منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية قبل 32 عاماً، مسلطاً الضوء على الصداقة الطويلة الأمد بين الصين وبيلاروسيا.لقد نجحت الدولتان على مدار سنوات في إنشاء حوارات رفيعة المستوى، ومن ثم تعزيز رابطة سياسية قوية مدعومة بوجهات نظر مشتركة بشأن الحوكمة العالمية والدعم المتبادل في المنتديات الدولية. بالإضافة إلى تعزيز الثقة المتبادلة المدعومة بالمصالح الجيوسياسية المشتركة. كذلك حافظ البلدان على اتصالات سياسية وثيقة، وهو ما انعكس في توافقهما بشأن القضايا الدولية الرئيسية والدعم المتبادل في المنتديات العالمية. وقد دعمت بيلاروسيا باستمرار المصالح الأساسية للصين، مثل سياسة الصين الواحدة، في حين دعمت الصين بيلاروسيا في سياساتها الداخلية والخارجية.2- تطور العلاقات الاقتصادية المشتركة: اتسمت التجارة الثنائية بين البلدين بالنمو السريع؛ حيث أصبحت الصين الآن أكبر شريك تجاري لبيلاروسيا في آسيا، ولاعباً رئيسياً في المشهد الاقتصادي لبيلاروسيا. وبلغ حجم التجارة الثنائية أكثر من 8.4 مليارات دولار في عام 2023، ووقع الجانبان اتفاقيات لتعزيز التجارة في الخدمات والاستثمار والتعاون في مختلف القطاعات، بما في ذلك سلاسل التوريد الصناعية والزراعة والتكنولوجيا. وأصبح المجمع الصناعي الصيني البيلاروسي مشروعاً رئيسياً يرمز إلى تعاونهما الاقتصادي، مما يوضح التآزر الاقتصادي بين البلدين. وقد تعزز هذا التآزر من خلال المشاركة النشطة لبيلاروسيا في مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، والتي أدت إلى مشاريع بنية تحتية واستثمارية كبيرة.وفي سياق متصل، أصبح التطوير المشترك للحديقة الصناعية الصينية البيلاروسية، وهو مشروع رائد في إطار مبادرة "الحزام والطريق"، نقطة محورية للتعاون الصناعي عالي الجودة؛ حيث يهدف هذا المشروع إلى تعزيز الابتكار والتصنيع المتقدم، ليكون بمثابة مركز رئيسي للتجارة بين الصين وأوروبا.3- دعم التعاون العسكري: تجري الصين وروسيا تدريبات عسكرية متعددة آخرها كان في يوليو 2024، وهي المناورات التي أثارت مخاوف عدد من الدول الغربية وفي مقدمتها بولندا. ومع ذلك، في حين لم يكن التعاون العسكري هو المحور الأساسي، فإن الدعم المتبادل في المسائل الأمنية، وخاصة في معارضة التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية؛ يشير إلى تعميق التوافق الاستراتيجي. كما يشير اعتماد بيلاروسيا على التكنولوجيا الصينية والمعارضة المشتركة للعقوبات الغربية إلى تعاون عسكري وأمني محتمل.4- توسيع الشراكات العلمية بين الدولتين: يتم إضفاء الطابع المؤسسي على التعاون في مجال العلوم والتكنولوجيا من خلال المختبرات المشتركة ومراكز البحوث والمتنزهات التكنولوجية العالية. ويشمل هذا تعزيز التبادلات الأكاديمية والمشاريع المشتركة، والتي من المتوقع أن تدفع الابتكار ونقل المعرفة.5- زيادة التوافق الاستراتيجي بشأن القضايا العالمية: إذ تعمل الصين وبيلاروسيا على توحيد مواقفهما بشأن القضايا العالمية الرئيسية، وتعزيز شراكتهما على الساحة الدولية. فعل سبيل المثال، أكدت الدولتان في بيان مشترك نشر في إطار الزيارة الرسمية لرئيس مجلس الدولة الصيني، لي تشيانغ، إلى بيلاروسيا في شهر أغسطس 2024، معارضتهما لتدخل القوى الخارجية في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، مؤكدتين على أهمية السيادة وعدم التدخل. كذلك أكد البيان المشترك على دعم الحلول السلمية للقضايا الإقليمية والحوار الثنائي البنّاء.محددات متنوعةيرتبط التقارب المتزايد بين الصين وبيلاروسيا بعددٍ من العوامل الرئيسية المتمثلة فيما يلي: 1- العلاقات المشتركة مع روسيا: تتمتع كل من الصين وبيلاروسيا بعلاقات قوية مع روسيا، وتشكل هذه العلاقات عاملاً رئيسياً في تعزيز العلاقات بين الصين وبيلاروسيا، ويجمع بين الدول الثلاث في اللحظة الراهنة مصلحة مشتركة متعلقة بضرورة إعادة تشكيل النظام الدولي، كما تتبنى الدول الثلاث تقريباً السردية نفسها المتعلقة بالصراع الأوكراني والمواجهة مع الغرب وحلف الناتو.2- التوسع الاستراتيجي للصين في شرق أوروبا: تهدف الصين إلى توسيع نفوذها في أوروبا الشرقية، وتعمل بيلاروسيا كمركز حاسم لمبادرات مثل مبادرة "الحزام والطريق". حيث يجعل الموقع الاستراتيجي لبيلاروسيا شريكاً أساسياً في المبادرة الصينية، وخاصة بالنسبة لقطارات الشحن بين الصين وأوروبا، مما يسهل طموحات الصين الأوسع لتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي في المنطقة، ويجعل بيلاروسيا شريكاً أساسياً في جهود بكين لتعزيز الاتصال بأوروبا. وتتصل سياسة الصين تجاه بيلاروسيا بسياسة أوسع متعلقة بتحركات بكين في أوروبا الشرق؛ إذ تراهن الصين على تطوير شراكتها وتحالفاتها مع عدد من دول المنطقة، ولعل هذا ما يتجلى في التطور الحادث في العلاقات مع كل من المجر وصربيا.3- المصالح الاقتصادية المشتركة: تشكل المصالح الاقتصادية المشتركة بين بيلاروسيا والصين محفزاً مهماً للتقارب بين الدولتين، فبيلاروسيا طرف مهم بالنسبة لمبادرة "الحزام والطريق"، كما أن ثمة مساعي بيلاروسية لتعظيم الاستثمارات الصينية في قطاعاتها المختلفة. كما تعمل الدولتان على توسيع استخدام العملات المحلية في التجارة والاستثمار، وإنشاء نظام فعال لتسوية العملة المحلية. وتهدف هذه الخطوة إلى الحد من الاعتماد على العملات العالمية وتعزيز السيادة الاقتصادية.4- موازنة الضغوط الغربية المتزايدة: تشترك الدولتان في ملف العلاقات المتوترة مع الدول الغربية، وإن كان الوضع في حالة بيلاروسيا أكثر تعقيداً. فالدول الغربية تُمارس ضغوطاً هائلة على النظام البيلاروسي خلال السنوات الماضية، سواء لاعتبارات متعلقة بقضايا الداخل البيلاروسي والانتقادات الأوروبية المستمرة لسياسات النظام، أو حتى لاعتبارات التحالف الوثيق بين روسيا وبيلاروسيا، واعتبار الدول الغربية بيلاروسيا طرفاً داعماً لموسكو في حربها ضد أوكرانيا.وعلى الجهة الأخرى، تُواجه بكين إشكاليات رئيسية في العلاقات مع الدول الغربية تبلورت في التحركات الغربية المناهضة لبكين في مناطق نفوذها التقليدية، وخاصة في منطقة الهندوباسيفيك، ناهيك عن توظيف الدول الغربية ملف تايوان في الضغط على الصين، أضف إلى ذلك الصراع التجاري المتصاعد بين الدول الغربية وبكين، وتوجّه العديد من هذه الدول إلى فرض رسوم على عددٍ من الواردات الصينية. كما تعتبر العديد من الأوساط الغربية أن الصين طرف داعم لموسكو في حرب أوكرانيا، وذلك بالرغم من ترويج بكين لبعض مبادرات تسوية الحرب.5- توفير أدوات لبكين للضغط على الغرب: توفر العلاقات مع بيلاروسيا لبكين أدوات للضغط على الدول الغربية، والرد على التحركات الغربية في مناطق النفوذ التقليدي لها، حيث شهدت السنوات الماضية مساعي العديد من الدول الغربية لتطوير حضورها في منطقة الهندوباسيفيك، كما حرص حلف الناتو على تعزيز علاقاته مع عددٍ من دول المنطقة، وخاصة اليابان وكوريا الجنوبية. ومن هذا المنطلق يعني التقارب مع بيلاروسيا التواجد الصيني بالقرب من الدول الأوروبية، والضغط على دول حلف الناتو. ولعل هذا ما دللت عليه المناورات العسكرية المشتركة "هجوم الصقور 2024" التي جرت بين الدولتين في بريست جنوب غرب بيلاروسيا، في شهر يوليو 2024؛ إذ أثارت هذه التدريبات مخاوف بولندا، وذكرت وزارة الدفاع البولندية حينها أنها "تراقب وتحلل باستمرار الوضع على الحدود.. وكذلك التدريبات الصينية البيلاروسية"، وأضافت: "على الرغم من الإعلان عن مشاركة محدودة النطاق لقوات وموارد جمهورية الصين الشعبية، ترى وزارة الدفاع خطورة في أن يتم استخدام هذه العمليات لأغراض التضليل والدعاية بمناسبة&nbsp;قمة&nbsp;الناتو التي تبدأ في واشنطن".وختاماً، تسلط التطورات في العلاقات بين الصين وبيلاروسيا الضوء على الآثار الأوسع نطاقاً على الاستقرار الإقليمي والجيوسياسي العالمي؛ حيث إن العلاقات المتعمقة بين هاتين الدولتين تعمل كنموذج للتعاون البراجماتي في بيئة دولية معقدة وسريعة التغير. وبالتالي، من المتوقع أن تؤثر هذه الشراكة المتنامية بين الصين وبيلاروسيا، والتي تدعمها اعتبارات استراتيجية واقتصادية وسياسية، على المشهد الجيوسياسي الأوسع، مما ينعكس ليس فقط على أوروبا الشرقية، ولكن أيضاً على ديناميكيات القوة العالمية.

كيف تعمقت العلاقات بين الصين وبيلاروسيا؟