إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

قرر المجلس العسكري الحاكم في مالي، في 4 أغسطس 2024، قطع العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا على خلفية اتهامها بالتورط في الهجوم الإرهابي الذي نفذته عناصر مسلحة تابعة للإطار الاستراتيجي للدفاع عن أزواد في منطقة تينزاوتين أقصى شمال مالي ضد قوات الجيش المالي وعناصر من مجموعة فاجنر الروسية في يوليو 2024، وأسفر عن مقتل العشرات من الجنود الماليين وحلفائهم.وتزامن مع هذه الخطوة التصعيدية إعلان الحكومة المالية نيتها إحالة تصريحات بعض المسؤولين الأوكرانيين، التي تشكل دعوة للإرهاب إلى الجهات القضائية المختصة، وهي التصريحات التي اعتبرتها بمنزلة اعتراف بالتورط وانتهاك للسيادة الوطنية المالية، إضافة إلى إرسال تنبيه إلى الهيئات الإقليمية والدولية وكذلك للدول التي تدعم أوكرانيا بأنها داعمة للإرهاب بشكل علني وواضح.وهو ما رحَّبت به موسكو التي أعلنت دعمها لباماكو في مواجهة الإرهاب، بجانب إعلان النيجر أيضاً قطع العلاقات الدبلوماسية مع كييف، وكذلك إعلان بوركينا فاسو تضامنها مع المجلس العسكري المالي الحاكم، وإرسال بعض القوات العسكرية للمساعدة في احتواء تمرد بعض الحركات الأزوادية في الشمال المالي، عقب الهجوم الأخير، كما استدعت الحكومة السنغالية السفير الأوكراني لدى داكار للتنديد بمقطع فيديو يرحب فيه بالعملية الإرهابية في شمال مالي، وهو مقطع كانت السفارة الأوكرانية قد نشرته عبر الصفحة الرسمية لها على فيسبوك.وإن كان البعض قد قلَّل من قرار باماكو بقطع العلاقات مع الجانب الأوكراني؛ نظراً إلى محدودية مسارات العلاقات بين البلدين، وخاصةً على المستوى الاقتصادي، بما يثير تساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء هذا القرار؛ إلا أن الحكومة الأوكرانية قد نددت بقرار باماكو، ووصفته بالمتسرع والقصير النظر، فضلاً عن رفضها المزاعم بشأن الدعم الأوكراني للإرهاب الدولي، في الوقت الذي تسعى فيه كييف إلى حشد الدعم الأفريقي بجانبها ضد موسكو، في ظل استمرار الصراع الروسي الأوكراني.دلالات كاشفةيحمل قرار الحكومة المالية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا العديد من الدلالات الكاشفة لدوافعها من هذه الخطوة التصعيدية، ويمكن الإشارة إلى أبرز هذه الدلالات على النحو التالي:1– تورط أوكراني في هجوم شمال مالي ضد قوات الجيش وعناصر فاجنر: وهو ما كشفته تصريحات أندريه يوسوف المتحدث باسم الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، الذي ادَّعى فيها تقديم معلومات حيوية للمتمردين الأزواد لتنفيذ الهجوم المسلح، إضافة إلى ترحيب السفير الأوكراني لدى السنغال بالعملية التي استهدفت عناصر فاجنر في الشمال المالي، وهو ما قد يعني وجود علاقة تربط بين أوكرانيا والتنظيمات الإرهابية في شمال مالي؛ الأمر الذي دفع السلطات المالية إلى اتخاذ قرارها بقطع العلاقات مع كييف.2– رفض باماكو انتهاك السيادة الوطنية: ترفض مالي أن تصبح أراضيها بمنزلة مسرح عملياتي للدول الغربية، لا سيما أوكرانيا وروسيا، لتصفية حساباتها بعضها مع بعض؛ إذ تشعر باماكو – شأنها شأن معظم دول الساحل – بتوجس دائم تجاه انتهاك سيادتها الوطنية على أراضيها؛ ما يجعل الخطوة الأخيرة بمنزلة رسالة تحذيرية إلى الأطراف الدولية والإقليمية، لا سيما دول الجوار المباشر؛ خشية التعرض لقطع العلاقات مع باماكو.3– محاولة النظام المالي الخروج من أزماته الداخلية: يبدو أن المجلس العسكري الحاكم المالي يرغب في القفز على أزماته الداخلية، خاصةً فيما يتعلق بإخفاق الجيش المالي وفاجنر في احتواء التهديدات الأمنية، من خلال تصدير بعض الأزمات الخارجية؛ بحيث يلقي الضوء على التدخلات الأجنبية في الشأن الداخلي المالي والدعم الخارجي للمجموعات المتمردة في شمال البلاد؛ وذلك للحيلولة دون توجيه الاتهامات للقوات المالية وحلفائها بعدم القدرة على مواجهة التنظيمات الإرهابية والمجموعات المتمردة المسلحة.4– تأكيد دعم حكومة مالي لموسكو: تعكس خطوة باماكو الأخيرة حرصها على دعم موسكو في حربها ضد أوكرانيا المستمرة منذ فبراير 2022؛ وذلك من خلال الترويج لضلوع أوكرانيا بدعم الإرهاب من أجل الهيمنة والاستعمار الجديد وكسر دينامية التحرر واستعادة السيادة الوطنية، بما يعرقل التحركات الأوكرانية الأخيرة في القارة الأفريقية المناهضة لموسكو، ويؤلب الدول الأفريقية المعارضة للحرب الروسية على كييف الداعمة للإرهاب بحسب مزاعم باماكو.5– توجيه النظام المالي رسالة ردع للغرب: تمثل هذه الخطوة من جانب مالي تأكيداً لرفضها للدول الغربية وتدخلاتها في الشأن الداخلي لدول الساحل، خاصةً في ظل التوترات المستمرة مع القوى الغربية مثل فرنسا والاتحاد الأوروبي منذ سلسلة الانقلابات العسكرية التي شهدتها بعض دول الساحل، لا سيما مالي منذ عام 2020، كما أن الخطاب الأوكراني يتماهى مع خطابات أوروبا وواشنطن بما يعكس التماهي في الأهداف الاستعمارية كما ينظر إليها العسكريون الجدد في الساحل. ومن ثم، تلقي تلك التحركات المالية الأخيرة بظلالها على حرص باماكو على الخروج من عباءة الغرب، وتحريض الدول الأفريقية على توسيع دائرة التحالفات مع حلفاء جدد، مثل موسكو والصين، على حساب الدول الغربية التي استنزفت الثروات والموارد الأفريقية على مدار عقود طويلة ماضية.تداعيات محتملةيدفع قرار الحكومة المالية بإنهاء العلاقات الدبلوماسية مع كييف نحو العديد من التداعيات المحتملة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، ويتمثل أبرز هذه التداعيات فيما يلي:1– استمرار الشكوك الداخلية بشأن قدرات النظام المالي: برغم قطع العلاقات مع أوكرانيا، فإن هزيمة الجيش المالي وقوات فاجنر الروسية على يد المجموعات الأزوادية المسلحة، سيُلقي بظلاله على زيادة مخاوف الرأي العام المالي بشأن ضعف قوات الجيش والحليف الدولي الجديد في البلاد لتتكرر المأساة نفسها التي تورطت فيها فرنسا قبل أكثر من عقد مضى، وهو ما قد يُقوِّض الشرعية السياسية للنظام العسكري الحاكم خلال الفترة المقبلة، لا سيما أن صعوده إلى السلطة عقب الانقلاب العسكري في البلاد جاء نتيجة إخفاق النظام الحاكم السابق في القضاء على الإرهاب في شمال ووسط البلاد، وتعهُّده بالقضاء على جميع التحديات الأمنية في البلاد؛ الأمر الذي قد يدفع الجيش المالي إلى شن حملة عسكرية بالتعاون مع فاجنر وقوات الدعم من بوركينا فاسو على منطقة تينزاوتين بأقصى شمال مالي من أجل استعادة هيبته في الأوساط المالية، ولتأكيد قدرته على احتواء المخاطر التي تهدد الأمن القومي لباماكو.2– تنامي الاستياء الشعبي تجاه الغرب: من المرجح أن تروج الحكومة المالية لروايتها بشأن تورط أوكرانيا في دعم الإرهاب بشمال مالي؛ ما يعزز خطاب العسكريين الجدد بشأن ضرورة الاستغناء عن الغرب والتحول إلى حلفاء دوليين جدد موثوق بهم، وهو ما يفاقم في الوقت ذاته السخط والرفض الشعبي إزاء الدول الغربية، وهو ما قد يستغله العسكريون الجديد في توجيه الرأي العام نحو مزيد من القبول للحليف الروسي، بما قد يعزز النفوذ الروسي في مالي ومنطقة الساحل، بالرغم من إخفاق فاجنر في القضاء على التمرد أقصى شمال البلاد.3– تأكيد التحالف الثلاثي الإقليمي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو: قد تمثل التفاعلات الدولية التي تزخر بها الساحة المالية دافعاً قوياً لدى تحالف كونفيدرالية دول الساحل للمضي قدماً نحو تفعيله واستكمال جاهزيته ليكون قادراً على مواجهة التحديات التي تواجه الدول الأعضاء، وربما يعزز قوته على الصعيد الإقليمي بفتح المجال أمام انضمام أعضاء جدد في ضوء المساعي لمواجهة التحديات الأمنية التي تتورط فيها بعض الأطراف الدولية.4– تعقيد الصراع الدولي بمنطقة الساحل: ربما تتحول منطقة الساحل إلى ساحة صراعية لتصفية الحسابات بين أطراف دولية، لا سيما روسيا وأوكرانيا، حيث يبدو أن الدولتين لديهما الرغبة في فتح جبهة جديدة للمواجهة بينهما على الساحة الأفريقية؛ وذلك على خلفية استمرار الحرب الدائرة بينهما في شرق أوروبا. ويبدو أن الأزمة الراهنة في شمال مالي لن تكون الأخيرة، في ضوء التوجه الأوكراني لمحاولة تقويض النفوذ الروسي في أفريقيا بشكل عام للحيلولة دون الاستفادة من الثروات والموارد الأفريقية في تمويل حربها ضد كييف، بحسب مزاعمها؛ الأمر الذي يعزز حالة انعدام الاستقرار الإقليمي في الساحل، وربما يتطور الأمر إلى صدام يهدد أمن وسيادة الدول الأفريقية في المنطقة.5– التأثير على سمعة أوكرانيا في أفريقيا: قد تلعب مالي دوراً في تأليب الرأي العام الأفريقي ضد التحركات الأوكرانية لصالح الحليف الروسي؛ وذلك من خلال الترويج لمساعي كييف لزعزعة استقرار الدول الأفريقية، بما في ذلك مالي، وهو ما يعكسه تنبيه باماكو للمنظمات الإقليمية والدولية بدعم أوكرانيا للإرهاب بشكل جلي، وهو ما قد يعرقل التحركات الأوكرانية التي تشهد زخماً منذ العامين الماضيين على الساحة الأفريقية، وهو ما ظهر خلال زيارات المسؤولين الأوكرانيين لأفريقيا وآخرها زيارة وزير خارجية كييف "دميترو كوليبا" إلى مالاوي وزامبيا وموريشيوس، في إطار المحاولات لكسب الدعم الأفريقي لأوكرانيا في المحافل الدولية على حساب موسكو، وإن كان ذلك من الصعب نظراً إلى محدودية قدرات أوكرانيا مقارنةً بالنفوذ الروسي الممتد في القارة منذ سنوات مضت.6– تنامي النفوذ الروسي في الساحل: يصب السياق الراهن في مصلحة موسكو التي تسعى إلى تعزيز حضورها ونفوذها القوي في منطقة الساحل، ويساعدها في ذلك الترويج السلبي لسياسات الغرب، بما في ذلك أوكرانيا ودورها في مساندة التنظيمات الإرهابية المنتشرة في أفريقيا، لا سيما الساحل، وهو ما يسهم في تعميق الفجوة بين دول الساحل والقوى الغربية، لتصبح موسكو المستفيد الأكبر من خلال تعزيز حضورها في الساحة الأفريقية، والترويج لصناعاتها التسليحية، بما يعزز الصادرات التسليحية الروسية وعوائدها للاقتصاد الروسي لكي يخدم الحرب الروسية في أوكرانيا.7– زيادة التوتر بين مالي والدول الغربية: من المرجح أن تؤدي الرواية المالية التي تزعم الدعم الأوكراني/الأوروبي للإرهاب والتنظيمات الإرهابية في دول الساحل إلى إثارة الغضب لدى القوى الدولية التي ترفض هذه الادعاءات؛ ما قد يفاقم حالة التوتر والتباعد بين مالي والغرب، بما يعمق الفجوة بين الطرفين، ليستفيد بعض الأطراف الأخرى الداعمة لهذا التوجه؛ الأمر الذي يجعل من الصعب التنبؤ باستعادة النفوذ الغربي في الساحل في المدى القصير على الأقل.إجمالاً، تبدو خطوة الحكومة في مالي تجاه أوكرانيا بمنزلة رسالة تحذيرية إلى جميع الأطراف الدولية والإقليمية من المضي قدماً نحو اختراق السيادة الوطنية المالية، أو دعم التنظيمات الإرهابية في الداخل المالي، بما يعزز سياسات العسكريين الجدد الرافضة للتقارب مع الغرب؛ وذلك بالرغم من أنها تمثل في الوقت ذات هروباً للأمام من إخفاق داخلي قد يسهم في اهتزاز ثقة الرأي العام المالي بالمجلس العسكري المالي الحاكم، إلا أن سيطرته على المجال العام في البلاد، إضافة إلى الدعم الروسي والإقليمي من جانب دولتي بوركينا فاسو والنيجر (تحالف كونفيدرالية دول الساحل)، ربما يقلل من التأثيرات السلبية، لا سيما أن الجيش المالي يستعد لشن أكثر من حملة عسكرية جديدة على الشمال المالي لاستعادة المناطق التي يسيطر عليها المتمردون من الطوارق.

دلالات إعلان مالي قطع العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا