عرض: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

صدر عن دار "L`Observatoire" للنشر كتاب بعنوان "ماكرون–بوتين: العلاقات الخطرة"، في مايو 2023، للكاتبة "إيزابيل لاسير"، وهي نائبة رئيس تحرير قسم الدوليات في صحيفة لو فيجارو، وكانت مراسلة في روسيا ومراسلة حرب، وقد حاولت الكاتبة فيه توضيح ملامح العلاقة التي ربطت بين الرئيسين الفرنسي إيمانويل ماكرون والروسي فلاديمير بوتين على ضوء الحرب في أوكرانيا، ومحاولة تفسير نمطها وتداعياتها. وقد طرحت الكاتبة سؤالين رئيسيين؛ وهما: ما الخصوصية التي تصبغ العلاقات الروسية–الفرنسية والتي جعلت ماكرون بصفته رئيساً فرنسياً يتعثر مرة جديدة في ازدواجية الخطاب الروسي؟ وهل باستطاعته أن يتغير ويغير طريقته في التعاطي بعد أن اكتشف الوجه الحقيقي لبوتين؟

وللإجابة على هذين التساؤلان، قسمت الكاتبة كتابها إلى جزأين رئيسيين؛ هما:

الجزء الأول تحت عنوان "الحاضر الذي يعيد الماضي"، ويمتد من الصفحة 11 إلى الصفحة 124، ويحتوي على 6 فصول، تحدثت فيها المؤلفة عن دبلوماسية المكالمات الهاتفية التي اعتمد عليها ماكرون في تواصله مع بوتين في الفترة الأولى من الحرب في أوكرانيا، ومن ثم تتحدث عن فشل سياسة إعادة ضبط العلاقة مع روسيا التي انتهجها ماكرون منذ ولايته الأولى، وعن الأخطاء التي ارتكبها ماكرون منذ بداية الحرب، ومن ثم تُفرِد المؤلفة مساحة لتشرح كيف ينظر بوتين وزيلينسكي إلى ماكرون، لتنهي الكاتبة الجزء الأول برصد المنعطفات التي طرأت على سياسة ماكرون الروسية وتقييمات دول أوروبا الشرقية لهذه السياسة.

الجزء الثاني تحت عنوان "الماضي الذي يشرح الحاضر"، ويمتد من الصفحة 125 إلى الصفحة 182، ويحتوي على أربعة فصول، وتسرد فيها المؤلفة الجذور التاريخية للصداقة الفرنسية–الروسية، والكيفية التي تعاطى بها رؤساء فرنسا الذين سبقوا ماكرون مع بوتين، ومدى تأثر السياسة الخارجية الفرنسية بالتوجه المُعادي للولايات المتحدة الأمريكية L`Antiaméricanisme، بالإضافة إلى شرح الروابط التي تجمع بين الجيشين الفرنسي والروسي.

ثقة عمياء

رأى الكتاب أن هناك جملة من المؤشرات المُعبِّرة عن خداع الرئيس بوتين للرئيس ماكرون، وتتضح هذه المؤشرات فيما يلي:

1– وجود صعوبة في استقراء ردود الفعل الروسية: أكد الكتاب أن علاقة ماكرون وبوتين كشفت عن استمرار جهل فرنسا بخبايا ودوافع الدبلوماسية الروسية، مشيراً إلى أن هذه المعضلة التاريخية بدأت منذ بيار الرابع الذي خان فرنسا وجعلها تخسر حرب السبع سنوات أمام بروسيا، ثم مع ألكسندر الأول الذي خان نابوليون لمصلحة بروسيا أيضاً، ولم تنته مع نيكولا الثاني الذي أقحم فرنسا في الحرب العالمية الأولى. ووفقاً للكتاب، يظهر من خلال أداء الرؤساء الفرنسيين المتعاقبين بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وصولاً إلى ماكرون، أن لدى فرنسا صعوبة في استقراء ردود الفعل الروسية، بحيث إنها تتوقعها بشكل خاطئ.

2– تصديق حديث بوتين خلال المباحثات الهاتفية: عبر سرد أبرز مقاطع المحادثات الهاتفية التي جرت بين ماكرون وبوتين والتي بلغ عددها 21 محادثة منذ 14 ديسمبر 2021، والتي كانت المدة الزمنية لأغلبها تتخطى ساعة، حاول الكتاب استكشاف كواليس العلاقة بين الرئيسين. ويعتبر الكتاب أنه في بداية التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، لم يكن يُنظَر إلى هذه المكالمات على أنها شيء يمكن انتقاد الرئيس الفرنسي على القيام به؛ لأنها كانت تأتي في بعض الأحيان بطلب من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ولأنه لم يكن معروفاً بعدُ مدى قدرة الطرف الأوكراني على الصمود أمام تقدم القوات الروسية.

لكن خطأ الرئيس الفرنسي، بحسب الكتاب، أنه كان يصدق ما كان يقوله له بوتين خلال هذه المحادثات الهاتفية، ويستشهد لإثبات ذلك بمحادثة جرت في 20 فبراير 2022؛ أي قبل 4 أيام من بدء العملية العسكرية؛ حيث أعلن عقبها ماكرون أنه توصل إلى ما يشبه الانتصار الدبلوماسي الشخصي، بتأكيده أنه توصل إلى اتفاق مع بوتين بأن يجتمع مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، ولكن في اليوم التالي نفى المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف هذا اللقاء، وبعدها بثلاثة أيام بدأ الاجتياح الروسي؛ ما سبب إحراجاً كبيراً للطرف الفرنسي وجرحاً لا يمكن نسيانه، وفق ما ذكر الكتاب.

3– قناعة ماكرون بأن بوتين شريك جدير بالثقة: طبقاً للكتاب، خرج ماكرون بخلاصة من اللقاءات الثنائية الشخصية المباشرة الثلاثة التي جمعته مع بوتين – حيث استقبله مرتين في فرنسا: المرة الأولى في قصر فرساي في عام 2017، والمرة الثانية في مقر إقامته الصيفي في بريجاسون في عام 2019. وتخلل هذين اللقاءين ذهاب ماكرون إلى سان بطرسبرج في 2018 – أنه يمكن لبوتين أن يكون شريكاً جديراً بالثقة، على الرغم من وقوع حادثة كانت يجب أن تُشكل لماكرون إنذاراً مبكراً حول انخداعه بطبيعة الرئيس الروسي، وهي حادثة تسميم المعارض الروسي الأول أليكسي نافالني في عام 2020.

ويذكر الكتاب أن ماكرون أجرى اتصالاً هاتفياً للتحدث مع صديقه بوتين لمتابعة الموضوع والحصول على تفسير، فما كان من بوتين إلا أن تبنى فرضية تسميم نافالني لنفسه، وفق ذكر الكتاب. ووفقاً للكتاب، فإن بوتين في حقيقة الأمر كان يهزأ بالرئيس الفرنسي، ويظهر ذلك من اللقب الذي كان يُطلقه عليه، وهو "ماكرونتشيك Macrontchik" أي ماكرون الصغير، وكانت الصحافة الروسية المقربة من الكرملين تستعمله أيضاً، وفي الأساس فإن بوتين كان يتمنى فوز صديقه مرشح اليمين فرنسوا فيون أو مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2017، وكان يعتبر ماكرون خصماً منذ البداية، حتى أنه تم اختراق حملته الانتخابية من قبل قراصنة روسيين، وفق ما جاء في الكتاب.

4– اعتقاد ماكرون قدرته على التأثير في سلوك بوتين: أكد الكتاب أنه على الرغم من كل هذه المؤشرات، فإن ماكرون ظل لفترة طويلة مقتنعاً بأنه عبر إيصال رسائل لبوتين، من قبيل أنه يسعى إلى دفع الغرب إلى عدم الإقدام على حل المشاكل الدولية مجدداً من دون إشراك روسيا كما حصل سابقاً في العراق وكوسوفو وليبيا، سيتمكن من التأثير عليه ويقنعه بالتراجع عن مشروع التدخل العسكري في أوكرانيا، ولكن في الحقيقة فإن بوتين كان طول ذلك الوقت يحاول خداع الرئيس الفرنسي، وفق ما جاء في الكتاب.

مثالية مفرطة

شدد الكتاب على أن هناك مجموعة من العوامل المفسرة لتبني ماكرون مواقف ودية تجاه بوتين. وتتضح هذه العوامل عبر ما يلي:

1– وجود تصورات حالمة وغير واقعية لماكرون عن بوتين: أوضح الكتاب أن الذين يطالبون بالتصرف باعتدال مع بوتين – على غرار ماكرون – يدَّعون أنهم يفعلون ذلك باسم الواقعية، مضيفاً أنه بعد أن تدخلت روسيا عسكرياً في أوكرانيا في فبراير 2022، حمَّل هؤلاء روسيا وأوكرانيا مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع بشكل متساوٍ. ووفقاً للكتاب، يعتبر النقض في الرؤية الواقعية، من وجهة نظرهم، هو الذي دفع الناتو إلى التوسع شرقاً، وهو ما أدى إلى استفزاز بوتين الذي لم يفعل أي شيء آخر سوى الدفاع عن مصالحه حين قرر مهاجمة أوكرانيا.

ويرى الكتاب أن هذا التيار الفكري المنتشر في أوروبا بوجه عام، وفي فرنسا على وجه الخصوص، ساهم بشكل كبير في العمى الغربي "Aveuglement Occidental" بالطبيعة الحقيقية لنظام فلاديمير بوتين؛ فأمثال جون ميرشايمر في الولايات المتحدة، وهوبرت فيدرين في فرنسا، كانوا يروجون لأفكار من قبيل أن الدول الغربية تركز أكثر من اللازم على قيمها، وتهمل الدفاع عن مصالحها القومية، ولا تتعامل مع العالم كما هو، بل كما تريد أن يكون.

2– ميل الفرنسيين إلى الإعجاب بالإمبراطوريات الكبرى: طبقاً للكتاب، يطلق ربمون آرون على هؤلاء وصف "الواقعيين المزيفين"، في حين أن "الواقعيين الحقيقيين" هم الذين يؤمنون بممارسة الضغوط وبناء توازنات القوى للوصول إلى مرحلة ردع الخصوم. وأكد الكتاب أن اختزال تأثير العامل الأيديولوجي في العلاقات الدولية، واعتبار "روسيا البوتينية" دولة طبيعية تخضع للقواعد وردود الفعل التي تخضع لها الدول الديمقراطية، هو ثغرة كبرى في تحليل "الواقعيين المزيفين".

وأوضح الكتاب أن التراخي الفرنسي تجاه روسيا، الذي ظهر من خلال مواقف ماكرون تجاه موسكو، هو أكثر ما يُقلق معسكر أوروبا الشرقية، ومن الوارد أن يصبح هذا التراخي سمة أساسية من سمات السياسة الخارجية الفرنسية التي مارسها أو قد يمارسها معظم الرؤساء الفرنسيين؛ ربما لأن فرنسا لديها ميل للإعجاب بالإمبراطوريات الكبرى، أو لأن هناك روابط تاريخية قوية تربط بين القوات الروسية والفرنسية، أو لأن هناك تقليداً سياسياً راسخاً في فرنسا، سواء لدى اليمين أو اليسار، بمعاداة الولايات المتحدة.

3– الرغبة في عدم الدخول في مواجهة عسكرية ضد روسيا: ومما يدفع إلى الريبة أكثر، وفقاً للكتاب، هو رفض فرنسا، أو على الأقل تحفظها على محاولات انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وربط هذا الرفض من قبل البعض بعدم إظهار فرنسا تمسكها بمطلب أوكرانيا باستعادة شبه جزيرة القرم، على اعتبار أن من الوارد أن تجد فرنسا نفسها – بعد هذا الانضمام المحتمل – في حرب ضد روسيا إذا حاولت أوكرانيا استعادة القرم عسكرياً، في ضوء أن أي اعتداء على أي عضو في الناتو سيؤدي إلى دفاع جميع الأعضاء عن أوكرانيا.

4– رفض باريس تحوُّل مركز الثقل في قارة أوروبا إلى الشرق: لذلك فإن هناك – بحسب الكتاب – من يقول إن سياسة ماكرون تجاه روسيا ستؤدي إلى خسارة مساحات جغرافية جديدة من أوكرانيا لصالح روسيا، كما أدت سياسة ساركوزي تجاه روسيا إلى فقدان أجزاء من جورجيا لصالح موسكو. وطبقاً للكتاب، هناك بعض الآراء التي تذهب أبعد من ذلك بتأكيدها أن فرنسا وألمانيا لا تريدان انتصار أوكرانيا على روسيا؛ حتى لا يتحول مركز الثقل في القارة الأوروبية من الغرب إلى الشرق.

تبعات سلبية

أكد الكتاب أن هناك مجموعة من التداعيات السلبية الناتجة عن خداع بوتين لماكرون، وهو ما يتضح عبر ما يلي:

1– تدهور صورة باريس في أوروبا الوسطى والشرقية والشمالية: أوضح الكتاب أنه لو تم النظر بعمق إلى السياسة التي اتبعها ماكرون في أوكرانيا منذ بدء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، من خلال تبنيه مبدأ العقوبات القاسية على روسيا بشكل حازم ودعم أوكرانيا بالسلاح، على غرار إرساله في بداية المواجهات مدافع سيزار الفرنسية التي تمكنت من إحداث فارق في أرض المعركة، وإرساله لاحقاً المدرعات؛ حيث كانت فرنسا أول دولة غربية ترسل مدرعات إلى كييف بشكل فتح الباب لإرسال مدرعات من دول أخرى؛ فإنه يُلاحظ أنه ليس هناك الكثير مما يمكن انتقاده في هذه الجزئية خصوصاً عند المقارنة بألمانيا.

ولكن المشكلة تكمن – وفقاً للكتاب – في استراتيجية التواصل التي اتبعها ماكرون؛ إذ ارتكب أخطاء كبيرة في الخطاب السياسي الذي تبناه حيال الأزمة الأوكرانية، واستعمل جملاً صغيرة من غير المقبول أن يستعملها، ومن أبرزها تأكيده في يونيو 2022 ضرورة عدم إذلال روسيا، وتشديده في ديسمبر 2022 على أهمية تقديم ضمانات أمنية لموسكو. ولفت الكتاب إلى أن استعمال هذه العبارات أدى إلى تدهور صورة فرنسا لدى دول أوروبا الوسطى والشرقية والشمالية، كما تم استخدام هذه العبارات من قبل بعض الأطراف ضد فرنسا في المحافل الأوروبية أو ما أصبح يُعرف بالـ"French Bashing".

2– إضعاف فكرة ماكرون عن الاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا: أكد الكتاب أن إصرار ماكرون على لعب دور الوسيط مع روسيا، أدى إلى تنفير دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق من فرنسا، ومن ثم ضعفت فكرة الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية التي يتبناها ماكرون بقوة؛ حيث رأت هذه الدول فيها وسيلة تهدف إلى إبعادها عن الولايات المتحدة، في الوقت الذي تجدها فيه الطرف الأجدر بالثقة لتولي مسألة حمايتها الأمنية، ومن ثم فإن دعم ماكرون لأوكرانيا، وتبنيه موقفاً ضبابياً تجاه روسيا، أثَّر بشكل سلبي على طموحات فرنسا للعب دور قيادي في الساحة الأوروبية، رغم امتلاكها العديد من المقومات للقيام بذلك.

3– التأثير بشكل سلبي على طموحات ماكرون لقيادة أوروبا: يرى الكتاب أن إيمانويل ماكرون هو الأكثر أهليةً لقيادة أوروبا، لكنه فوَّت هذه الفرصة بسبب العبارات الصغيرة التي استعملها، وبسبب ضبابية مواقفه بالنسبة إلى روسيا. ووفقاً للكتاب، فإنه رغم أن ماكرون حاول استدراك هذه الأخطاء، فان هذا الأمر جاء متأخراً؛ حيث استغرق وقتاً طويلاً ليؤكد بوضوح أنه يريد انتصار أوكرانيا وهزيمة روسيا. وبحسب الكتاب، على من يريد أن يكون قائداً لأوروبا في الوقت الحالي، أن يكون قائداً في الملف الأوكراني.

وطبقاً للكتاب، تتمثل مشكلة ماكرون في أنه يريد أن يُظهر فرنسا بأنها على مسافة واحدة من القوى العظمى؛ أي الولايات المتحدة والصين وروسيا، وبأنها لا تصطف تلقائياً وراء السياسة الأمريكية، وهذا الأمر هو ما يُقلق دول أوروبا الشرقية والبلطيق، خاصةً أنها لم تتمكن حتى الآن من فهم وجهة النظر الفرنسية التي تريد أن تكون قوة توازن "Puissance d`équilibre" على الصعيد الدولي، بين طرف يدافع عن الديمقراطية كالولايات المتحدة وطرف استبدادي كروسيا، وفق ذكر الكتاب نصاً.

وختاماً، أكد الكتاب أنه يجب على فرنسا القيام بتحول جذري في سياستها الخارجية، بحيث تتخلى عن سعيها الواهم لتحقيق "قوة التوازن"، خصوصاً في ظل عدم احترام روسيا هذا التوجه، واعتباره نوعاً من السذاجة. وشدد الكتاب على أن هذا التحول يجب أن يشمل الاقتراب أكثر من مواقف دول أوروبا الوسطى والشرقية والشمالية التي كانت أكثر قدرةً من فرنسا على فهم السياسة الروسية بشكل جلي. وأوضح الكتاب أنه يجب على فرنسا أيضاً أن تنزع عن نفسها شبهة "المعاداة للأطلسية "Anti–atlantisme، مضيفاً أن عليها أن تقنع دول أوروبا الشرقية بأنها بحاجة إلى أوروبا، بالإضافة إلى حاجتها إلى الناتو.

المصدر:

Isabelle Lasserre, Macron–Poutine : Les Liaisons Dangereuses, (France: L`Observatoire, May 2023).

كيف يمكن فهم طبيعة العلاقات بين "ماكرون" و"بوتين"؟