عرض: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

بعد مرور أكثر من عامين على حرب أوكرانيا، يبدو المشهد أكثر تعقيداً؛ فروسيا تواصل هجماتها ضد كييف، ونجحت مؤخراً في السيطرة على أفدييفكا، وتعمل على توسيع نطاق سيطرتها على دونيتسك؛ وذلك فيما تحاول كييف تنفيذ هجمات بالمسيرات ضد أهداف روسية بالتزامن مع تزايد الشكوك حول استمرار الدعم الغربي لأوكرانيا، لا سيما مع الموقف السلبي الذي يتبناه الحزب الجمهوري تجاه مواصلة تقديم الدعم الأمريكي لأوكرانيا، وكذلك الشكوك الأوروبية إزاء الموقف الأمريكي، وخاصة مع اقتراب انتخابات الرئاسة الأمريكية واحتمالية وصول ترامب إلى البيت الأبيض، ومن ثم احتمالية تفكيك العلاقات الدفاعية مع أوروبا وحلف الناتو.

وفي هذا الصدد، يشير تقرير لمجلة "فورين بوليسي" بعنوان "بعد مرور عامين، ما الخطوة التالية في أوكرانيا؟ ثمانية مفكرين يسلطون الضوء على حالة الحرب"، إلى أنه مع دخول الحرب الروسية في أوكرانيا عامها الثالث، فإن المأزق الواضح في ساحة المعركة يخفي تحولات حاسمة؛ فقد أصبحت الجبهة الرئيسية للحرب الآن سياسية؛ حيث يراهن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن الانقسامات الغربية واحتمالية فوز ترامب سوف تمنحه النصر الذي فشل في تحقيقه على الأرض. وخوفاً من العواقب المترتبة على أمن القارة إذا انسحبت واشنطن وسقطت أوكرانيا، زادت الحكومات الأوروبية مساعداتها لكييف في الأشهر الأخيرة. وبشكل جماعي، فقد زودت أو تعهدت الآن بإرسال أسلحة إلى كييف أكثر من واشنطن، وأكثر من ضعف المساعدات السابقة إذا تم تضمين المساعدات الاقتصادية.

ويمثل ذلك تغيراً كبيراً مقارنة بالأيام الأولى للحرب. وبالنسبة إلى السؤال: متى وكيف ستنتهي هذه الحرب؟ فقد أوضح الكرملين أن النهاية التفاوضية الوحيدة التي سيقبلها هي استسلام أوكرانيا، في حين أوضح الأوكرانيون أنهم سوف يستمرون في العمليات العسكرية المضادة ضد موسكو. وبعد مرور عامين، لم يعد السلام في أوروبا يلوح في الأفق. وقد استعانت المجلة بآراء ثمانية مفكرين بارزين لتسليط الضوء على هذه التحولات وغيرها في الحرب، وكذلك أهم التطورات المتوقعة للحرب خلال العام الجاري.

حرب طويلة

مع دخول الحرب الأوكرانية عامها الثالث، يتفق العديد من الخبراء على أن الحرب باتت تعاني من حالة من الجمود الديناميكي، وأن الحرب ستكون أطول مما كان متوقعاً لها في البداية؛ وذلك في ضوء ما يلي:

1- صعوبة حسم أي طرف الصراع لصالحه: تشير "أنجيلا ستينت" مؤلفة كتاب "عالم بوتين: روسيا ضد الغرب ومع البقية"، إلى أنه لا أحد من الطرفين – لا روسيا ولا أوكرانيا – يفوز أو يخسر؛ إذ يحقق الروس مكاسب إقليمية متزايدة لكن على حساب خسائر فادحة في الأرواح وفقدان المعدات. ومن جانب آخر، بعد أن فشل الأوكرانيون في تحقيق أهداف هجومهم المضاد في عام 2023، أصبحوا في موقف دفاعي ويعانون أيضاً من خسائر كبيرة. وفي ضوء ذلك، قام الرئيس "زيلينسكي" مؤخراً بعزل قائد الجيش فاليري زالوجني؛ وذلك بعد أن أصبحت الخلافات بين الاثنين علنية.

2- استمرار الطرفين في حشد الأسلحة: إذ تشتري روسيا المُسيَّرات من إيران وكميات متزايدة من ذخيرة المدفعية وبعض الصواريخ من كوريا الشمالية. وتعتمد أوكرانيا على إمدادات الأسلحة والدعم المالي من أوروبا والولايات المتحدة. وسوف تعمل المساعدات المالية التي وافق عليها الاتحاد الأوروبي مؤخراً والتي تبلغ قيمتها 54 مليار دولار على تمكين الدولة الأوكرانية من مواصلة عملياتها العسكرية، كما ستقوم الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو بتزويدها ببعض الأسلحة الإضافية.

3- ضعف احتمال حدوث مفاوضات بين الطرفين خلال عام 2024: تشير "ستينت" إلى أن هناك احتمالاً ضئيلاً بإجراء مفاوضات لإنهاء الحرب في عام 2024، كما لا يستطيع أي من الجانبين تحقيق نصر حاسم؛ فقد أوضح الكرملين أنه ليس لديه مصلحة في المفاوضات التي لا تؤدي إلى استسلام أوكرانيا، بما في ذلك الخسارة الدائمة للمناطق الأربع التي ضمتها روسيا في عام 2022. ويظل الهدف الروسي المعلن هو ما يسمى "إزالة النازية" لتغيير النظام ونزع السلاح في أوكرانيا. وفي المقابل، لن يوافق أي زعيم أوكراني على مثل هذه الشروط على الإطلاق.

4- تأثيرات سلبية على أوروبا والناتو إذا فاز ترامب: بعد أن دخلت أوكرانيا عامها الثالث، تعتقد "كريستي رايك" نائبة مدير المركز الدولي للدفاع والأمن – ومقره إستونيا – أنه أصبح هناك تهديد حقيقي بأن تكون لروسيا اليد العليا في ساحة المعركة، خاصة وأنه قد تضاءلت المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا إلى حد كبير، كما يعني احتمال فوز ترامب في الانتخابات في نوفمبر أن القادة الأوروبيين سيواجهون التحدي الاستراتيجي الأخطر لقارتهم منذ أجيال؛ فإذا فشلت أوروبا في هذا الاختبار، تتوقع "رايك" أن تتجرأ موسكو على المضي قدماً في استعادة مجال نفوذها وتقويض عدوها الرئيسي، الذي قالت بوضوح إنه حلف الناتو.

تأثيرات استراتيجية

يكشف استقراء تأثيرات الحرب الأوكرانية خلال عام 2024 عن عدد من الملامح الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1- تعزيز التقارب بين موسكو وبكين: عززت الحرب التقارب الصيني الروسي من خلال تزايد نفوذ بكين على موسكو؛ فمع عزلتها إلى حد كبير عن الغرب نتيجة للحرب، تعتمد موسكو الآن بشكل متزايد على الصين سوقاً لصادراتها من النفط والغاز، ومزوداً لمجموعة واسعة من السلع الاستهلاكية، وشريكاً لتطوير تقنيات جديدة.

2- تزايد الجدل حول فكرة الوحدة عبر الأطلسي: كان العدوان الروسي سبباً في تعزيز الوحدة عبر الأطلسي، بحسب "جو إنجي بيكيفولد" الزميل البارز في المعهد النرويجي للدراسات الدفاعية، ودفع أعضاء حلف الناتو الأوروبيين إلى زيادة ميزانياتهم الدفاعية، ودفع فنلندا والسويد إلى طلب الانضمام لحلف الناتو، وأجبر الولايات المتحدة على تعزيز وجودها العسكري في أوروبا مرة أخرى.

لكن في حين أن الشراكة الصينية الروسية تقوم على أساس جيوسياسي أقوى من أساس الشراكة الصينية السوفييتية خلال فترة الحرب الباردة، يرى "بيكيفولد" أن الوحدة عبر الأطلسي التي خلقها الهجوم الروسي على أوكرانيا لا زالت هشة؛ إذ تتباطأ بعض الدول الأوروبية فيما يتعلق بالإنفاق الدفاعي، أو إطالة أمد انضمام السويد إلى الناتو، أو الدعوة إلى الاستقلال عن الولايات المتحدة، أو عدم الموافقة على الجهود الرامية إلى إبعاد المخاطر التي تفرضها الصين. وتعد العلامة الأكثر وضوحاً وأهميةً على الانقسامات الغربية، هي تشكيك الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في دور الناتو والضمانات الأمنية الأمريكية لشركائه في الحلف خلال حملته الرئاسية.

3- تزايد الانقسامات بين أوروبا والصين: أدى دعم بكين للمجهود الحربي الروسي إلى توسيع الانقسامات بين الصين وأوروبا. ويتجلى هذا في رفض أوروبا ما تسمى خطة السلام الصينية لأوكرانيا، وخسارة بكين الملحوظة لنفوذها في وسط وشرق أوروبا، وإدراج الصين في أحدث مفهوم استراتيجي لحلف الناتو.

4- الدفع نحو تقليل الاعتماد المتبادل بين الصين والغرب: كان اعتماد أوروبا قبل الحرب على الطاقة الروسية يشكل ذلك النوع من الضعف الذي يريد الغرب الآن تجنبه في مواجهة الصين؛ إذ تتخذ واشنطن وبروكسل خطوات لتقليل مخاطر علاقاتهما الاقتصادية الوثيقة مع الصين، ومن جانبها تعمل بكين على زيادة اكتفائها الذاتي.

5- قدرة موسكو على توظيف صعود الشعبوية في الغرب: سلط الهجوم الروسي على أوكرانيا الضوء مرة أخرى على صعود القومية والشعبوية والاستقطاب في الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية. وفي حين أنه خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، تمكنت واشنطن من استغلال الخلافات بين بكين وموسكو، يعتقد "بيكيفولد" أن روسيا والصين اليوم في وضع أقوى لاستغلال الخلافات داخل الكتلة الغربية.

6- استمرار صدمة الدفاع الأوروبي: أشارت "كريستي رايك" إلى أنه إذا كانت جورجيا في عام 2008 وشبه جزيرة القرم في عام 2014 بمنزلة تذكير للغرب بطموحات روسيا العدوانية كقوة عظمى، فإن الهجوم على أوكرانيا في عام 2022 كان بمنزلة صدمة كبيرة لدفاع أوروبا المتدهور بشكل مستمر.

وفي هذا الصدد، يعترف الزعماء الأوروبيون صراحة بالحاجة إلى الاستعداد لتخلي الولايات المتحدة عن أوروبا، لكن الكلمات الكبيرة التي أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز لم تقابل بعد بالأفعال؛ إذ إن الخطوات الفعلية التي اتخذتها أوروبا لزيادة الإنفاق الدفاعي، وتعزيز إنتاج الأسلحة، ومساعدة أوكرانيا على الفوز في الحرب، لم تكن كافية.

7- افتقار الغرب إلى الوضوح الاستراتيجي بشأن الموقف من روسيا: تكشف المناقشات الغربية عن روسيا والعلاقات معها عن درجة من الافتقار إلى الوضوح الاستراتيجي؛ فهناك مخاوف كبيرة من هزيمة روسيا، حتى إن كثيرين في الغرب يفضلون الهزيمة في كلا الاتجاهين؛ فلا ينبغي لروسيا أن تفوز، ولا ينبغي لأوكرانيا أن تفوز كذلك. وبالنسبة إلى روسيا فإن مثل هذا التردد يشكل دعوة لمواصلة القتال حتى النصر، لا سيما أن بوتين يعتقد أن الوقت في صالحه.

8- تراجع الواردات التكنولوجية الروسية نتيجة العقوبات: تركز عناوين الصحف عادة على مخططات التحايل التي تدعم الجهود التي تبذلها روسيا للحصول على أشباه الموصلات. وفي حين أن أجاث ديمارايس المستشارة السياسية البارزة السابقة للخزانة الفرنسية في روسيا ولبنان والزميلة السياسية في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، لا تنفي نجاح روسيا في التحايل على العقوبات، لكن تظهر الصورة الكبيرة أن الواردات الروسية من التكنولوجيا المتطورة قد انخفضت بنحو 40% مقارنة بمستويات ما قبل الحرب، في وقت ربما لم تكن فيه احتياجات روسيا من التكنولوجيا المتقدمة أعلى من أي وقت مضى. وبحسب ديمارايس، فهذا لا يكفي لوقف آلة الحرب في موسكو، ومن ثم تشدد على أهمية القيام بالمزيد لتعزيز ضوابط التصدير. ومع ذلك، يظل الانخفاض بنسبة 40% بمنزلة نجاح كبير للعقوبات، وإن لم يكن معروفاً.

9- تأثر العديد من الشركات الروسية بالعقوبات الغربية: خاصة في القطاعات التي حُرمت من المعدات والخبرة الغربية، مثل الفضاء والطاقة؛ ففي مواجهة التآكل التدريجي مع افتقارها إلى القدرة على الوصول إلى التكنولوجيا الأمريكية والأوروبية، تواجه الشركات الروسية مشاكل صيانة متزايدة. على سبيل المثال، اضطرت شركة S7 – وهي شركة طيران سيبيرية – إلى وقف طائراتها من طراز إيرباص عن الطيران وتقليل عدد الموظفين في يناير بسبب عدم القدرة على الوصول إلى أجزاء المحرك. وفي الشهر نفسه، اضطرت شركة لوك أويل – وهي شركة روسية كبرى لتكرير النفط – إلى إغلاق وحدة تكسير بعد تعطل ضاغط غربي الصنع.

وترجح ديمارايس أن تظهر المزيد من هذه القصص في عام 2024 مما يوضح حقيقة مهمة مفادها أن العقوبات هي ماراثون، وليست سباقاً سريعاً، وسوف يكون تأثيرها التراكمي عالياً ويسلط الضوء على حقيقة مفادها أن المعدات الصينية – على الرغم من المطالبات الكبرى بالصداقة الصينية الروسية غير المحدودة – غير قادرة على تلبية احتياجات روسيا من التكنولوجيا الفائقة بالكامل. على الأقل ليس في هذه المرحلة؛ وذلك وفقاً لـ"ديمارايس".

10- مواصلة الجدل في الغرب حول التعامل مع الأصول الروسية المجمدة: سوف يظل النقاش الغربي حول مستقبل احتياطيات البنك المركزي الروسي محتدماً؛ ففيما يجادل البعض بأنه "على المعتدي أن يدفع"، تعارض العديد من دول الاتحاد الأوروبي – بما في ذلك بلجيكا وفرنسا وألمانيا – هذه الخطة، بحجة أنها من شأنها أن تقوض الثقة بالبنية التحتية المالية والعملات الغربية. وقد انضم البنك المركزي الأوروبي (وصندوق النقد الدولي، إلى هذا المعسكر الحذر. ومع وجود أغلب الأصول الروسية المجمدة في بلجيكا، فلا يمكن أن يحدث أي شيء دون مشاركة دول الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، من المرجح ألا تتزحزح بروكسل وباريس وبرلين، خاصة مع دخول العلاقات عبر الأطلسي في وضع الانتظار والترقب قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ونتيجة لذلك، ترى "ديمارايس" أن الاستيلاء على الاحتياطيات الروسية غير مرجح في عام 2024.

11- تصاعد أهمية زيادة الإنتاج العسكري الذاتي لكييف: تركز أوكرانيا بشكل متزايد على إنتاج المزيد من الأسلحة الخاصة بها. وكانت النتائج واضحة، على سبيل المثال، في البحر الأسود – حيث دمرت الطائرات البحرية بدون طيار التي تم تطويرها وإنتاجها في أوكرانيا الأسطول الروسي – وفي عمق روسيا نفسها.

ويجادل "فرانز ستيفان جادي" الزميل الاستشاري في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، بأن هذه النجاحات الأوكرانية مهمة، ولكن تحويل دفة الحرب سوف يتطلب ميزة حاسمة في القوة النارية في ساحة المعركة، وخاصة الذخائر المدفعية والطائرات الهجومية بدون طيار. وهذا بدوره سوف يتطلب زيادة كبيرة في الإنتاج العسكري؛ ليس فقط في أوروبا والولايات المتحدة، بل أيضاً في أوكرانيا ذاتها؛ ولهذا السبب لا تزال ميزانية الدفاع الأوكرانية لعام 2024 تخصص غالبية أموال المشتريات (نحو 6.8 مليار دولار) لشراء المعدات الأجنبية.

12- تزايد الاهتمام الغربي بالاستثمار في قطاع الدفاع في أوكرانيا: بينما تسعى أوكرانيا إلى إعادة تجهيز وتوسيع صناعة الأسلحة في ظل ظروف الحرب، فإنها تحصل على المساعدة من الحكومات الغربية وشركات الدفاع والمبادرات الخاصة. على سبيل المثال، تهدف شركة راينميتال الألمانية إلى البدء في إنتاج المركبات المدرعة في أوكرانيا هذا العام. وقام تحالف الصناعات الدفاعية في كييف بتجنيد أكثر من 60 شركة، بما في ذلك العشرات من الشركات الأجنبية، لتسهيل الاستثمار في قطاع الدفاع الأوكراني وتوطين الإنتاج. أعلنت شركة "بايكار"، هذا الشهر، أنها بدأت في بناء مصنع للطائرات بدون طيار في أوكرانيا. ومع ذلك، فإن الهجمات الروسية لا تزال تردع العديد من مقاولي الدفاع الأمريكيين والأوروبيين عن الاستثمار في أوكرانيا؛ حيث يمكن لصاروخ روسي واحد أو مُسيَّرة أن تمحو استثماراً بملايين الدولارات. لكن يحاول الأوكرانيون الالتفاف على هذا الخطر من خلال نشر الإنتاج في منشآت أصغر ومتفرقة يصعب على المخابرات الروسية اكتشافها والقضاء عليها بشكل جماعي.

13- طرح إمكانية توسيع القاعدة الصناعية العسكرية لكييف على أراضي الناتو: يرى التقرير أن التحدي لا يتمثل في كيفية الإبداع، بل في كيفية زيادة الإنتاج؛ نظراً إلى نقص العمالة الماهرة، واختناقات سلسلة التوريد، والفساد، والهجمات الروسية. وفي إطار ذلك، يقترح التقرير أن أحد السبل الممكنة للمضي قدماً هو توسيع القاعدة الصناعية العسكرية الأوكرانية على أراضي الناتو باستخدام مشاريع مشتركة مع شركات غربية بتمويل من صندوق استثماري مخصص. وهذا سيمنح أوكرانيا إمداداً ثابتاً من الأسلحة التي تتوافق مع معايير حلف الناتو.

تطورات حاسمة

عطفاً على ما سبق، يبدو أن مستقبل الحرب الأوكرانية ومسارها مرتبط بمجموعة من التطورات الحاسمة، ومن أبرزها:

1- مستوى المساعدة التي سيمررها الكونجرس الأمريكي لأوكرانيا: في المقام الأول سيكون مستوى المساعدة الذي يوافق عليه الكونجرس الأمريكي من أهم التطورات الحاسمة بالنسبة إلى الصراع الأوكراني؛ حيث يفترض "ديفيد بتريوس" رئيس معهد رئيس "معهد كولبرج كرافيس روبرتس العالمي، والمدير السابق لوكالة المخابرات المركزية، أن الولايات المتحدة هي عنصر أساسي بالنسبة إلى كييف؛ فهي المورد الأكثر أهمية للأسلحة المتقدمة، كما أنه غالباً ما كانت القرارات الأمريكية بشأن تسليم أنواع معينة من الأسلحة، مثل الدبابات والطائرات الغربية، قد مهدت الطريق لدول أخرى.

ومن ثم، قد يؤدي الاستقطاب الداخلي إلى تعريض قدرة أوكرانيا على الاستمرار في قتال روسيا للخطر؛ فإذا لم يوافق الكونجرس على المساعدة المطلوبة لأوكرانيا البالغة 60 مليار دولار، وإذا لم تسرع الحكومة الأمريكية في توريد الأسلحة المتقدمة، فإن التوقعات بالنسبة إلى قدرة أوكرانيا على التصدي لروسيا في عام 2024 ستكون أكثر قتامة.

2- مدى فاعلية الجهود الأمريكية لتشديد العقوبات: من الأمور الحاسمة أيضاً – بحسب بتريوس – الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لتشديد العقوبات وضوابط التصدير على روسيا، ووقف المخططات للتهرب منها. وعلى الرغم من النجاح الكبير الذي تحقق حتى الآن، فإن مخططات التهرب لا تزال تتطور، وستكون هناك حاجة إلى التركيز المستمر.

3- تطوير المساعدة الأمنية لأوكرانيا: يشير "بتريوس"، في إطار المساعدة الأمنية، إلى أنه ستكون هناك عدة عناصر ذات أهمية خاصة. فعلى المدى القريب، تشمل هذه الأنظمة أنظمة تمكن أوكرانيا من تحديد وتتبع وتدمير المُسيرات والصواريخ والقذائف والطائرات القادمة. وتشمل احتياجات أوكرانيا الحرجة أيضاً الصواريخ الدقيقة الأطول مدى، والطائرات الغربية، وذخائر المدفعية، والذخائر العنقودية الإضافية، التي أثبتت أهميتها بشكل خاص في صد الهجمات الروسية.

4- قدرة أوكرانيا وروسيا على تعزيز القوة البشرية العسكرية: يرى "بتريوس" أن مسار الحرب سيعتمد أيضاً بشكل كبير على عزيمة أوكرانيا وروسيا، وقدرتهما على تجنيد وتدريب وتجهيز واستخدام قوات وقدرات إضافية؛ فبقدر ما يبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مسيطراً على زمام الأمور، يجادل بتريوس بأنه لا يمكن الجزم بأن الشعب الروسي سوف يستمر في مواكبة حربه مع تزايد الخسائر البشرية الهائلة وتدهور نوعية الحياة.

5- مدى قدرة كييف وموسكو على تحسين استغلال المُسيرات: يعتمد الكثير أيضاً على قدرة كل جانب على تحسين قدرات جديدة بدون طيار، مثل الطائرات البحرية بدون طيار التي نشرتها أوكرانيا لإجبار روسيا على سحب معظم أسطول البحر الأسود المتبقي من سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم. ومن التأثيرات الهائلة أيضاً تزويد أوكرانيا بما يقرب من 300 مليار دولار من الاحتياطيات الروسية المجمدة حالياً بسبب الأضرار الغربية التي أحدثتها روسيا، وبناء مجمعها الصناعي العسكري الخاص.

6- حدود نجاح كييف وموسكو في التكيف مع تطورات ساحة المعركة: بحسب بتريوس، سوف يعتمد مسار الحرب على قدرة كل جانب على التعلم والتكيف مع تطور ساحة المعركة، وتطوير وإنتاج واستخدام أنظمة أسلحة جديدة وتقنيات أخرى؛ وذلك لتحسين قدرات القادة والأركان والجنود الأفراد والوحدات. ويتوقع "بتريوس" أن يكون هذا العام عاماً صعباً للغاية بالنسبة إلى القوات العسكرية لكلا البلدين على الأرض وكذلك على الجبهات الداخلية، كما يرى أنه "بعد مرور عامين، لا يبدو أن هناك نهاية يمكن تصورها للحرب في الأفق".

7- نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية: تشير " أنجيلا ستينت" إلى أن بوتين ينتظر نتيجة الانتخابات الأمريكية هذا العام، ويأمل أن يتجنب الرئيس الأمريكي القادم دعم أوكرانيا ويعود إلى العمل كالمعتاد مع روسيا. وفي هذه الحالة فإن قدرة أوكرانيا على البقاء كدولة مستقلة ذات سيادة سوف تصبح موضع شك، مع وجود تأثيرات غير مباشرة على أمن أوروبا وخارجها.

8- التزام أوروبا بزيادة المساعدات لأوكرانيا: تؤكد "كريستي رايك" أن عام 2024 هو عام حاسم لإثبات خطأ بوتين وتمهيد الطريق لانتصار أوكرانيا؛ فوفقاً لحسابات وزارة الدفاع الأستونية، ستحتاج الدول الغربية إلى استثمار 0.25% فقط من ناتجها المحلي الإجمالي في المساعدة العسكرية لأوكرانيا من أجل تمكين البلاد من مواصلة الدفاع عن نفسها في عام 2024 والاستعداد لهجوم مضاد جديد في عام 2025.

وهذا الاستثمار من شأنه أن يكون حاسماً في تغيير حسابات روسيا؛ ليس فيما يتعلق بأوكرانيا فحسب، بل فيما يتعلق بالبنية الأمنية الأوروبية بوجه عام. وترى "رايك" أن الالتزام الغربي الطويل الأمد من شأنه أن يجبر الكرملين على استنتاج مفاده أنه غير قادر على تحقيق أهدافه في أوكرانيا من خلال شن الحرب، كما أنه سيبعث رسالة مفادها أن أوروبا ملتزمة بالدفاع عنها، وأن روسيا ليس لديها أي فرصة لكسب شيء من خلال مهاجمة جيرانها.

9- تحرك الدول الغربية لوضع خطة لضمان مستقبل أوكرانيا: أيد "أندرس فوج راسموسن" مؤسس تحالف الديمقراطيات والأمين العام السابق لحلف الناتو، رأي كل من "رايك" و"ستينت"؛ إذ أكد أن النصر الأوكراني يعتمد على مبدأين: أولهما ضمان حصول أوكرانيا على كل ما تحتاجه لهزيمة روسيا في ساحة المعركة. والثاني وضع خطة قابلة للتطبيق من أجل ظهور أوكرانيا آمنة ومزدهرة بعد الحرب، واعتبر أن عام 2024 أيضاً العام الذي يضع فيه أنصار أوكرانيا خطة واضحة لمستقبل البلاد، وهي الخطة التي سترتكز على ثلاث ركائز: ضمانات أمنية طويلة الأمد، والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وعضوية حلف الناتو.

وفي هذا الصدد، قال " راسموسن" إن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي صرح له الشهر الماضي بأنه يشارك في رئاسة مجموعة عمل جديدة لوضع مقترحات بشأن أمن أوكرانيا والتكامل الأوروبي الأطلسي. وفيما يتعلق بالضمانات الأمنية، يشير " راسموسن" إلى أنه تم بالفعل تحقيق تقدم كبير؛ ففي الصيف الماضي، اتفقت مجموعة الدول السبع في فيلنيوس بليتوانيا على العمل على سلسلة من الترتيبات الأمنية الثنائية مع أوكرانيا.

واليوم، تجري أكثر من 30 دولة مفاوضات مع الحكومة الأوكرانية، ووضعت بريطانيا اللمسات النهائية على أول اتفاقية أمنية في يناير، تلتها ألمانيا وفرنسا، كما أن احتمال عضوية الاتحاد الأوروبي يوفر إطاراً لأوكرانيا لإعادة البناء بعد الحرب، ويمكن أن يوفر ضمانات أمنية إضافية من خلال ميثاق الدفاع المشترك للكتلة، ولكن يجادل "راسموسن" بأنه في نهاية المطاف تظل عضوية حلف الناتو هي الوسيلة الوحيدة المؤكدة لضمان أمن أوكرانيا على المدى الطويل. ومن ثم، يشدد على أنه يتعين على زعماء حلف الناتو أن يدركوا أن ترك أوكرانيا مرة أخرى في غرفة الانتظار لن يؤدي إلا إلى تشجيع المزيد من الصراع وعدم الاستقرار.

10- مدى اقتناع واشنطن بأن سمعتها العالمية ستتضرر حال هزيمة أوكرانيا: من المرجح أن تؤدي هزيمة أوكرانيا إلى إلحاق ضرر أكبر بمصداقية واشنطن في جميع أنحاء العالم مقارنةً بخروج الولايات المتحدة من أفغانستان؛ فهذا يعني خسارة صراع كان من الممكن الفوز فيه بشكل كبير، لكن واشنطن "لم تختر أو تجرؤ"، بحسب التقرير، على الفوز به.

مساران مختلفان

وختاماً، يشير التقرير إلى أن الحرب في أوكرانيا تقدم مسارين مختلفين بالنسبة إلى أوروبا؛ إذ يتمثل الأول في التراجع الاستراتيجي السريع للقارة في علاقتها بالولايات المتحدة وآسيا نتيجة لاستمرار عزوف أوروبا عن الدفاع عن نفسها. أما المسار الآخر فيتلخص في مسار التجديد الجيوسياسي من خلال تعزيز قدراتها الدفاعية، وتطوير رؤية أكثر استراتيجية لدورها في العالم، ومن ثم الاحتفاظ بدور في كيفية تشكيل توازن القوى على المدى الطويل في أوراسيا؛ فإذا كانت أوروبا مستعدة للتعامل بجدية مع الجبهة الأمنية، فسيكون من الأسهل إبقاء الأمريكيين وإقناع النظام الروسي المستقبلي بالتخلي عن توسعاته الإقليمية لصالح الضمانات الأمنية والنظام الإقليمي الذي يمكن لموسكو أن تلعب فيه دوراً مشروعاً. وغير ذلك، يجب على الأوروبيين أن يتوقعوا أن يحدد رئيس الولايات المتحدة المستقبلي الآفاق المستقبلية لقارتهم في مفاوضات مباشرة مع موسكو ومع بكين.

المصدر:

Two Years On, What’s Next in Ukraine?: Eight thinkers shed light on the state of the war, Foreign Policy, February 19, 2024.

العوامل المؤثرة في مشهد الحرب الأوكرانية خلال 2024