د. ياسمين كالميت

تفاقم العنف السياسي في أمريكا اللاتينية، لا سيما في السياقات التي تُوسِّع فيها الجريمةُ المنظمةُ نفوذَها داخل المؤسسات العامة. ويتيح هذا التغلغل الوصول إلى معلومات حساسة، وممارسة الابتزاز، وترهيب السلطات والمعارضين. إنها ظاهرة تستخدم القوة والإكراه والتهديد – سواء كانت مادية أو نفسية أو هيكلية – بهدف السيطرة على العمليات السياسية، وتقييد مشاركة الفاعلين الاجتماعيين، سواء من خلال إجراءات مباشرة تتخذها بعض الحكومات، أو عبر جماعات غير حكومية، مثل كارتلات المخدرات.في المكسيك، تفاقمت هذه الحالة خلال العقود الأخيرة، وأصبحت أعمال العنف ضد السياسيين والموظفين العموميين ظاهرة مقلقة، وخصوصاً في الفترات الانتخابية. ولعل هذا ما أكده حادث اغتيال سكرتيرة عمدة مكسيكو سيتي "خيمنيا جوزمان" ومستشارها "خوسيه مونيوث"، يوم 20 مايو 2025. فمنذ أواخر عقد 2010، اتسمت الدورات الانتخابية في المكسيك بهجمات وحشية. ووفقاً لبيانات "مختبر تحليل العنف السياسي في المكسيك"، فقد اغتيل نحو 122 مرشحاً في عام 2018، ثم انخفض هذا الرقم إلى 36 في عام 2021، وسُجِّلت 37 حالة وفاة في عام 2024. ورغم هذا الانخفاض الطفيف، فإن استمرار هذه الجرائم يكشف عن هشاشة مؤسسية، وإفلات منهجي من العقاب، وتنامي قوة الكارتلات التي تتنافس مع الدولة على السيطرة الإقليمية وصنع القرار السياسي.دورة الاغتيالاتيستدعي حادث اغتيال سكرتيرة عمدة مكسيكو سيتي "خيمنيا جوزمان" ومستشارها "خوسيه مونيوث"، يوم 20 مايو 2025، عدداً من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يلي: 1– تزايد الجدل بشأن السياسات الأمنية للحكومة: تُوجِّه عملية اغتيال "خيمنيا جوزمان" و"خوسيه مونيوث"، أثناء توجههما إلى العمل، رسالة مباشرة إلى السياسة الأمنية لعمدة مدينة مكسيكو سيتي "كلارا بروجادا". ويؤكد الحادث أن العاصمة، رغم انخفاض معدلات القتل فيها خلال السنوات الأخيرة، ليست بمنأى عن عنف الكارتلات، كما كشف هذا الهجوم عن حدود ما تسمى "سياسة تحول الأمن العام" التي نفذها الرئيس السابق أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، واستمرت عليها الرئيسة الحالية كلوديا شينباوم.2– استمرار نفوذ كارتلات الجريمة المنظمة: على الرغم من أن الحكومة الفيدرالية تزعم أن جرائم القتل العمد انخفضت بنسبة 22.4% منذ تولي شينباوم منصبها في عام 2024 – ما يعادل انخفاضاً بنحو 19 حالة وفاة يومياً وفقاً للبيانات الأولية – فإن الاغتيالات السياسية تكشف عن استمرار نفوذ كارتلات الجريمة، وعدم كفاية الاستراتيجية الحالية للحكومة من أجل حماية الموظفين العموميين والمسؤولين والفاعلين السياسيين، كما أن الحملة ضد الجريمة المنظمة، التي أسفرت عن اعتقال نحو 200,000 مشتبه به، وتدمير أكثر من 800 معمل مخدرات سري، لم تنجح في الحد من قدرة الكارتلات على استهداف الشخصيات السياسية.3– تزايد إشكاليات النهج العسكري القضائي في مكافحة الجريمة: اتبعت الحكومة المكسيكية نهجاً متعدد الأبعاد في مكافحة الجريمة المنظمة، يجمع بين العمليات العسكرية، والإصلاحات القضائية. ومن أبرز الإجراءات عسكرة الأمن العام؛ حيث أنشأت "الحرس الوطني" في عام 2019 الذي تولى مهام الشرطة في المناطق التي تهيمن عليها الكارتلات، غير أن هذه الاستراتيجية لم تعالج الجذور الهيكلية للعنف، مثل الطلب على المخدرات، والاقتصادات المحلية المعتمدة على التهريب، والفساد المؤسسي، ونقص الاستثمار في الاستخبارات، كما ألغت مكتب الادعاء الفيدرالي، واستعاضت عنه بمكتب "النيابة العامة للجمهورية"، في محاولة لتسريع الإجراءات القانونية، لكنه يواجه اتهامات بالتسييس وعدم الكفاءة.رغم هذه الجهود، من الواضح أن الاستراتيجية لا تزال في خانة "رد الفعل" بدلاً من أن تكون وقائية؛ فقد كشفت بعض التقديرات في عام 2023 أن نسبة الجرائم التي تُحل لا تتجاوز 1.3%، وهي نسبة لم تتغير منذ عام 2018، على الرغم من وعود الإصلاح القضائي. وهذا الإفلات المستمر من العقاب يفسر جزئياً الجرأة المتزايدة للكارتلات في استهداف الشخصيات العامة.&nbsp;4– ضعف فاعلية البرامج الاجتماعية لمواجهة العنف: تبنت الحكومة المكسيكية خلال السنوات الماضية برامج مجتمعية لمواجهة العنف؛ فعلى سبيل المثال، تهدف مبادرات مثل "الشباب يبنون المستقبل" إلى تقليص تجنيد الشباب في الكارتلات، لكنها تعاني من ضعف فاعليتها بسبب غياب فرص العمل الرسمية، وهي أزمة مزمنة في المكسيك وكثير من بلدان أمريكا اللاتينية.5– تجدد الجدل حول قدرة المكسيك على مواجهة العصابات بدون دعم خارجي: أدى تجدد العنف إلى إحياء النقاشات بشأن قدرة المكسيك على مواجهة الكارتلات من دون مساعدة خارجية. خلال حملته الانتخابية، ذكر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الرئيسة شينباوم "غير مستعدة" لكبح العنف، ودعا إلى تدخل أمريكي مباشر، يشمل عمليات مشتركة أو تصنيف الكارتلات كمنظمات إرهابية، وهي خطوة قد تُبرر تدخلاً عسكرياً على الأراضي المكسيكية.أثارت مقترحات ترامب جدلاً واسعاً؛ ففي حين تدعو التيارات المحافظة في الولايات المتحدة إلى العسكرة كحل نهائي، تُظهِر التجارب السابقة للتدخلات الأمريكية في أمريكا اللاتينية أن هذا النهج ينتهك سيادة المكسيك، وليس ذلك فقط، بل يؤدي أيضاً إلى تصعيد الصراع، مع عواقب كارثية على المدنيين.وفي هذا الصدد، يكمن البديل الأفضل في التعاون الثنائي الاستراتيجي؛ وذلك من خلال تبادل المعلومات المالية لمكافحة غسل الأموال، وفرض ضوابط صارمة على تهريب الأسلحة، وتبني سياسات لخفض الطلب على المخدرات في الولايات المتحدة، التي تمثل السوق الرئيسية للاستهلاك.تطوير الاستراتيجياتتكشف جرائم القتل الأخيرة في مكسيكو سيتي عن قصور الاستراتيجيات القائمة على الرد العسكري فقط في مواجهة الكارتلات؛ فالعنف السياسي مستمر نتيجة الإخفاقات البنيوية: نظام قضائي غير فعال، ومؤسسات فاسدة، واقتصاد غير رسمي يُجنِّد الشباب المهمشين.وتتجاوز جذور المشكلة الحدود الوطنية؛ إذ تعتمد الكارتلات على الطلب الدولي على المخدرات (خصوصاً من الولايات المتحدة)، وتهريب الأسلحة عبر الحدود، وشبكات مالية عابرة للدول. وتتطلب الحلول الفعالة تعاوناً دولياً حقيقياً، لا يقتصر على التنسيق العملياتي فقط، بل يشمل أيضاً ضبط تجارة الأسلحة في أمريكا، وتطوير سياسات عامة فعالة للحد من استهلاك المخدرات.وتحتاج المكسيك بشكل عاجل إلى إعادة بناء مؤسساتها؛ فبجانب اعتقال المجرمين، يجب على الحكومة تفكيك شبكات الحماية التي تؤمن للكارتلات الإفلات من العدالة، من خلال إصلاحات قضائية، وتطوير استخبارات شرطية، وبرامج تنمية اجتماعية؛ فالعسكرة لا توفر سوى حل مؤقت. أما الحلول المستدامة فتتطلب عدالة فعالة، وإدماجاً اجتماعياً حقيقياً. وفي هذا السياق الجيوسياسي الحساس – لا سيما مع احتمال عودة إدارة ترامب – فإن الجواب لا يكمن في التدخل الخارجي، بل في الجمع بين السيادة الوطنية والتعاون الدولي الذكي؛ فالجريمة المنظمة تحدٍّ مشترك، لا تستطيع أي دولة مواجهته بمفردها.

أبعاد استمرار ظاهرة الاغتيالات في المكسيك