عرض: د. إيمان عبد الحليم

بالرغم من تواصل الدعاوى القضائية التي تُلاحِق الرئيس السابق دونالد ترامب، سعياً إلى استبعاده من سباق الانتخابات الأمريكية لعام 2024؛ فإنه يبدو الأوفر حظاً للحصول على ترشيح الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات المقررة في نوفمبر 2024؛ الأمر الذي يثير العديد من التساؤلات حول التَّبِعات المحتملة في حال فوز ترامب بالفعل في انتخابات الرئاسة المقبلة، خصوصاً مع إدارته الجدلية من 2017 إلى 2021، والإشكاليات التي أثارها بخصوص رفضه نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة التي أسفرت عن فوز جو بايدن. وفي محاولة للإجابة على هذه التساؤلات، نشرت مجلة "ذا أتلانتك" في عددها يناير/فبراير 2024، ملفاً يحمل عنوان "رئاسة ترامب المقبلة ستكون أسوأ"، متناولةً أسباب الحذر من التبعات المحتملة لرئاسة ترامب.

النهج الشخصي

يُثير الكثيرون المخاوف بشأن النهج الشخصي لترامب، وسلوكه غير المألوف، إلى الحد الذي يجعل من الصعب قبول ما قد يفعله، حتى عندما يجهر بنواياه علناً. وبوجه عام تشير مجلة أتلانتك إلى أن ثمة تداعيات محتملة لوصول ترامب إلى السلطة مجدداً على الداخل الأمريكي:

1– تنامي القدرة على الاستبداد: حيث يتوجه ترامب نحو إعطاء الأولوية في اختيار مساعديه وعناصر إدارته لاعتبارات الولاء على حساب اعتبارات الكفاءة؛ وذلك ما قد يساعد على دعم توجهاته الاستبدادية، خاصةً مع انحسار أعداد المؤهلين والمستعدين للعمل في إدارة ترامب منذ عام 2017؛ فبعضهم استقال بسبب الإحباط أو الخجل من توجهات ترامب ونهجه السياسي، والبعض الآخر أُدين علناً من قِبل الرئيس، وأمضى العديد منهم حياتهم ما بعد البيت الأبيض في تلقي مذكرات استدعاء من الكونجرس وتوجيه الاتهام إليهم. ومع اقتراب ولاية محتملة لترامب، يبدو أن القليل من هؤلاء التكنوقراط المهنيين مهتمون بالعمل معه مجدداً.

ويأتي ذلك مع اتجاه ترامب – على الأغلب – نحو اختيار مساعدين في فترة ولايته الثانية لن يقنعوه بالعدول عن توجهاته، وخاصةً أن انتقاد ترامب يمكن أن يكون سبباً لخسارتهم وظائفهم، كما كان الحال مع بعض مساعديه في فترة ولايته الأولى؛ ولذلك يتوقع أن يكون معظم الذين سيشكلون ولاية ترامب الثانية أدوات خاضعة له استوعبت حقائق الجمهورية المعاصرة في عهده، وسيتجهون – على الأغلب – لمساندته في خططه الخاصة بالتخطيط لكيفية تفكيك الضمانات المؤسسية التي تقف ضد دوافعه وممارساته السياسية.

2– الشكوك بشأن استغلال المنصب في خدمة المصالح التجارية: يشير نهج ترامب في مجال العقارات، على نحو خاص، إلى اعتباره الحكومة أداةً مربحةً لتحقيق مكاسب خاصة به، وهو لم يُجرِّد نفسه من مصالحه التجارية عند فوزه بالرئاسة. وبدلاً من ذلك، أصبح أول قائد أعلى في العصر الحديث يستفيد من شبكة عالمية من الشركات، تحمل علامات مكتوبة بأحرف تحمل اسمه، وقد استخدم منبره للترويج لمحفظته العقارية بلا خجل، وقد ترك السلطة بعد أن وضع قواعد اللعبة لاستغلال الوظيفة العامة لتحقيق مكاسب خاصة.

ولكن مع ذلك، فإنه في ولايته الأولى، تم التخفيف من فساده إلى حد ما بفعل القواعد المؤسسية وجهله بالتفاصيل، ولكن إذا فاز من جديد، فسيصل ترامب إلى السلطة وهو يحمل فهماً أفضل كثيراً لنقاط ضعف النظام، وعناصر تمكين أكثر استعداداً، وأجندة أكثر تركيزاً لتعظيم منافعه؛ فالمعرفة تتيح القدرة على الحصانة من العقاب، والفهم الذكي لكيفية التعامل بشكل مناسب مع تعارض المصالح؛ وذلك ما يضاعف المخاوف من وضعه "مصالحه الخاصة قبل أي شيء آخر، بما في ذلك مصلحة البلاد"، بحسب ما صرح المدعي العام الأمريكي السابق بيل بار.

3– إبعاد الجمهوريين المتشككين: تتنامى المخاوف التي يثيرها استبداد ترامب وميله إلى الفساد مع طرد الكثير من الجمهوريين المتشككين في نهجه من الحياة السياسية، وخاصة فيما بعد عام 2021؛ فقد خسر النائبان ليز تشيني وآدم كين زنجر مقعدَيهما في مجلس النواب؛ لدفاعهما عن نزاهة الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أسفرت عن فوز جو بايدن، وسحب النائب توم إيمر محاولته الترشح لمنصب رئيس مجلس النواب بسبب موقفه نفسه؛ وذلك في الوقت الذي يميل فيه أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريون الجدد والأصغر سناً (مثل تيد كروز، وجوش هاولي، وجي دي فانس) إلى دعم مخططات ترامب.

4– الانتهاكات القانونية المتوقعة: تتضح أولويات إدارة ترامب من تصريحاته وتصريحات الموالين من حوله، التي تشير بوضوح إلى انتهاكات قانونية غير مستبعدة؛ وذلك في ضوء اهتماماته التي تتحدد في وقف جميع القضايا الفيدرالية الجنائية والمدنية ضده، ومنح العفو والحماية للذين حاولوا إلغاء انتخابات 2020 نيابةً عن ترامب، وتوجيه وزارة العدل إلى اتخاذ إجراءات ضد خصوم ترامب ومنتقديه، وإنهاء استقلال الخدمة المدنية وإبعاد المسؤولين الفيدراليين الذين يرفضون تنفيذ أوامر ترامب.

5– الأزمة الدستورية المحتملة: من شأن ولاية ترامب الثانية أن تغرق البلاد على الفور في أزمة دستورية أكثر حدةً من أيِّ أحداث مرَّت بالبلاد منذ الحرب الأهلية؛ ففي الاضطرابات التي شهدتها فترة الستينيات، وحتى خلال فترة الكساد الكبير، كانت البلاد تتمتع بحكومة فاعلة يرأسها الرئيس، لكن الحكومة لا تستطيع أن تعمل مع شخص مُتَّهم أو مُدَان بصفته رئيساً لها، وهو الشخص الذي يمكن أن يكون خارجاً عن القانون، أو في طريقه ليصبح خارجاً عن القانون، ومن أجل بقائه في منصبه، سيكون عليه انتهاك حكم القانون.

6– السعي إلى اختيار المرشح لمنصب المدعي العام: فقد عززت المقاومة المؤسسية التي واجهها ترامب تصميمه على تعيين الموالين له في وظائف رئيسية في حال إعادة انتخابه، وإحدى الوظائف التي سيُركِّز عليها تركيزاً خاصاً هي منصب المدعي العام، خصوصاً مع اعتقاده أن كلا الرجلين اللذين شغلا المنصب خلال فترة ولايته – وهما جي سيشنز وبيل بار – كانا مذنبين بارتكاب خيانة خطيرة، ومنذ ذلك الحين اتُّهم ترامب بـ91 تهمة جنائية في أربع ولايات قضائية منفصلة، وهو دليل – كما يزعم – على "اضطهاد سياسي" تاريخي.

ويشير المقربون منه إلى أنه لن يَدَعَ مثل هذا التهديد يواجهه مرة أخرى، وخاصةً مع حجم الإدانات الموجهة إليه، فضلاً عن محاولته بالفعل خلال فترة رئاسته الأولى تعيين جي كلارك، الذي حاول مساعدته في إلغاء انتخابات 2020، في منصب المدعي العام بالنيابة في أوائل يناير 2021، لكنه وُوجِه بتهديدات بالاستقالة الجماعية في وزارة العدل.

7– مخاوف من الانتقام القانوني: تتضاعف المخاوف بشأن نهج ترامب مع ميله إلى الانتقام قانونياً من معارضيه، بحسب ال وقد حدد قائمة طويلة من الذين يستحقون تهماً جنائية أو حتى الإعدام، ومنهم جو بايدن، ومارك ميلي، وجيمس كومي، وآخرون، وإذا عاد إلى البيت الأبيض، يمكن لترامب أيضاً، في أي وقت، تعيين أي محامٍ مستشاراً خاصاً لوزارة العدل – أو توجيه المدعي العام بتعيينه – مع سلطة توجيه الاتهامات والملاحقات القضائية. وحتى إذا لم يتمكن ترامب من إدانة خصومه السياسيين بتهم زائفة، فإنه قد يعرقلهم بسنوات من التحقيقات، مع تكبيدهم ملايين الدولارات رسوماً قانونيةً.

8– التبعات الخطرة لاحتمالية تدخل الجيش: تشير بعض المعلومات إلى أن حلفاء ترامب يعكفون على وضع خُطط لتفعيل قانون التمرد في يوم التنصيب لقمع أي تظاهرات ضد عودته المحتملة إلى منصبه السابق، وسبق أن تكهَّن مستشاروه بإمكانية استخدام الجيش لسحق الاحتجاجات ضد خططه السابقة لإلغاء نتائج انتخابات عام 2020. ولكن إذا كان بإمكان الرئيس أن يدعو إلى إجراء تحقيق مع خصومه، أو استدعاء الجيش لإخماد الاحتجاجات، فإن ذلك يهدد حرية المجتمع الأمريكي. وتزداد تلك المخاوف مع إمكانية فصل الضباط الذين يرفضون مثل هذه الأوامر أو إعادة تكليفهم، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى إثارة مواجهة سياسية بين الموالين لترامب في الانتخابات الرئاسية وبين القيادة العليا في القوات المسلحة، وهو في حد ذاته احتمال شديد الخطورة، ولم يكن من الممكن تصوره في السابق.

وإذا نجح ترامب في الاستيلاء على الجيش الأمريكي مع تدمير المؤسسات الرئيسية الأخرى التي تحمي الديمقراطية – وخاصة المحاكم ووزارة العدل – فلن يمنعه شيء من استخدام القوة لإخماد المعارضة والبقاء في السلطة.

9– مواصلة الضغط على المهاجرين: بمجرد تولي ترامب منصبه في عام 2017، تم إرسال عملاء من إدارة الهجرة والجمارك في جميع أنحاء البلاد لاعتقال أكبر عدد ممكن من الأجانب غير المسجلين، ووضع حظر على قبول آلاف الطلبات للهجرة للعديد من الأشخاص، من بينهم لاجئون ورجال أعمال في مجال التكنولوجيا وأساتذة جامعات، ووضعت الإدارة خططاً لإقامة جدار حدودي مع المكسيك، ويفترض أن يواصل ترامب تنفيذ سياسته الخاصة بالهجرة في حال انتخابه. وفي خطاب ألقاه في أوائل عام 2023 في مؤتمر العمل السياسي المحافظ، قال ترامب بالفعل إنه سيستخدم "جميع الموارد الحكومية والمحلية والفيدرالية والعسكرية اللازمة لتنفيذ أكبر عملية ترحيل محلية في التاريخ الأمريكي".

10– تراجع الاهتمام بقضايا المناخ: يمكن الإشارة هنا إلى أنه بحلول يوم تنصيب ترامب في إدارته الأولى، كانت إدارته قد حذفت الإشارات المتعلقة بتغيُّر المناخ من الموقع الإلكتروني للبيت الأبيض، وبحلول شهر مايو 2021 أزال المسؤولون صفحة وكالة حماية البيئة التي تُوضِّح علوم المناخ لعامة المواطنين، بالإضافة إلى 108 صفحات مرتبطة بخطة الطاقة النظيفة التي تمثل سياسة باراك أوباما التاريخية التي هدفت إلى الحد من الانبعاثات من محطات الطاقة.

وعليه فإن من المتوقع خروج إدارة ترامب مرة أخرى من اتفاقية باريس للمناخ حال توليه الرئاسة. وفي الوقت الذي قد يكون فيه الانسحاب من الاتفاقية خطوةً رمزيةً إلى حد كبير، فإن من الممكن أن يكون لها تأثير الدومينو، بالتأثير على مواقف دول أخرى، مثل الهند وإندونيسيا والبرازيل، التي سيتراجع استعداد السياسيين المحافظين فيها للقيام بمجهودات أكبر في سياق حماية المناخ.

11– تفاقم الانقسام بين اليمين واليسار: من المتوقع أن يعطي فوز ترامب زخماً جديداً لجماعات اليمين المتطرف – مثل "الأولاد الفخورون"، و"حافظو القسم" – التي تعرَّض قادتها لأحكام بالسجن لفترات طويلة؛ لدورهم في أعمال العنف التي وقعت يوم 6 يناير 2021. ولكن فوز ترامب بولاية أخرى، سوف يشعره هو وأنصاره بأنهم كانوا على حق. ومع وعد الرئيس السابق بالعفو عن العديد من متمردي 6 يناير، يمكن أن يمتد عفوه ليشمل القادة المتطرفين المدانين بتهم فيدرالية، وليتضاعف تأثير مثل هذه الجماعات المتطرفة في داخل المجتمع.

ولا يقتصر الأمر على دعم اليمين المتطرف فحسب؛ فقد تعهَّد ترامب من ناحية أخرى بالعمل على "اجتثاث الشيوعيين والماركسيين والفاشيين وبلطجية اليسار الراديكالي الذين يعيشون مثل الحشرات داخل حدود بلادنا، الذين يكذبون ويسرقون ويغشون في الانتخابات"، بحسب ما جاء في تصريحاته في نوفمبر 2023، في خطاب انتخابي بمناسبة يوم المحاربين القدامى، وحيث اعتبر أن "التهديد الحقيقي لا يأتي من اليمين المتطرف؛ فالتهديد الحقيقي يأتي من اليسار المتطرف. فالتهديد القادم من قوى خارجية أقل شراً وخطورةً بكثير من التهديد القادم من الداخل"، لتثير مثل هذه اللغة التحريضية المخاوف من أن تلقي بظلالها على تصرفات ترامب على الصعيد العملي؛ حيث يبدو كأنه يَعِد بتطهير أو قمع الذين يختلفون معه سياسياً.

الانعكاسات الخارجية

إذا فاز ترامب بالرئاسة مرة أخرى، فلن تتوقف التبعات على صعيد الداخل الأمريكي، بل ستمتد على الصعيد الخارجي؛ وذلك مع التأثير المتوقع على السياسة الأمريكية تجاه الحلفاء والشركاء على السواء؛ الأمر الذي قد يصبُّ لصالح القوى المنافسة للولايات المتحدة، وخاصةً روسيا والصين؛ وذلك على النحو التالي:

1– تراجع العلاقة مع حلف "الناتو": تثير الإدارة الثانية لترامب مخاوف جدية بشأن علاقة الولايات المتحدة وحلف الناتو؛ فقد عبر الرئيس السابق ذات يوم عن مشاعره تجاه أقدم وأقوى تحالف عسكري أمريكي بقوله: "أنا لا أهتم بحلف شمال الأطلسي"، وهو التصريح الذي لم يكن مفاجأة؛ فقبل وقت طويل من ترشيحه سياسياً، شكَّك ترامب في قيمة التحالفات الأمريكية، وكتب ذات مرة عن الأوروبيين إن "صراعاتهم لا تستحق حياة الأمريكيين.. إن الانسحاب من أوروبا سيوفر على هذا البلد ملايين الدولارات سنوياً"، غير أنه خلال فترة وجود ترامب في منصبه، لم يحدث الانسحاب قط؛ بسبب مساعديه الذين لم يشجعوه على ذلك، لكنهم لم يغيروا رأيه. وإذا أعيد انتخابه في عام 2024، فلن يكون أي من هؤلاء في البيت الأبيض.

وحتى إن كان فك الارتباط مع الناتو أمراً صعباً بالنسبة إلى ترامب من الناحية المؤسسية، وربما من الناحية السياسية، فإنه بمجرد أن يعلن عن نواياه، فسوف تنشأ أزمة دستورية في الداخل الأمريكي؛ حيث إن الدستور، وإن كان يشترط موافقة مجلس الشيوخ بالنسبة إلى المعاهدات الأمريكية، لا يذكر شيئاً عن موافقة الكونجرس على الانسحاب من المعاهدات. وإدراكاً لهذه الفجوة، قدَّم السيناتور الديمقراطي تيم كين، والسيناتور الجمهوري ماركو روبيو، تشريعاً أقرَّه مجلس الشيوخ بالفعل، يهدف إلى منع أي رئيس أمريكي من الانسحاب من الناتو دون موافقة ثلثَي مجلس الشيوخ أو بصدور قانون من الكونجرس، لكن سيكون هناك صراع بالتأكيد لإقرار مثل هذا القانون.

2– التأثير في العلاقة مع الحلفاء: قبل وقت طويل من انعقاد الكونجرس لمناقشة المعاهدة مع حلف الناتو، فإن الضرر سوف يكون قد وقع على علاقة واشنطن مع الحلفاء؛ ذلك لأن المصدر الأكثر أهميةً لنفوذ الحلف وتأثيره الرادع ليس قانونياً أو مؤسسياً، بقدر ما هو نفسي؛ فهو يخلق توقعاً بالدفاع الجماعي في ذهن أي طرف قد يُهدِّد أياً من أعضاء الحلف، غير أنه بوسع ترامب أن ينهي هذا الرادع النفسي بخطاب أو تعليق واحد، أو حتى بمنشور على شبكات التواصل الاجتماعي، ولن يهم حينها إذا كان الكونجرس ووسائل الإعلام والحزب الجمهوري لا يزالون يتجادلون حول شرعية الانسحاب من حلف الناتو.

3– توسُّع الاجتياح الروسي لأوكرانيا: بمجرد أن يُصرِّح القائد الأعلى لأكبر قوة مؤثرة في الناتو، بعدم الاستعداد لمساعدة أي حليف قد يتعرَّض للهجوم، فسينهي ذلك التهديد الرادع للقوى المناوئة للحلف، وبغض النظر عن الالتزامات التي لا تزال قائمة على الورق، وبما يعني تراجع الحذر الروسي من التبعات المتوقعة إذا اتخذ الكرملين قراراً بتوسيع اجتياح لأوكرانيا وما وراءها، متجنباً حينها رد فعل الولايات المتحدة على أي هجوم، ومع تنامي المخاوف من تعرض أجزاء مختلفة من القارة الأوروبية لهجوم روسي محتمل لم تكن مستعدة له.

وعلى ذلك، فإن احتمال خروج واشنطن من الناتو سيكون من شأنه أن يجبر العديد من الدول الأوروبية على الاحتفاظ بمواردها العسكرية في الداخل، وستبدأ ذخيرة الأوكرانيين في النفاد بسرعة كبيرة، وسوف يصبح الغزو الروسي لأوكرانيا بأكملها –وهو هدف الرئيس فلاديمير بوتين – قابلاً للتفكير فيه مرة أخرى، مع قدرة الروس على قصف المطارات ومراكز الإمداد الأخرى لأوكرانيا في بولندا ورومانيا.

4– إمكانية تكيف الشركاء مع نهج ترامب: إن التغيير المتوقع في السياسة الأمريكية في عهد ترامب سيتردد صداه على الفور خارج أوروبا. وبمجرد أن يصرح ترامب بأنه لم يعد يدعم حلف الناتو، فإن كل التحالفات الأمنية الأمريكية الأخرى سوف تصبح أيضاً في خطر، وسوف تدرك تايوان، وكوريا الجنوبية، واليابان، وحتى إسرائيل، أنها لم تعد قادرة على الاعتماد على الدعم الأمريكي التلقائي، مع تنامي الاقتناع العام بأن الولايات المتحدة لم تعد حليفاً يمكن الاعتماد عليه. وبمرور الوقت، سيبدأ كل حلفاء واشنطن يتحوطون لمثل هذا الاحتمال؛ فقد تتقرب بعض الدول الأوروبية من روسيا لتجنب الغزو، وقد تتقرب العديد من الدول الآسيوية من الصين لتجنب تهديدها، بما يعني التعامل بجدية أكبر مع المطالب التجارية والسياسية من ثاني وثالث أكبر القوى العسكرية في العالم، على التوالي.

وفي الوقت نفسه، فإن العديد من الأحزاب السياسية ورؤساء الدول (سواء داخل السلطة أو خارجها) المدعومين من روسيا والصين – أو إيران وفنزويلا وكوبا – سيكون لديهم حجة جديدة مقنعة لصالح الاستمرار في الأساليب والتكتيكات الاستبدادية التي قد تتسق حينها مع السياسات الأمريكية.

5– استفادة الصين المحتملة من ولاية ترامب الجديدة: من المفارقات الأخرى المرتبطة بولاية جديدة لترامب، أن ذلك قد يُشعر قادة الصين بالارتياح لانتهاء حكم بايدن وعودة ترامب إلى البيت الأبيض، ورغم إطلاقه حرباً تجارية في مواجهتها، وفرض إدارته تعريفات جمركية على الواردات الصينية، وإثارته غضب بكين مع إشارته إلى فيروس كورونا باسم "الفيروس الصيني"، وإلقاء اللوم على الحزب الشيوعي الصيني في انتشاره؛ لكن رغم ذلك ضرب بايدن الصين بقوة أكبر، وألحق أضراراً جسيمة باقتصاد البلاد وطموحاتها الجيوسياسية، وخاصةً بعد أن منعت إدارته فعلياً تصدير أشباه الموصلات المتقدمة والمعدات المعقدة اللازمة لتصنيعها إلى الصين، متسلحاً في ذلك بسياسة خارجية قوية تقوم على شبكة من التحالفات العالمية بقيادة واشنطن، التي كان قد أصابها الضمور في عهد ترامب.

وعليه، فإن عودة ترامب المحتملة تتيح للصين الفرصة لتجاوز التحديات التي فرضها بايدن مجدداً، بل ربما تتيح لها العودة إلى الريادة العالمية، مستفيدةً من تواري الدور الأمريكي في عهد ترامب، الذي سيشجع الرئيس الصيني على الترويج لبلاده باعتبارها قوة عالمية أكثر مسؤوليةً، وخاصةً مع الفوضى التي تثيرها رئاسة ترامب؛ الأمر الذي سيكون من شأنه كذلك التأثير في قضايا أخرى ذات أهمية، مثل السياسة تجاه تايوان.

ومن ثم، ما يمكن قوله في الختام، أنه إذا هُزم ترامب، يمكن للولايات المتحدة المضي قدماً بطريقتها غير الكاملة والمألوفة في التعامل مع المشكلات الكبيرة والمتعددة في العصر الحالي، مثل الحروب في الشرق الأوسط وأوكرانيا، وتغير المناخ، والمعايير التعليمية وتكافؤ الفرص، والنمو الاقتصادي ومستويات المعيشة الفردية، وما إلى ذلك. ولكن مقابل ذلك، فإن رئاسة ترامب الثانية ستمثل نوعاً من الصدمة التي سيكون من شأنها أن تطغى على جميع القضايا الأخرى، ليكون مثل هذا الحدث بمنزلة حد فاصل بين مرحلتَي "قبل" و"بعد"، وهو الأمر الذي قد لا يمكن للمجتمع الأمريكي أن يتجاوزها أبداً؛ فحتى لو تم احتواء الضرر المترتب على فوزه، فلن يمكن معالجته على نحو تام، كما لا يمكن التراجع عن الضرر الذي وقع بالفعل في يوم 6 يناير 2021.

المصدر:

"The next Trump presidency will be worse", The Atlantic, January/February 2024.

ما التبعات المتوقعة لرئاسة ترامب الثانية على السياسة الأمريكية؟