د. محمد عباس ناجي

يواجه نظام الجمهورية الإسلامية في إيران حالياً أصعب الاختبارات التي مر بها على مدى أكثر من أربعة عقود. فرغم أنه تعرض لأزمات خارجية عديدة منذ عام 1979، إلا أن الأزمة الحالية قد تكون الأكبر والأكثر خطورةً على بقائه في السلطة. ومع أنّ المرشد الأعلى للجمهورية "علي خامنئي"، حاول في الرسالة التي أصدرها، في 28 سبتمبر 2024، بعد اغتيال الأمين العام لحزب الله "حسن نصر الله" في الهجمات التي شنتها إسرائيل على الضاحية الجنوبية لبيروت قبل ذلك بيوم واحد، تأكيد أن هذا المتغير لن يؤثر على قوة وتماسك الحزب؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن هناك مخاوف تنتاب النظام في إيران من التداعيات التي يمكن أن تنجم عن ذلك، خاصةً في ظل الاختراقات الأمنية التي يعاني منها حالياً، وبدا أبرز وآخر تجلياتها في عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس "إسماعيل هنية" داخل مقر أمني تابع للحرس الثوري في 31 يوليو 2024.وقد أشارت تقارير عديدة إلى أنه تم نقل المرشد "علي خامنئي" نفسه إلى مكان أكثر أمناً في إيران. كما كان لافتاً أن نجل المرشد "مجتبى خامنئي" -المرشح لخلافة والده- أوقف تدريس "فقه الخارج والأصول" في الحوزة، الذي يتابعه أكثر من 700 طالب، وهي المرحلة الأخيرة للحصول على درجة الاجتهاد في الفقه الشيعي، على نحو اعتبرته اتجاهات عديدة محاولة لتحصين نجل المرشد وحمايته من احتمال استهدافه شخصياً في ضوء الثغرات الأمنية التي تُعاني منها إيران حالياً ولم تفلح أجهزة الأمن في احتوائها.تداعيات محتملةمن دون شك، فإن النتائج التي تتمخض عن الحرب الإسرائيلية حالياً في لبنان تفرض ضغوطاً قوية على إيران، خاصةً أنها ربما تسفر عن تداعيات عديدة يمكن تناولها على النحو التالي: 1- تزايد احتمالية الدخول في حربٍ مباشرة مع إسرائيل: يشير إصرار إسرائيل على تبني هذا النهج في إدارة التصعيد العسكري مع خصومها الإقليميين إلى أنها لم تعد تستبعد الانخراط في حرب مباشرة مع إيران. إذ إنها بدأت في تدمير القدرات العسكرية التي يمتلكها الوكلاء الموالون للأخيرة، على غرار حركة حماس، وحالياً حزب الله اللبناني.وربما يكون ذلك معناه أنها بدأت بالفعل تستعد لحرب مباشرة وواسعة النطاق مع إيران. وقد كان لافتاً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" وجه رسائل تهديد مباشرة إلى إيران خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 27 سبتمبر 2024، وقبيل تنفيذ عملية اغتيال "نصر الله" بساعات، مفادها أنه إذا هاجمت إيران إسرائيل، فإن الأخيرة سوف تهاجمها في كل مكان. وربما يعكس ذلك رؤية النخبة الحاكمة حالياً في تل أبيب، والتي تقضي بأن منع تكرار ما حدث في 7 أكتوبر 2023، يتطلب في المقام الأول القضاء على القدرات العسكرية للخصوم من أجل تحييد المخاطر التي تنجم عن إصرارهم على تطويرها.2- لجوء إيران إلى تسريع عملية إنتاج القنبلة النووية: في رؤية دوائر عديدة داخل النظام، فإن ما يحدث حالياً يعكس مخططاً استراتيجياً تتبناه كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ويقوم على تصفية "المحور الإقليمي" الموالي لإيران، تمهيداً لإعادة صياغة الترتيبات الأمنية والاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط بما يتوافق مع مصالحهما في المقام الأول.ومن دون شك، فإن إيران تدرك حالياً أن الجهود الحثيثة التي بذلتها من أجل بناء الردع الإقليمي الذي اعتبرت أنه يمثل الآلية الأولى والرئيسية لحمايتها من أي خطر أو تهديد خارجي ولتقليص أي احتمالات لانخراطها في حرب مباشرة، لم تحقق النتائج المرجوّة في النهاية، بدليل القضاء على الجزء الأكبر من القدرات العسكرية لحركة حماس، واغتيال الصف الأول الرئيسي في حزب الله بالتوازي مع العمل على تدمير قدراته العسكرية أيضاً. من هنا، وإدراكاً منها لاحتمال أن يكون ذلك مقدمة لشن هجوم عسكري عليها، سواء من جانب إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية، أو من قبل الطرفين؛ فإنها قد تلجأ إلى آلية الرد الأخرى الخاصة بامتلاك القنبلة النووية. وقد ألمح أكثر من مسؤول إيراني خلال المرحلة الماضية بالفعل إلى إمكانية اتجاه إيران إلى "تغيير العقيدة النووية"، في إشارة إلى احتمال إجراء تعديل في الفتوى التي أصدرها المرشد الأعلى للجمهورية "علي خامنئي" في عام 2003 وتحرم إنتاج وتخزين الأسلحة النووية أو إلغاءها بشكل كلي، بشكل يتيح لها الانخراط في هذا المسار، خاصةً أنها باتت تمتلك من المواد الانشطارية ما يؤهلها للاقتراب من هذه المرحلة، حيث تنقصها بعض المكونات التقنية اللازمة، مثل إنتاج المفجر النووي ورؤوس الصواريخ التي ستحمل القنابل.ومن الجدير بالإشارة هنا أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أصدرت، في 29 أغسطس 2024، تقريراً جاء فيه أن كمية اليورانيوم التي خصّبتها إيران بنسب مختلفة وصلت إلى 5751.8 كلجم، أي ما يعادل 28 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي (202.8 كلجم). كما بلغت كمية اليورانيوم المخصب نسبة 60% -الأقرب إلى الدرجة اللازمة لإنتاج القنبلة (90%)- 164.7 كلجم، وهي كمية تحتاج إلى 2 كلجم فقط لكي تكون كافية لإنتاج 4 قنابل نووية إذا اتخذت إيران قراراً بالتوجه نحو هذا المسار. وكان "كمال خرازي" وزير الخارجية الأسبق ورئيس المركز الاستراتيجي للعلاقات الخارجية، والمقرب من المرشد "خامنئي"، قد أشار، في 12 مايو 2024، إلى أن "إيران قد تغير عقيدتها النووية إذا تعرضت للتهديد".3- حدوث شرخ في العلاقات بين إيران ووكلائها: رغم البيان الذي أصدرته السفارة الإيرانية في بيروت، في 27 سبتمبر 2024، والذي حمل صيغة تهديدية عندما أشار إلى أن هذه "العمليات العسكرية سوف تغير قواعد اللعبة"؛ إلا أن الموقف العام الذي تتبناه إيران يتسم حتى الآن بـ"المهادنة" إزاء الاستراتيجية العسكرية التي تتبعها إسرائيل ضد إيران ووكلائها منذ 7 أكتوبر 2023، وهو ما يمكن أن يتسبب في فرض تداعيات سلبية على العلاقات بين إيران والوكلاء من المليشيات الشيعية الموجودة في دول مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن، فضلاً عن الفصائل السنية على غرار حركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين.فقد عزفت إيران عن التدخل لدعم وكلائها، سواء حماس أو حزب الله. ففي الحالة الأولى، حرصت من البداية على النأي بنفسها عن عملية "طوفان الأقصى". وفي الحالة الثانية، وجهت رسائل لحزب الله بأنها ليست مستعدة للانخراط في حرب إقليمية مع إسرائيل. وهنا، فإن ذلك ربما يدفع الوكلاء في المستقبل إلى توسيع مساحة الحركة التي يقومون بها على المستويين المحلي والإقليمي بشكل قد لا يتوافق بالضرورة مع مصالح وحسابات إيران، خاصةً أن قوة التأثير الإيراني على الوكلاء تراجعت، إلى حد ما، بعد اغتيال القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري "قاسم سليماني" في 3 يناير 2020.4- ارتباك التحركات الميدانية لوكلاء إيران بالمنطقة: ربما تؤثر الضربات العسكرية القوية التي تعرض لها حزب الله على التحركات الميدانية للوكلاء الآخرين، في ضوء الدور البارز الذي كان يقوم به الحزب، على مستويين: الأول، محاولة التوسط بين بعض المليشيات الموالية، التي تنشب فيما بينها، في بعض الأحيان، خلافات وصراعات على الثروة والنفوذ، على غرار ما يحدث بين المليشيات الشيعية في العراق. والثاني، تدريب الكوادر العسكرية في المليشيات على استخدام الأسلحة الثقيلة على غرار الصواريخ الباليستية والطائرات من دون طيار، كما يحدث مع مليشيا الحوثي في اليمن.وهنا، فإن انشغال حزب الله حالياً أولاً بإعادة ترتيب صفوفه من جديد، عبر تعيين أمين عام وكوادر للصف الأول، سوف يخصم من هذا الدور الذي كان يقوم به في الفترة الماضية، لدرجة أن بعض الأدبيات كانت تشير إلى أن حزب الله -وليس قائد فيلق القدس "إسماعيل قاآني"- هو من ورث النفوذ الذي تركه "قاسم سليماني" بعد اغتياله.5- تعرض دول الإقليم لتهديدات إيرانية ومليشياوية: مع أن حكومة الرئيس "مسعود بزشكيان" تسعى في المرحلة الحالية إلى تحسين العلاقات مع دول الجوار، وفي مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي، على نحو بدت آخر تجلياته في الزيارة التي سيقوم بها الرئيس "بزشكيان" إلى قطر، في 30 سبتمبر 2024، إلا أن الضغوط التي تتعرض لها إيران حالياً بفعل الحرب التي تشنها إسرائيل في لبنان قد تدفعها إلى اتخاذ إجراءات تصعيدية قد تؤثر على علاقاتها مع تلك الدول. إذ قد تعود وتيرة التهديدات الإيرانية -خاصةً من جانب الحرس الثوري- إلى المصالح والقواعد الأمريكية في الخليج العربي. كما ستسمح إيران، في الغالب، للمليشيات الموالية لها بتبني النهج نفسه، وهو ما بدأت مؤشراته في الظهور فعلياً. فعلى سبيل المثال، أصدر الأمين العام لمليشيا "كتائب سيد الشهداء" في العراق "أبو آلاء الوائلي"، بياناً في 27 سبتمبر 2024، هدد فيه باستهداف مصالح الإمارات في حالة اندلاع حرب. كما أصدر ما يسمى بـ"المقاومة الإسلامية في البحرين - سرايا الأشتر" بياناً، في 21 سبتمبر 2024، "باركت" فيه "استشهاد القيادي في حزب الله إبراهيم عقيل"، وأكدت "وحدة الصف ضد محور الشر الصهيوني الأمريكي".مأزق حرجفي النهاية، يمكن القول إن النظام الإيراني يواجه مأزقاً حرجاً في المرحلة الحالية. إذ إن الضغوط التي يتعرض لها للتدخل من أجل دعم وكلائه لا تبدو هينة، على نحو قد تدفعه بالفعل للانخراط في التصعيد الحالي بكل ما يفرضه ذلك من عواقب وخيمة عليه. في حين أن إصراره على موقفه الحالي بعدم التجاوب مع الضغوط الإسرائيلية أو الانسياق وراء "الفخ" الذي ينصبه رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" -بحسب تصريحات المسؤولين الإيرانيين- سوف يكلفه كثيراً فيما يتعلق بقدرته على ضبط مستوى أداء وتحركات وكلائه في المستقبل.

كيف تفكر إيران في مرحلة ما بعد حرب لبنان؟