في خضم الحرب الروسية الأوكرانية، والعقوبات الغربية المُوقَّعة ضد روسيا، تنامت حاجة روسيا المُلحَّة إلى تأمين سلاسل توريدها؛ ما حفَّز الحكومة الروسية على تطوير ممر بحر الشمال، الذي رأت فيه فرصة اقتصادية وجيوسياسية مهمة. وقد تمثلت الخطوة الأخرى في هذا الصدد، في الموافقة على "خطة تطوير الطريق البحري الشمالي" في أغسطس 2022، التي تضمنت بناء أكثر من خمسين كاسحة جليد، فضلاً عن تطوير الموانئ والمحطات الطرفية، ومراكز الطوارئ والإنقاذ، وبناء مجموعة مدارية من الأقمار الصناعية. وفي ضوء تلك الخطة، تعهدت روسيا بإنفاق نحو تريليوني روبل بما يعادل 21.4 مليار دولار أمريكي تقريباً على تطوير الممر، على مدار ثلاثة عشر عاماً.

ومنذ ذلك الحين، حرصت روسيا على مناقشة التطور الحاصل في الممر، وأعرب العديد من المسؤولين الروس عن رغبة موسكو في تشكيل تحالف لتنمية شحن الترانزيت عبر ممر الملاحة الشمالي. يذكر في هذا الصدد، أن طريق بحر الشمال هو ممر شحن يمر على طول الساحل الشمالي لروسيا، عبر مياه المحيط المتجمد الشمالي، وهو أقصر طريق بحري بين موانئ أوروبا والشرق الأقصى، ويربط مصبات الأنهار السيبيرية في نظام نقل واحد.

وبحسب الأرقام الواردة على موقع شركة روساتوم الروسية المسؤولة عن عملية تطوير الممر، فإن طول طريق بحر الشمال يبلغ 5600 ميل. أما المسافة الكاملة من مورمانسك الروسية إلى الموانئ الصينية عبر طريق البحر الشمالي فتبلغ 7000 ميل.

دوافع روسية

يقف وراء الرغبة الروسية الكبيرة في تطوير ممر بحر الشمال، عدد من الدوافع الرئيسية يمكن الوقوف عليها من خلال ما يأتي:

1– تحويل الممر إلى طريق تجاري رئيسي بين أوروبا وآسيا: في عام 2011، صرَّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حينما كان يشغل منصب رئيس الحكومة، بأن ممر بحر الشمال الملاحي سينافس قناة السويس على المدى القريب، باعتباره ممراً تجارياً أسرع بين آسيا وأوروبا؛ إذ يعد أقصر بنحو الثلث مقارنةً بممر الملاحة الجنوبي. ولعل ذلك التصريح يمكن أن يشرح رغبة روسيا القوية في تطوير الممر؛ حيث تأمل روسيا أن يتحول ممر بحر الشمال إلى طريق تجاري رئيسي بين أوروبا وآسيا بحلول عام 2030.

2– تنمية تجارة روسيا مع شركائها الاستراتيجيين: تسعى روسيا إلى أن يوفر مسار بحر الشمال فرصة لزيادة القدرة على تعزيز التجارة الثنائية مع عدد من الشركاء الاستراتيجيين بالنسبة إليها – وعلى رأسهم الهند والصين – بصورة أكبر من خلال نقل البضائع على نحو موثوق وآمن عبر الممر. ولعل نمو حركة الشحن على طريق بحر الشمال بشكل ملحوظ من 3.93 مليون طن في عام 2013 إلى 36.254 مليون طن في عام 2023، يشير إلى فرص إيجابية لنمو مستقبلي لحجم الشحنات المارة عبر ذلك الطريق؛ حيث تهدف روسيا إلى زيادة قدرة طريق البحر الشمالي إلى 100 مليون طن بحلول عام 2026، ونحو 200 مليون طن بحلول عام 2030.

3– توفير أداة للتهرب من العقوبات: تسعى موسكو إلى تعزيز اقتصادها المتعثر من خلال زيادة تطوير ممر بحر الشمال، بجانب ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC) باعتباره منافساً حقيقياً لقناة السويس ومضيق البوسفور؛ وذلك نظراً لرغبة روسيا في فتح مسارات لأسواق جديدة تتحايل من خلالها على العقوبات الغربية، فتحافظ على اقتصادها مستقراً في زمن الحرب.

4– إتاحة مسار جديد لروسيا إلى الجنوب العالمي: ينظر محللون روس إلى ممر بحر الشمال، على أنه بمنزلة فرصة تاريخية لموسكو لتوسيع الوجود الاقتصادي الروسي في الأسواق المزدهرة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وخارجها؛ نظراً إلى دور الممر في زيادة فرصة التجارة الثنائية والصفقات الاقتصادية بين الدول الواقعة في تلك المنطقة، ومن ثم زيادة المردود الاقتصادي لذلك على الاقتصاد الروسي الذي هو في أمسِّ الحاجة للحفاظ على سلاسل توريد آمنة وبعيدة عن ضغوطات الغرب.

5– تنشيط اقتصادات الأقاليم الروسية: تطالب عدد من الأطراف داخل روسيا بزيادة استخدام الممر وتطويره؛ نظراً إلى ما يوفره من إمكانات قوية لتنشيط اقتصادات العديد من المناطق الروسية، وتحسين أوضاعها، خاصةً أن إجمالي حصة المنتجات التي تُشحَن عبر طريق البحر الشمالي لا يتجاوز 1% حالياً؛ ما يجعل زيادة التبادل التجاري في ذلك الممر، فرصة لإنعاش الاقتصاد الروسي واقتصاد أقاليم روسيا بالتبعية. ومن المُرجَّح أن تكون منطقة أستراخان هي المستفيد الرئيسي من إنعاش الممر.

6– مواجهة تعطل عبور البضائع عبر بحر البلطيق والبحر الأسود: بحسب ألكسندر تيسياشنيكوف المستشار الروسي في مجال النقل البحري، فإنه بعد نشوب الحرب الروسية على أوكرانيا، تخلت العديد من الشركات الغربية عن السوق الروسية؛ ما أدى في المقام الأول إلى تعطيل عبور البضائع في منطقة بحر البلطيق؛ حيث انخفضت بنسبة 75%، ومنطقة البحر الأسود التي شهدت هي الأخرى انخفاضاً بنسبة 40–45%؛ ما يجعل تطوير ممر بحر الشمال فرصة لروسيا لتعويض الخسائر الناجمة عن تعطل عبور البضائع عبر منطقتي بحر البلطيق والبحر الأسود.

اتجاهات التطوير

في إطار رغبة روسيا الحثيثة في تطوير ممر بحر الشمال، عمدت موسكو في السنوات الأخيرة، إلى اتخاذ عدد من الخطوات الرامية إلى تحقيق ذلك الهدف، وهو ما يمكن استعراضه على النحو الآتي:

1– تطوير روسيا كاسحات جليد نووية: لدعم الملاحة في ممر بحر الشمال، اتجهت شركة روساتوم الروسية إلى تطوير كاسحات جليد نووية، على مسار بحر الشمال. ويُذكَر في هذا الصدد أنه في الوقت الحالي، تقوم ثلاث كاسحات جليد بمرافقة قوافل السفن، على طول الممر، ومن المتوقع أن يصبح إجمالي كاسحات الجليد في ممر بحر الشمال نحو 50 كاسحة جليد، بحسب الخطة الروسية لتطوير الممر.

2– اعتزام تنفيذ برنامج تطوير مع شركة موانئ دبي العالمية: في عام 2023، ذهبت روساتوم الروسية نحو التعاون مع موانئ دبي العالمية لتطوير ممر الملاحة الشمالي. وفي ضوء ذلك، صرَّح سلطان أحمد بن سليم رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لـموانئ دبي العالمية حينها، بأن الشركة تُطوِّر مسار شحن الترانزيت الذي من المتوقع أن يكون أسرع بنحو 40%، من طوكيو إلى لندن، وهو التعاون الذي يعود إلى عام 2021 عندما أعلنت شركتا روساتوم وموانئ دبي العالمية، عن العمل المشترك على تجربة شحن الحاويات بين شمال غرب أوروبا وشرق آسيا عبر القطب الشمالي. ووفقاً للمدير العام لشركة "روساتوم" أليكسي ليخاتشوف، فإن شركة روساتوم تعتزم تنفيذ برنامج طويل الأجل مع موانئ دبي العالمية لشحن البضائع بواسطة الحاويات عبر ممر الملاحة الشمالي الروسي.

3– جهود هندية روسية لتفعيل الممر البحري الشمالي الشرقي: في الملتقى الاقتصادي الشرقي الثامن في فلاديفوستوك الروسية في سبتمبر 2023، وافقت كل من الهند وروسيا على توسيع نطاق التعاون بينهما لتفعيل الممر البحري الشمالي الشرقي؛ وذلك من خلال الربط بين الموانئ الاستراتيجية في فلاديفوستوك وتشيناي. يأتي ذلك على خلفية اعتزام الهند التخلص من المخاطر المرتبطة بسلسلة التوريد الخاصة بها، عبر تنويعها من خلال ممرات بحرية ونقل مختلفة، في سياق ارتباطاتها الاقتصادية المتنامية مع دول الغرب.

علاوةً على ذلك، وفي تطور مهم ينمُّ عن رغبة روسية هندية في توسيع جهودهما في هذا المضمار، وقعت الهند وروسيا اتفاقية رسمية لتوفير التدريب للبحارة الهنود في المياه القطبية، ومن المتوقع إضافة ذلك البرنامج في معهد التدريب البحري الروسي (معهد جي آي أدميرال نيفيلسكي) الواقع في فلاديفوستوك، بحيث يتم توفير أحدث مرافق التدريب على المحاكاة، التي ترمي إلى تعزيز كفاءة البحارة الهنود، ومواءمتهم مع متطلبات الإبحار في الظروف الصعبة بالقطب الشمالي.

4– ضخ استثمارات روسية ضخمة لتطوير ممر البحر الشمالي: في شهر يونيو 2023، أعلن رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين، أنه سيتم استثمار نحو 21 مليار دولار في تطوير مسار البحر الشمالي على مدى الأعوام الثلاثة عشر المقبلة. وسيتألف الاستثمار من بناء 50 كاسحة جليد وسفن من فئة الجليد، وبناء الموانئ، وإنشاء كوكبة من الأقمار الصناعية المدارية.

تحديات رئيسية

أدى ارتفاع درجات الحرارة في السنوات الأخيرة إلى تقلص الغطاء الجليدي في منطقة بحر الشمال؛ ما أعطى دول القطب الشمالي – وعلى رأسهم روسيا – الفرصة لاستكشاف ما يمكن فعله مع مسار البحر الشمالي. وفي ظل الارتفاع في درجات الحرارة من جراء التغير المناخي، يُؤمل أن يستمر الممر منفذاً بحرياً في كامل طاقته لمدد طويلة، لكن بالرغم من ذلك، فإن الأمر لا يخلو من عقبات ربما تعيق فرص ازدهار الممر على النحو المرجو. ويمكن من خلال ما يأتي تناول أبرز هذه التحديات:

1– صعوبة ظروف الملاحة في بحر الشمال: وذلك نظراً إلى طبيعة الطقس السيئ في ممر بحر الشمال، وفي ظل غياب مساعدات ملاحية كافية؛ حيث إن الملاحة من خلاله تفرض ضرورة توفير كاسحات جليد لمرافقة حاويات الشحن؛ ما يجعل من الصعب أن يوضع الممر ضمن المنافسة مع أي منفذ بحري آخر ذي ظروف مناخية مواتية.

2– ارتفاع تكلفة الشحن في بحر الشمال: يأتي ضمن معضلات الملاحة في ممر بحر الشمال، كونُه مكلفاً مادياً؛ فبينما يعمل الممر خلال مواسم معينة، فإنه يُغلِق تماماً في فصل الشتاء بالجليد. ونتيجةً لظروف الملاحة غير المواتية، وتنامي الحاجة إلى زيادة أعداد كاسحات الجليد المرافقة للسفن خلال فصل الشتاء، فإن تكلفة الشحن تكون مرتفعة جداً؛ ما يجعل من الممر بديلاً غير مثالي.

3– مخاطر تسرب الوقود الأحفوري في الممر: من وجهة نظر علماء البيئة، تتجلى خطورة التوسع السريع في حركة الشحن في القطب الشمالي، في استخدام الوقود الأحفوري المتزايد في المنطقة، كما أن احتمالية فتح الممر لمدد أطول على مدار العام، بهدف نقل الوقود الأحفوري، يُعرِّض الممر البحري لمخاطر التسربات، وكذلك زيادة التلوث الضوضائي تحت الماء، وهو ما يدمر – بالتبعية – النظم البيئية الجليدية، كما من شأن ذلك أن يهدد الأمن الغذائي وسبل عيش السكان الأصليين الذين يعتمدون في معيشتهم على استقرار النظم البيئية في المنطقة. ويرى محللون في هذا الصدد، أن التوسع في استخدام الوقود الأحفوري في القطب الشمالي، من الممكن أن يعيق تحول المنطقة إلى اقتصاد خالٍ من الانبعاثات.

4– تهديد الاستثمار في القطب الشمالي: عادةً ما تقترن الممرات باستثمارات تنموية تُدِر عوائد اقتصادية على سكان تلك المناطق، غير أن الاستثمار في منطقة القطب الشمالي يشوبه العديد من التحديات، وعلى رأسها الظروف الجوية غير المواتية، التي تعمل عائقاً مؤثراً أمام ممارسة الأعمال التجارية في القطب الشمالي؛ ما يفرض على موسكو بالتبعية تحدياً خطيراً يتمثل في كيفية تحسين فرص الاستثمار الأجنبي على طول الممر؛ وذلك عبر تطوير البنية التحتية الملائمة وأنظمة الاتصالات، وزيادة أعداد كاسحات الجليد، على النحو الكافي؛ لضمان عدم تهديد الأعمال التجارية على طول الممر.

إجمالاً، فإنه في إطار المشهد الجيوسياسي المتوتر في ضوء علاقات روسيا مع الغرب، فإن الأولى تحتاج من أجل إنجاح خطة تطويرها لممر بحر الشمال، أن تنخرط في مزيد من المنتديات المتعددة الأطراف، وأن تكون طرفاً ضمن المناقشات حول التحديات المرتبطة بالممر، كالتخفيف من الآثار المرتبطة بتغير المناخ في المنطقة، وتحسين قدرات المراقبة في الممر، وتحسين الخدمات اللوجستية لضمان غياب أي عوائق لوجستية يمكن أن تتعرَّض لها السفن المارَّة من خلاله، فضلاً عن إدارة سلسلة التوريد من أجل ضمان حركة السفن على نحو آمن وفعال.

ولا يقتصر الأمر عند ذلك، بل من المهم تطوير الحلول الرقمية ومنصات التكنولوجيا التي تسهم في تتبع الشحنات وإدارتها ضمن الوقت المخطط له لنقل البضائع، فضلاً عن تطوير تقنيات الملاحة الآمنة واستكشاف الموارد في مياه القطب الشمالي، مع ضرورة وضع التحديات عين الاعتبار، والتوسع في تعزيز العلاقات مع دول القطب الشمالي، وبناء الشراكات مع الدول "الصديقة" لتطوير وتفعيل الممر، التي غالباً ما تحتفظ برؤية وهدف مشترك يتمثل في ضمان سلسلة توريد تجارية مرنة وقابلة للتكيف، والتغلب بفاعلية على التحديات العالمية واستغلال الفرص الناشئة؛ ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تعزيز النمو الاقتصادي المرن والشامل.

لماذا تسعى موسكو إلى تطوير ممر بحر الشمال؟