عرض: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

أصدر الكاتب الفرنسي "رافاييل جلوكسمان" كتاباً بعنوان "المواجهة الكبرى: كيف يشن بوتين الحرب على ديمقراطياتنا؟"؛ وذلك في أبريل 2023، وقد حاز الكتاب جائزة جان دانيال Jean Daniel لعام 2023. ويُعد جلوكسمان كاتباً وعضواً في البرلمان الأوروبي، ويترأس اللجنة الخاصة بالتدخل الخارجي في البرلمان الأوروبي، ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الذي حاول من خلاله الكاتب استعراض مؤشرات وأحداث واقعية للتدليل على حجم الاختراق الروسي الكبير للدول الأوروبية. ويعتبر الكاتب أن انتشار العمى المذهل (Incroyable Cécité) داخل القارة الأوربية دفع بها إلى الرضوخ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي ما لبث أن أغرقها بتصرفاته في حرب لا تريدها؛ حيث استغل بوتين – بحسب الكتاب – جشع وفساد بعض النخب الأوروبية وحبها للربح والمصالح الخاصة، بالإضافة إلى السذاجة لدى البعض الآخر من أجل اختراق الداخل الأوروبي.

اختراق الغرب

ركز الكتاب على استعراض بعض المؤشرات على نجاح روسيا في توظيف مسؤولين مهمين في دول أوروبية للعمل لصالحها؛ وذلك على النحو التالي:

1– فساد مالي نخبوي لصالح دول أجنبية: يسرد الكتاب الفساد المالي الذي غرق فيه بعض القادة الأوروبيين مقابل الترويج لأفكار وسياسات دول أخرى مثل روسيا. ويعتبر المستشار الألماني الأسبق جيرهارد شرودر الشخصية الرمزية لهذه المجموعة التي ارتضت أن يكون النظام الروسي مزود خدمات لها من أجل ضمان فترة تقاعد ذهبية. ويروي الكتاب التفاصيل التي أفضت إلى افتتاح ورشة العمل لإنشاء خط أنابيب الغاز (Nord Stream 1) الذي يمتد بحرياً من روسيا إلى ألمانيا، في سبتمبر 2005 والذي اعتبر حينها أطول أنبوب غاز بحري في العالم، وهي الورشة التي جرت قبل مغادرة شرودر منصبه بعشرة أيام بعد خسارته الانتخابات في مواجهة أنجيلا ميركل في احتفال جرى في ألمانيا بمشاركة بوتين نفسه.

2– تعاون المستشار الألماني الأسبق مع موسكو: وفق الكتاب فإن المفارقة أن شرودر أصبح بعد انتهاء فترة ولايته مباشرة عضواࣧ في مجلس إدارة خط أنبوب سيل الشمال؛ أي موظفاࣧ يتقاضى أجراࣧ من غازبروم Gazprom، واصطحب شرودر معه مديرة قسم السياسات الطاقوية في وزارة الاقتصاد الألمانية ماريون شيلر Marion Scheller إلى غازبروم. ولم يمنع ترك شرودر منصبه أنجيلا ميركل في 8 نوفمبر 2011 من إطلاق العمل في مشروع جديد هو خط الأنابيب (Nord Stream2)؛ لأن شرودر كان قد زرع في حكومة ميركل أعواناً سابقين له قاموا بالترويج لهذا الأنبوب.

3– تصرُّف موسكو في احتياطي الغاز الألماني: قد سمح الاتفاق الألماني لغازبروم بالتصرف باحتياط الغاز الألماني الذي يقول جلوكسمان إنه ومن خلال مناقشاته في البرلمان الأوروبي بعد بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، تبين له أن المخزون الاستراتيجي الألماني من الغاز كان فارغاࣧ؛ حيث عملت غازبروم قبل 6 أشهر من بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا من تفريغه، وقد تطلب ملؤه من جديد زيادة كميات الغاز الروسي الذي تشتريه ألمانيا من روسيا؛ ما ساهم في تمويل الحرب الروسية على أوكرانيا؛ حيث يذكر جلوكسمان أن كلفة اليوم الواحد من هذه الحرب على الجانب الروسي هي مليار دولار، فيما كان المردود اليومي من بيع الغاز الروسي إلى أوروبا يوفر لها ما قيمته 800 مليون دولار يومياࣧ، وهو ما ذكر جلوكسمان بمقولة كان قد قالها لينين في السابق بأن الرأسمالي يبيع الحبل الذي سيُشنق به إلى عدوه.

4– عمل مسؤولين أوروبيين مختلفين لصالح روسيا: بحسب الكتاب، ينضم إلى لائحة الموظفين لدى الشركات الروسية الكبرى من المسؤولين السياسيين الأوروبيين (بالإضافة إلى شرودر) وزير المال النمساوي الأسبق هانس يورك شيلينج Hans Jörg Schelling ووزيرة الخارجية النمساوية السابقة كارين كنيسل Karin Kneissl والمستشار النمساوي الأسبق كريستيان كيرن Christian Kern ورئيس الوزراء الفنلندي الأسبق إيسكو أهو Esko Aho ورئيس الوزراء الفرنسي الأسبق فرنسوا فيون François Fillon. ويقول جلوكسمان إنه وخلافاࣧ لألمانيا المدمنة على الغاز الروسي، فإن فرنسا أبرمت اتفاقاࣧ مع بوتين لأسباب نبيلة عبَّر عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه في 27 أغسطس 2019 خلال مؤتمر السفراء وهي الأسباب التي تنطلق من وجهة نظر فرنسية مفادها أنه لا يمكن بناء هندسة أمنية أوروبية فعالة وذات مصداقية من دون إشراك روسيا فيها، كما أنه لا يمكن بلورة الاستقرار في القارة الأوروبية إذا لم تقم الدول الأوروبية بتهدئة وتوضيح علاقتها مع روسيا.

توظيف القوة

ركز الكتاب على تأكيد مساعي روسيا لتوظيف القوة ضد الدول الغربية؛ وذلك على النحو التالي:

1– عدم متابعة الأوروبيين مواقف روسيا بشكل دقيق: يعزو الكتاب أسباب عدم تنبه القادة الأوروبيين إلى نوايا روسيا البوتينية السيئة تجاه بلادهم رغم كثرة الدلائل، إلى عدم متابعتهم ما يصدر عن بوتين من مواقف في تصريحاته وخطاباته، ولا حتى ما يصدر عن رجال النظام الروسي المحيطين به، ولا حتى المعارضين داخل روسيا الذين طالما حذروا من نوايا بوتين التوسعية.

2– تجاهل القادة الغربيين توجُّه روسيا نحو الحرب: فمثلاࣧ، الكاتبة الروسية المعارضة آنا بوليتكوفسكايا Anna Politkovskaïa التي تمَّ اغتيالها في 7 أكتوبر 2006 – وهو اليوم الموافق لعيد ميلاد بوتين – كانت تصر على فكرة أن بوتين سيذهب إلى الحرب، وسيفاجئ الأوروبيين، طال الزمان أم قصر. وهنا يتساءل جلوكسمان : لماذا لم يرغب حكامنا في تصديق آنا؟ ولماذا لم يريدوا أن يروا ما تنبأت به خصوصاࣧ بعد أن رأوا بأعينهم إبادة الشيشان وتقطيع أوصال جورجيا والتدخل الأول في أوكرانيا في عام 2014؟

3– ترسُّخ أفكار التوسع في الداخل الروسي: يذكر الكاتب كلمات الجنرال الروسي فياشيسلاف بوريسوف Vyacheslav Borisov أحد قادة الهجوم الروسي على جورجيا في صيف عام 2008 بأن "بوتين سيذهب إلى كل مكان كانت فيه روسيا في الماضي"، كما اعتبر فلاديسلاف سوركوف Vladislav Sourkov – وهو أحد المفكرين الروس الرئيسيين الذين يتأثر بوتين بآرائهم – في مقال تم نشره في الصحافة الروسية في نوفمبر 2021 أن اتساع نشر الفوضى في الخارج يساعد في التغلب على التوترات الداخلية، كما تُنسب إليه مقولة أخرى: "يجب أن نعود غداࣧ، سوف ننتصر أو نموت، ليس هناك من طريق ثالث". ويورد الكتاب حادثة ذات دلالات مهمة حصلت في نوفمبر 2016 أثناء احتفال تم نقله على التلفزيون الروسي، وكانت تنظمه الجمعية الروسية للجغرافيا؛ حيث قام بوتين بتوجيه سؤال إلى طفل يبلغ من العمر 9 سنوات عن الحدود الروسية، فكان جواب الطفل بأن روسيا تنتهي في مضيق بيرينج الذي يفصل سيبيريا عن ألاسكا، فما كان من بوتين إلا أن ابتسم مصححاࣧ له: "حدود روسيا لا تنتهي في أي مكان".

4– دعم قائد فاجنر الأداة العسكرية في الخارج: تضمن الكتاب أيضاࣧ مقتطفات من خطابات رئيس مجموعة فاجنر يفجيني بريجوجين، تصب في السياق نفسه، ومنها: "نحن مجموعة إجرامية"، "رفاقي يدخلون البلدان الأفريقية ولا يتركون شيئاࣧ على قيد الحياة"، "قراركم لخدمة فاجنر هو اتفاق مع الشيطان. لقد بدأت الحرب العالمية الثالثة ويمكنكم يا رفاق أن تكونوا جزءاࣧ منها"، و"يجب على الجميع أن يدرك أن التعبئة والحرب العالمية حتى الموت في انتظارنا"، و"الحرب هي أيديولوجيتنا الوطنية." بالنسبة إلى الكاتب فإن كل هذه الدلائل تؤشر على اعتبار العقل الروسي الحاكم أن الديمقراطيات الغربية هي أنظمة متناقضة مع رؤيته للعالم بحيث لا يمكن أن يتم التعايش بينهما، ولا بد لاستمرار النموذج البوتيني من تدمير النموذج الآخر؛ أي الديمقراطيات الغربية.

إطار حاكم

ركز الكتاب على استعراض بعض السياقات الفكرية المؤثرة على التعاطي الغربي مع روسيا والعكس؛ وذلك على النحو التالي:

1– تأثر قادة الغرب بأفكار "نهاية التاريخ": يعتبر الكاتب أن مجموعة كبيرة من القادة الأوروبيين كانت متأثرة بأطروحة نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما ( ومن بينهم ماكرون)؛ لذلك كانت لديهم قناعات راسخة بأنه لم يعد لديهم أعداء أيديولوجيون أو خصوم مستعدون للتضحية بمصالحهم في سبيل معاداة المشروع الأوروبي، وبأنه بمجرد إبرام اتفاق تجاري بين توتال الفرنسية ونوفاتيك الروسية مثلاࣧ فإن بوتين سيصبح شريكاࣧ ومشابهاࣧ للأوروبيين؛ لذلك فانهم كانوا غير مستعدين – أمام ورود خبر سيئ عن توغل روسي عسكري هنا أو هناك – للتخلي عن هذه الأطروحة التي آمنوا بها (أي نهاية التاريخ).

2– تبرير سياسات الأوروبيين من منطلق الواقعية: يعتبر الكتاب أن هؤلاء القادة كانوا يبررون أفعالهم تلك باسم الواقعية، في حين أنهم في الحقيقة كانوا أبعد ما يكون عن الواقعية، وينطبق عليهم بجدارة وصف الأرينية Irénisme؛ أي محاولة التغاضي عن الاختلافات مع بوتين، والتركيز على الأشياء المشتركة فقط ومحاولة البناء عليها. ويطرح جلوكسمان عليهم سؤالاࣧ افتراضياࣧ هو: ماذا لو لم يقم الأوكرانيون بمقاومة الهجوم الروسي في 24 فبراير 2022، وسقطت كييف بعد ذلك بعدة أسابيع في أيدي الروس كما كانت تتوقع معظم التقارير الاستخباراتية؟ وماذا لو لم يُجب زيلينسكي على بايدن حين عرض عليه إجلاءه من كييف بأنه "لسنا بحاجة إلى تاكسي بل إلى السلاح"؟.

يقول جلوكسمان مجاوباࣧ: "الأكيد أنه كنا سنجد أنفسنا في وضعية كارثية، وبدل الانشغال بالتفتيش عن نوعية الأسلحة التي يجب علينا أن نرسلها إلى أوكرانيا، كنا سننشغل بالتفتيش عن الكيفية التي سندافع بها عن أنفسنا إذا قرر بوتين هذه المرة مهاجمة إحدى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي؛ لأننا سنكون حينها أمام نظام يعتبر أن كل شيء أصبح مسموحاࣧ له". ويتابع جلوكسمان أن الطريقة الوحيدة التي ستدفع الكرملين إلى النظر إلينا بشيء من المهابة والتحوط، هي حين نتعامل معه بكل حزم وصرامة وبعدم تردد، وهذه هي – في رأيه – الواقعية الحقيقية "التي ستضمن لنا أمننا الأوروبي"؛ لأن التعامل بضعف مع أشخاص مثل بوتين هو بمنزلة استدعاء للقيام باعتداء جديد والذهاب دائماࣧ إلى ما هو أبعد من الخطوة السابقة؛ لذلك فإن التعامل بصرامة مع نظام بوتين هو الحماية الحقيقية للشعوب الأوروبية.

3– تجاهل النخب أولوية أيدولوجية الحرب في روسيا: يوضح الكاتب أسباب تجاهل النخب السياسية الغربية للآراء والمعلومات التي كانت قد توصلت إلى كشف النوايا الروسية الحقيقية، والتي كان جوهرها يتمحور حول شعار أن "الحرب هي الأيديولوجية الوطنية لروسيا"؛ حيث إن هذه النخب كانت تفضل غض الطرف عن المحاولات الروسية المتكررة لتجاهل القانون الدولي وإحلال قواعد المافيا مكانها والتعامل مع روسيا على اعتبار أنها دولة طبيعية؛ لأنها كانت تفضل راحتها الأخلاقية والمالية والثقافية.

4– توظيف موسكو الفساد لاستمالة الغربيين: يركز الكاتب على الفساد باعتباره عملاً حربياً لجأت روسيا إلى استخدامه للتأثير على الطبقة الحاكمة في مختلف دول الاتحاد الأوروبي، ويعتبر أن هذا الفساد قد تحول إلى خيانة؛ لأنه أتى بنتيجة عملية ممنهجة ومدروسة بدقة. وهنا يسلط الكتاب الضوء على شخصية ألمانية لعبت دوراࣧ محورياࣧ واستراتيجياࣧ في تنظيم هذه العملية، ولكنها ظلت بعيدة عن الأضواء، تدعى ماتياس وارنيج Matthias Warnig. ولقد لفت هذا الاسم انتباه الكاتب؛ لأنه كان دائماࣧ ما يعود أمامه أثناء إجرائه الاستقصاءات حول شبكات الفساد المتعلقة بلجنة التدخلات الخارجية في البرلمان الأوروبي التي كان يترأسها، وكان وارنيج في البداية يعمل لصالح البوليس السياسي في دولة ألمانيا الشرقية، ولاحقاࣧ تم إرساله للتجسس على أهم الشركات التجارية في ألمانيا الغربية، وقد قام بإجراء دراسة مهمة حول نقاط ضعف نظام الطاقة الألماني الغربي، وبعد سقوط جدار برلين قام بالعمل لصالح أهم بنك في ألمانيا، وهو دريسدنر بنك Dresdner Bank، ونجح في استغلال منصبه هذا من أجل تشجيع رأس المال الألماني على الاستثمار في روسيا، ومستعيناࣧ بعلاقته السابقة مع المخابرات الروسية KGB استطاع افتتاح أول فرع لبنك غربي في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في مدينة سان بطرسبرج.

وأصبح هذا الفرع الذي يديره وارنيج ممراً للرأس المال الأوروبي الذي يريد الاستثمار في روسيا، وفي هذه الحقبة تطورت علاقة وارنيج كثيراً بفلاديمير بوتين، وحين وصل بوتين إلى رأس السلطة في روسيا قام بتكليف وارنيج بالقيام بالمهمة نفسها ولكن بشكل معاكس؛ أي أن يكون باب الدخول للمستثمرين الروسيين إلى ألمانيا وأوروبا. ويرجع جلوكسمان إلى وارنيج أبوة فكرة إنشاء خط أنابيب سيل الشمال من ثم دفع ألمانيا إلى الدخول في حقبة التبعية الطاقوية للغاز الروسي. ويعتبر الكاتب أن وارنيج هو من أقنع المستشار الألماني حينها شرودر بعدم تنسيق هذا المشروع مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل.

وختاماً، يعتبر الكاتب أن الفكرة التي تقول بأن أوكرانيا تحتاج إلى الأوروبيين (لأنها تحتاج إلى سلاحهم وإلى دعمهم المالي) تمثل نصف الحقيقة فقط وليس الحقيقة بأكملها؛ لأنه كما أن أوكرانيا بحاجة إلى الأوروبيين، فإن الأوروبيين بحاجة إلى أوكرانيا؛ لأن أوكرانيا أثبتت أنها مليئة بالطاقة والحيوية والشجاعة التي يفتقدها الأوروبيون، ولأنها شكلت لهم الصحوة المؤلمة والصعبة التي فتحت بصيرتهم على حقيقة أن المقاومة أصبحت ضرورية لمواجهة هذا الهجوم الممنهج والمخطط له خطوة بخطوة. ويخلص الكاتب إلى أن الأوروبيين بحاجة إلى أوكرانيا من أجل أن يتعلموا من جديد كيف يكون التعلق بالمشروع الأوروبي الموحد وهم بحاجة إلى أوكرانيا لإعادة اكتشاف أنفسهم والإيمان بقدراتهم من جديد.

المصدر:

Raphaël Glucksmann, La Grande Confrontation – Comment Poutine fait la guerre à nos démocraties, Allary, Paris, April 2023.

كيف نجح الرئيس الروسي في اختراق الدول الغربية؟