د. محمد عباس ناجي

أعلنت إيران عن "مدينة صاروخية" جديدة تحت الأرض، خلال الزيارة التي أجراها قائد القوة الجوفضائية التابعة للحرس الثوري أمير علي حاجي زاده، ورئيس هيئة أركان الجيش محمد باقري إلى الموقع الذي توجد به هذه الترسانة الصاروخية في 26 مارس 2025. ورغم أن هذه المرة ليست الأولى التي تكشف فيها إيران عن هذه النوعية من "المدن الصاروخية"، فإن دعوة الجيش الإيراني إلى المشاركة في الزيارة، فضلاً عن التصريحات التي أدلى بها المسؤولون العسكريون توحي بأن إيران تسعى إلى توجيه رسائل إلى الداخل والخارج في آن واحد.تتصل هذه الرسائل بالتصعيد الحالي بين إيران من جهة وكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من جهة أخرى، الذي قد يتجه إلى مسارات صعبة خلال المرحلة القادمة، في ظل استمرار رفض إيران التجاوب مع دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإجراء مفاوضات "مباشرة" حول الملفات الخلافية المختلفة، وإصرارها في الوقت نفسه على الاحتفاظ بخيار توجيه ضربة عسكرية ثالثة إلى إسرائيل في إطار ما تسمى عمليات "الوعد الصادق 3".أهداف عديدةيمكن القول إن إيران سعت عبر تلك الخطوة إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:1– التمسك باستمرار البرنامج الصاروخي: لا تُعارِض إيران مبدأ التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية في حد ذاته، بل تُعارِض التفاوض المباشر؛ حيث تستعيض عنه بخيار التفاوض غير المباشر، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية عباس عراقجي، في 25 مارس 2025، بقوله إن "إيران منفتحة على إجراء مفاوضات غير مباشرة مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب". لكن هذا الشرط ليس الوحيد الذي ما زالت تصر عليه إيران، بل إنها تتمسك بشرط آخر لا يقل أهميةً، وهو حصر المفاوضات – في حالة إجرائها – في البرنامج النووي فقط، دون توسيع نطاقها لتشمل برنامج الصواريخ الباليستية والنفوذ الإقليمي حسب ما تسعى إليه الإدارة الأمريكية، التي ترى أن هناك فرصة لتسوية الخلافات العالقة مع إيران حول هذه الملفات مرة واحدة، في ظل حالة الضعف التي تبدو عليها الأخيرة، وفقاً للرؤية الأمريكية، نتيجة التداعيات الاستراتيجية التي فرضتها الحرب التي شنتها إسرائيل في قطاع غزة ولبنان، بدايةً من 7 أكتوبر 2023. من هنا، فإن طهران بحرصها على مواصلة الكشف عن "مدن للصواريخ الباليستية" تسعى إلى تأكيد تمسكها بهذا الموقف وإصرارها على عدم تقديم تنازلات، سواء فيما يتعلق بحصر المفاوضات في البرنامج النووي، أو فيما يتصل بالحفاظ على برنامج الصواريخ الباليستية دون قيود قد تفرض عليه، خاصةً بعد أن تم رفع هذه القيود عبر مجلس الأمن الدولي في 18 أكتوبر 2023، دون أن تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من عرقلة ذلك.&nbsp;2– تقليص تداعيات هجمات أكتوبر: سعت إيران عبر الكشف عن هذه المدينة الصاروخية الجديدة إلى تقليص أهمية الرواية الإسرائيلية عن النتائج التي أسفرت عنها الهجمات العسكرية التي قامت تل أبيب بشنها داخل إيران في 26 أكتوبر 2024، والتي استخدمت فيها 100 مقاتلة نفذت مهامها على أربع موجات، وأدت – حسب تصريحات المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين – إلى تدمير منظومة الدفاع الجوي الإيراني التي تعتمد على صواريخ "إس 300" الروسية، وتعطيل قدرة إيران على إنتاج مزيد من الصواريخ الباليستية.ففي هذا السياق، حرصت إيران، خلال زيارة حاجي زاده وباقري إلى المدينة الصاروخية، على استعراض عدد كبير من الصواريخ الباليستية التي أنتجتها، على غرار "خيبر شكن" و"عماد" و"قدر" و"سجيل" و"قاسم سليماني"، وصاروخ كروز "باوه". وعلَّق باقري على ذلك بقوله إن جميع الأبعاد اللازمة لخلق قدرة تفوق عملية "الوعد الصادق" – في إشارة إلى الهجومين اللذين قامت إيران بشنهما ضد إسرائيل في 13 أبريل وأول أكتوبر 2024 – عشرات المرات قيد التنفيذ، وقد تم تحقيق جزء منها فعلاً، على نحوٍ يعني – وفقاً لتصريحات باقري – أن قدرة إيران على إنتاج مزيد من الصواريخ لم تتراجع حسب ما تدَّعيه تل أبيب وواشنطن، خاصةً بعد أن بدأ المسؤولون الأمريكيون يستندون إلى الرواية الإسرائيلية الخاصة بتدمير منظومة الدفاع الجوي الإيرانية في سياق توجيههم مزيداً من التهديدات إلى طهران من عواقب استمرار رفض إجراء مفاوضات مباشرة.3– الاستعداد لعمليات عسكرية محتملة: تزايد احتمال اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل إلى شن عمليات عسكرية ضد إيران خلال المرحلة القادمة؛ ليس فقط بسبب إصرار إيران على رفض التفاوض المباشر مع الإدارة الأمريكية، بل أيضاً بسبب استمرار التصعيد الحوثي ضد الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، حتى بعد الضربات العسكرية التي تشنها الأولى ضد المليشيا بدايةً من 15 مارس 2025. وقد كان لافتاً أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حرصت على إلقاء مسؤولية هذا التصعيد على عاتق إيران؛ حيث قال الرئيس ترامب، في 17 مارس 2025، إن إيران سوف تتحمل المسؤولية عن أي هجمات أخرى من جانب الحوثيين، وستكون عواقب ذلك وخيمة. وهنا، بدأت تكهنات عديدة تفيد بأن الولايات المتحدة الأمريكية ربما تتعمد استهداف القطع البحرية الإيرانية القريبة من اليمن أو البحر الأحمر، بجانب القادة العسكريين الإيرانيين الموجودين في اليمن، لرفع كُلفة الدعم الذي تقدمه إيران إلى المليشيا الحوثية، ولإضفاء وجاهة خاصة على التهديدات التي توجهها إلى إيران من أن رفض التفاوض معناه اللجوء إلى الخيار العسكري لحسم الملفات الخلافية معها. ومن هنا، فإن إيران تسعى عبر ذلك إلى تأكيد استعدادها لشن هجوم ثالث على إسرائيل في سياق عملية "الوعد الصادق 3"، إذا ما تعرضت لهجوم مضاد من جانب واشنطن أو تل أبيب.4– استمرار التنسيق بين الجيش والحرس: كان لافتاً مشاركة رئيس هيئة الأركان في الجيش الإيراني محمد باقري في الزيارة، بدلاً من قائد الحرس الثوري حسين سلامي، الذي رافق قائد القوة البحرية في الحرس الثوري علي رضا تمكسيري في آخر زيارة إلى مدينة صاروخية مضادة للمدمرات، في 2 فبراير 2025. وتمثل الزيارة إشارة إلى حرص الجيش والحرس على توسيع نطاق التنسيق فيما بينهما للتعامل مع التهديدات التي تواجهها إيران على المستويين الداخلي والخارجي، خلال المرحلة القادمة، لا سيما بعد أن بات احتمال الانخراط في مواجهة عسكرية غير مستبعَد، سواء مع الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل أو الاثنتين معاً. هذا التحرك الإيراني بدا جلياً قبل ذلك، عندما أجرت إيران أول مناورات صاروخية مشتركة بين القوة الجوفضائية في الحرس الثوري والقوات البحرية في الجيش الإيراني، في 25 فبراير 2025، التي تم تنظيمها تحت شعار "الأمن المستدام في ظل الاتحاد والقدرة"؛ حيث أكد المتحدث باسم المناورات علي رضا شيخ أن المناورات تعكس التنسيق التام بين الجيش والحرس واستعدادهما للرد بقوة على أي تهديد.على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إيران ما زالت تُعوِّل على ورقة الضغط الأساسية التي تمتلكها، الخاصة بالصواريخ الباليستية القادرة على الوصول إلى إسرائيل والقواعد الأمريكية في المنطقة؛ إذ ترى أن هذه الصواريخ بجانب القوات البحرية، يمكن أن تساهم في رفع كُلفة أي عمل عسكري قد تتعرض له خلال الفترة القادمة، إذا لم تصل إلى حل وسط مع الولايات المتحدة الأمريكية أولاً حول إجراء المفاوضات وطبيعتها، وثانياً حول الملفات الخلافية التي ستكون محورها.

لماذا أعلنت إيران عن مدينة صاروخية جديدة؟