عقد "إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية"، حلقة نقاشية بعنوان "اليوم التالي: التداعيات المتوقعة للانتخابات التشريعية في بريطانيا"، وهي الحلقة التي استضاف فيها المركز د. ديانا جاليفا، أستاذ زائر، بكلية أكسفورد للدراسات العالمية ودراسات المناطق، المملكة المتحدة. وهي الحلقة التي عقد قبل انعقاد الانتخابات التشريعية البريطانية؛ حيث استهدفت تحليل مشهد الانتخابات وتداعياتها المحتملة.

اتجاهات رئيسية

حللت د. ديانا جاليفا بعض أبرز الاتجاهات الرئيسية حول الانتخابات العامة البريطانية لعام 2024، وطرحت بعض التوقعات حول تلك الانتخابات ونتائجها، والتي كانت متوافقة مع النتائج النهائية التي جرى الكشف عنها رسمياً، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- الانتخابات الأولى بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي: لفتت المتحدثة الرئيسية إلى أنّ انتخابات يوليو 2024، هي الانتخابات العامة الأولى في المملكة المتحدة منذ الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعطيها أهمية سياسية ورمزية، كبداية لمرحلة جديدة في السياسة البريطانية. فضلاً عن دور تلك الانتخابات في تحديد آفاق العلاقات البريطانية مع الاتحاد الأوروبي وبقية دول العالم، مع إيلاء اهتمام كبير بالتحديات الداخلية المتفاقمة في المملكة المتحدة.

2- الهجرة وتكلفة المعيشة على رأس القضايا المحورية: بالحديث عن القضايا التي تشغل تفكير الشارع البريطاني وتلعب دوراً في سلوكه التصويتي في انتخابات 2024، أشارت د. ديانا جاليفا إلى أن "تكلفة المعيشة" هي إحدى القضايا الرئيسية في المناقشات السياسية والانتخابية في المملكة المتحدة، حيث ارتفعت تكلفة المعيشة بشكلٍ ملحوظ وأصبحت باهظة الثمن في المملكة المتحدة، مع زيادة فواتير الطاقة بشكلٍ خاص، والتداعيات الاقتصادية للحرب الروسية الأوكرانية على الداخل البريطاني، وعلى الشركات والوضع الاقتصادي بشكلٍ عام. وذلك بالإضافة إلى قضايا الهجرة المُثيرة للجدل، خاصةً مع ارتباطها بالأوضاع الاقتصادية.

3- توافُق نتائج الانتخابات مع توقعات الحلقة النقاشية: توافقت توقّعات المتحدثة الرئيسية حول نتائج الانتخابات العامة البريطانية خلال الحلقة النقاشية التي استضافها المركز مع النتائج الرسمية التي تم إعلانها بالفعل. فقد ذكرت أن نتائج استطلاعات الرأي تُشير إلى تصاعُد حظوظ حزب العمّال المعارض. وتوقعت أن يُسدل الستار أخيراً على حقبة استمرت مدة 14 عاماً من حُكم حزب المحافظين. ولذلك اعتبرت المتحدثة أن انتخابات يوليو 2024، ستُمثّل نقطة تحول في سياسة المملكة المتحدة.

وقد أظهرت نتائج الانتخابات العامة البريطانية فوزاً كاسحاً لحزب العمّال المعارض، بعدما فاز بـ412 مقعداً من أصل 650، ومُني حزب المحافظين بأكبر هزيمة له منذ عقود طويلة بعدما حصل على 121 مقعداً فقط، في حين حقق حزب الديمقراطيين الأحرار مكاسب كبيرة بعد فوزه بـ72 مقعداً، ليصبح بذلك ثالث أكبر حزب في البلاد. وحلّ الحزب الوطني الأسكتلندي في المركز الرابع بفوزه بـ9 مقاعد، بعد أن خسر 38 مقعداً، وجاء حزب شين فين الأيرلندي الشمالي في المركز الخامس بـ7 مقاعد، وحصل الحزب الديمقراطي الوحدوي على 5 مقاعد.

4- مُعاناة حزب المحافظين من تأثيرات الانقسامات الداخلية: لفتت د. ديانا جاليفا، خلال الحلقة النقاشية، إلى معاناة حزب المحاظفين من تأثيرات الانقسامات الداخلية، واعتبرت ذلك أحد العوامل التي تفسّر تراجُع الحضور السياسي للحزب، وتدني حظوظه الانتخابية. وقد كانت تلك الانقسامات، وتأثيراتها السياسية والتنظيمية، على رأس المؤشرات التي دفعت المتحدثة الرئيسية نحو توقُّع انتهاء حقبة حكومات حزب المحافظين، خلال انتخابات 2024، وصعود حزب العمال إلى السلطة بدلاً من المحافظين.

5- تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة "كير ستارمر": شرحت د. ديانا جاليفا آلية تشكيل الحكومة البريطانية عقب الانتخابات التشريعية، موضحةً أن زعيم الحزب الذي يحصد أغلبية الدوائر الانتخابية في المملكة المتحدة البالغ عددها 650 دائرة يُصبح تلقائياً رئيساً للوزراء، مما يعني أن 326 هو الرقم السحري الذي يسمح بتشكيل حكومة أغلبية. فإذا لم تكن هناك أغلبية واضحة في مجلس العموم، فإن هناك حاجة إلى تشكيل ائتلاف حكومي أو حكومة أقلية.

وبينما تمكّن حزب العمال من حصد 412 مقعداً في مجلس العموم البريطاني، فإن ذلك عنى بشكل واضح وحاسم تولي زعيم الحزب "كير ستارمر" رئاسة الوزراء، مُنهياً حقبة شهدت إدارة خمسة قادة مختلفين من حزب المحافظين للبلاد، وأعلن "ستارمر" عن تشكيل حكومته العمالية الجديدة، حيث عيّن "ديفيد لامي" وزيراً للخارجية، و"إيفيت كوبر" وزيرةً للداخلية، و"جون هايلي" وزيراً للدفاع، وهم المرشحون الرئيسيون لهذه المناصب منذ أن شغلوها في حكومة الظل منذ 2021. وهو ما يتوافق مع توقعات الحلقة النقاشية التي أكدت خلالها المتحدثة الرئيسية على وجود فرص كبيرة لتولي "كير ستارمر" رئاسة الحكومة البريطانية الجديدة.

6- تسليط الضوء على الصعود السياسي لـ"نايجل فاراج": قالت د. ديانا جاليفا، في الحلقة النقاشية، إنها تعتقد أن "نايجل فاراج" هو من الشخصيات المثيرة للاهتمام في الانتخابات البريطانية العامة 2024، وأن له حظوظاً مرتفعة. وقد توافقت نتائج الانتخابات مع توقعات المتحدثة الرئيسية أيضاً في هذا الصدد.

فقد فاز نايجل فاراج، زعيم حزب "الإصلاح" البريطاني اليميني للمرة الأولى بمقعد في البرلمان البريطاني، في بلدة كلاكتون أون سي الساحلية الإنجليزية، حيث تخلى الناخبون فيها عن حزب المحافظين. وبرز "فاراج" بسياسته المناهضة للهجرة والمؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما يُعتبر واحداً من أكثر الشخصيات السياسية المثيرة للانقسام والجدل في المملكة المتحدة.

محددات السياسة البريطانية

أشارت المتحدثة الرئيسية إلى عدد من المحددات والتوجهات الرئيسية للسياسة البريطانية بعد الانتخابات على المستويين الداخلي والخارجي، وعلى رأسها ما يلي:

1- أولويات داخلية رئيسية على أجندة الحكومة الجديدة: لفتت المتحدثة الرئيسية إلى بعض القضايا الداخلية التي تمثّل أولويات على أجندة الحكومة العُمّالية الجديدة، حيث سيشدد في الغالب رئيس الوزراء البريطاني الجديد على أزمة زيادة تكلفة المعيشة للأسر البريطانية، وعلى مشكلة إرهاق هيئة الخدمات الصحية الوطنية، بعدما حذّر من أن قطاع الصحة البريطاني لا يمكنه المضي قدماً بدون إصلاحات. بينما سيركز أيضاً في أقرب وقت على قضية الهجرة.

فيما يؤكد رئيس الحكومة البريطانية الجديدة أن قضايا الأمن والدفاع على رأس أولويات حكومته، مع العمل على ضمان حدود آمنة للمملكة المتحدة، وكذلك شوارع آمنة في الداخل البريطاني. كما لفتت المتحدثة الرئيسية في حلقة النقاش إلى الارتباط بين الاهتمام البريطاني بضمان أمن الطاقة كقضية داخلية مُلحة، وبين انعكاساتها على السياسة الخارجية البريطانية، وخاصةً تجاه دول مجلس التعاون الخليجي، بما يعزز من حالة التعاون والتقارب بين البلدين.

2- رفض خفض مخصصات الخدمة المدنية لصالح الإنفاق الدفاعي: التزمت حكومة حزب المحافظين بخطة لزيادة الإنفاق الدفاعي البريطاني من 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.5%، بحلول عام 2030. مع التوجه نحو تمويل تلك الزيادة من خلال مخصصات الخدمة المدنية، عبر آليات من بينها إلغاء 70 ألف وظيفة في الخدمة المدنية، والتي قال المسؤولون إنها ستوفر 2.9 مليار جنيه إسترليني سنوياً بحلول 2028 - 2029، فيما ستأتي أموال إضافية من ميزانيات البحث والتطوير الحالية.

إلا أن حزب العمال انتقد تلك الخطة، ورأى أن تخفيض مخصصات الخدمة المدنية أمر غير عملي، وقال مسؤولو الحزب إن حزب العمال لا يخطط لخفض الخدمة المدنية لزيادة الإنفاق الدفاعي في المملكة المتحدة. وسبق أن قال زعيم حزب العمال ورئيس الحكومة الجديد، كير ستارمر، إنه يهدف إلى مطابقة الزيادة في الإنفاق الدفاعي "بمجرد أن تسمح الموارد بذلك". فيما وصف اثنان من مسؤولي حزب العمال خطة المحافظين لإجراء تخفيضات جماعية في الخدمة المدنية بأنها "خيالية"، وتساءلا عما إذا كانت المدخرات كافية لتمويل التعهدات الدفاعية، وكذلك عن جدواها مقابل التخفيضات المدنية.

3- بحث سُبل تطوير وتوسيع اتحاد دول الكومنولث: أشارت المتحدثة الرئيسية إلى وجود الكثير من المناقشات داخل المملكة المتحدة حول اتحاد دول الكومنولث، وما إذا كان ينبغي إجراء بعض التغييرات والإصلاحات. وما هو موقع ودور المملكة المتحدة في رابطة الكومنولث الآن، وكيف يمكن تعزيز هذا الدور ليصبح أكثر قوة وتأثيراً، مع بحث إمكانية توسيعه وضم أعضاء جدد.

4- أهمية البُعد الأمني في رسم السياسة الخارجية البريطانية: شرحت "د. ديانا جاليفا" السياق الدولي المُحيط بالانتخابات، وما يطرحه من تحديات أمنية، للتدليل على تزايد أهمية هذا البُعد في رسم ملامح السياسة الخارجية البريطانية ما بعد انتخابات يوليو 2024. حيث أشارت إلى أن العديد من التقارير تؤكد على تزايد أهمية قضايا الأمن والدفاع والشؤون الخارجية لدى البريطانيين. وهو ما يغذيه عدد من الأسباب، بينها: أن هذه الانتخابات هي الأولى منذ اندلاع الحرب الأوكرانية عام 2022، مع تشكيل الحكومة الجديدة في وقتٍ لا تزال فيه نتائج الحرب غير مؤكدة. كما انعقدت الانتخابات قُبيل واحدة من أهم الانتخابات الأمريكية، وفي وقتٍ تلوح فيه احتمالات نشوب حرب باردة ثانية بين الولايات المتحدة والصين بشكلٍ كبير. لذا يرى المحللون البريطانيون أن أمنهم هو إحدى الأولويات الرئيسية للحكومة الجديدة، وبالتالي أحد محددات تخطيط السياسة الخارجية البريطانية. مع الإشارة إلى أن هناك إجماعاً واسعاً بين حزبي العمال والمحافظين على تزايد المخاطر والتهديدات الأمنية في العالم.

5- استمرار العمل وفق سياسة "بريطانيا العالمية": من وجهة نظر المتحدثة الرئيسية في الحلقة النقاشية، وكذلك وفق العديد من التحليلات والتقارير، فإن التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان بمثابة إشارة البداية ونقطة تأسيس لمرحلة جديدة في مسار السياسة الخارجية للمملكة المتحدة، وتم تأطيرها وفقاً لفكرة "بريطانيا العالمية".

حيث بات واضحاً أن المملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي ستتطلع إلى ما هو أبعد من الاتحاد الأوروبي، وستسعى نحو لعب دور عالمي في مناطق أخرى. وتُعزز سياسة "بريطانيا العالمية" من الاهتمام البريطاني بدول الخليج، ومناطق أخرى في آسيا والمحيط الهادئ وأفريقيا.

6- توظيف السياسة الخارجية لإعادة النفوذ البريطاني: في حين لا تنتوي حكومة حزب العمال العودة إلى الاتحاد الأوروبي، وتدرك ما فتحه هذا الخروج من فرص تجارية، ومرونة في تنويع العلاقات الاستثمارية والاقتصادية، وحتى عدم التقيُّد بالعقوبات التي يفرضها التكتل؛ لكن يرى الحزب أيضاً أن السياسة الخارجية في عهد حكومات حزب المحافظين قد أضعفت نفوذ المملكة المتحدة في أوروبا والعالم، ولذلك من المرجح أن تُعيد المملكة المتحدة في عهد حكومة العمال تعزيز التواصل مع الحلفاء الأوروبيين وعبر الأطلسي، فضلاً عن توسيع العلاقات مع الشركاء الجدد في مناطق أخرى في العالم خارج أوروبا، بالشكل الذي يعيد تعزيز النفوذ البريطاني في العالم.

7- الدعوة إلى استئناف مباحثات السلام الفلسطينية-الإسرائيلية: فيما يترقب العالم أن يتعرف على طريقة تعامُل الحكومة البريطانية الجديدة مع الأزمات والصراعات الكبرى في العالم، ومن بينها حرب غزة، التي تُعد إحدى أكثر قضايا السياسة الخارجية أهمية وإثارة للجدل في الوقت الحالي؛ فإن المتحدثة الرئيسية أوضحت أن موقف الطرفين الرئيسيين في المملكة المتحدة (حزبي العمال والمحافظين) متشابه بشكل ملحوظ، حيث يؤكدان على أن اقتراح الاعتراف بالدولة الفلسطينية غير مناسب حالياً، وأن الإقدام عليه لا بد أن يكون في إطار المساهمة في تجديد عملية السلام.

ولفتت "د. ديانا جاليفا" في مداخلتها إلى أن الحكومة البريطانية الجديدة لحزب العمال ستدعو إلى استئناف مباحثات السلام الإسرائيلية-الفلسطينية. فيما تؤكد تقارير بالفعل على أن "ستارمر" يتخذ موقفاً مطابقاً لسلفه المحافظ "سوناك"، حيث يدعم موقف إسرائيل ويؤكد على حقها في الدفاع عن نفسها، مع الدعوة إلى السلام وحل الدولتين.

وختاماً، توقعت المتحدثة الرئيسية ألا تشهد السياسة الخارجية البريطانية تحولات كبرى في عهد الحكومة العمالية الجديدة برئاسة "كير ستارمر". بالإضافة إلى استمرار التوجه البريطاني نحو إقامة روابط أقوى مع دول المنطقة، في ظل تنامي اهتمام المملكة المتحدة بتعزيز علاقاتها الدولية، حتى خارج القارة الأوروبية، في إطار سياسة "بريطانيا العالمية".

تداعيات الانتخابات التشريعية في بريطانيا (حلقة نقاش)