إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

خاضت الجمهورية السوفييتية السابقة الواقعة بين أوكرانيا ورومانيا (مولدوفا) التي يقطنها نحو 2.7 مليون شخص؛ اختبارين مِفصليين يوم 20 أكتوبر 2024؛ وذلك بعد أن أدلى مواطنوها بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية والاستفتاء على تعديل الدستور المولدوفي للسماح بإمكانية الانضمام مُستقبلاً إلى الاتحاد الأوروبي. أتت تلك الاستحقاقات الانتخابية وسط مخاوف متزايدة من تدخل روسي؛ بسبب جوارها المُباشر مع أوكرانيا، وبسبب محاولتها التقارب مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما يطرح جُملة تساؤلات حول ملامح المشهد الانتخابي في مولدوفا، والتداعيات المُحتملة لنتائج الانتخابات الرئاسية والاستفتاء على تعديل الدستور.ضبابية المشهديتسم المشهد الانتخابي في مولدوفا بالضبابية وغياب الرؤية الواضحة لما يُمكن أن تُفضي إليه نتائج الانتخابات الرئاسية والاستفتاء الدستوري؛ وذلك في خضم الحرب المستمرة في جوارها المباشر (أوكرانيا) لأكثر من عامين ونصف؛ وذلك وسط مخاوف من امتدادها إليها. ويُمكن تناول أبرز تلك السمات على النحو التالي:1– تطلُّع "ساندو" للفوز بولاية رئاسية جديدة: تحكُم مايا ساندو البلاد منذ عام 2020؛ حيث فازت في الانتخابات الرئاسية السابقة أمام مُرشح مدعوم من روسيا. أعلنت ساندو عقب غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022 قطع علاقات بلادها مع موسكو، وقدمت طلباً بانضمام مولدوفا إلى الاتحاد الأوروبي.تعتبر ساندو الخبيرة الاقتصادية السابقة في البنك الدولي، هي المُرشحة الأوفر حظاً للفوز بتلك الانتخابات وفق استطلاعات الرأي التي قدَّرت حصولها على نحو 35.8% من الأصوات، وهي نسبة لن تكون كافية بطبيعة الحال لحسم فوزها من الجولة الأولى، ومن ثم سيتعين عليها، وفق هذه الحالة، خوض جولة الإعادة في 3 نوفمبر 2024.تخوض ساندو ذات الـ52 عاماً الانتخابات الرئاسية الحالية في مواجهة 10 مُنافسين؛ أبرز هؤلاء ألكسندر ستيانوجلو (57 عاماً) وهو مُدَّعٍ عام سابق مدعوم من الاشتراكيين الموالين لروسيا، وريناتو أوساتي (45 عاماً) وهو رئيس بلدية سابق لبالتي ثاني كبرى مدن مولدوفا.2– حياد دستور مولدوفا تجاه الصراع بين الشرق والغرب: يُكرِّس دستور مولدوفا الحياد في الصراع بين الشرق والغرب، وهو ما يمثل عقبةً مؤسسية أمام مساعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وللتغلُّب على تلك العقبة، تم طرح تساؤل على الناخبين في الاستفتاء الدستوري الحالي حول إذا ما كانوا يوافقون على تعديل الدستور لجعل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هدفاً للبلاد؛ وذلك بعد أن بدأت مولدوفا في يونيو 2024 المفاوضات الرسمية لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.يأتي ذلك في الوقت الذي يشترك فيه سُكان مولدوفا في اللُّغة والتاريخ مع رومانيا التي هي عضو بالاتحاد الأوروبي، ويحمل 40% من المولدوفيين على الأقل جواز سفر دولةٍ أخرى عضو في الاتحاد الأوروبي؛ الأمر الذي اعتُبر بمنزلة معالجة مؤقتة لحين معالجة مسألة الحياد الدستوري بصفة نهائية.3– مُعضلة إقليم "ترانسنيستريا": تصطدم تطلُّعات مولدوفا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي بمُعضلة داخلية متمثلة في إقليم ترانسنيستريا الانفصالي. يبلغ عدد سُكان الإقليم نحو نصف مليون نسمة؛ يتحدث ثلثهم بالروسية، والثلثان الآخران يتحدثون الأوكرانية والمولدوفية؛ وذلك في مساحة جغرافية لا تزيد عن نحو 4 آلاف كم. ويوجد في الإقليم نحو 1300 جندي روسي، وهو ما يجعل الاتحاد الأوروبي يرى الإقليم بمنزلة بؤرة استيطانية لروسيا داخل مولدوفا؛ بحيث لم يعد يمثل الإقليم تهديداً لمولدوفا فقط، بل بات يمثل تهديداً للاتحاد الأوروبي أيضاً؛ بسبب قربه الشديد من حدود رومانيا.4– انطلاق مُفاوضات انضمام مولدوفا للاتحاد الأوروبي: تقدمت كيشيناو عاصمة مولدوفا بطلب انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022. وفي منتصف ديسمبر 2023، اتخذ رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي قراراً مهَّد الطريق أمام انطلاق مفاوضات انضمام مولدوفا رسمياً إلى الاتحاد الأوروبي. وفي السابع من يونيو 2024، قالت المفوضية الأوروبية إن مولدوفا استوفت كل المتطلبات الأساسية لبدء المفاوضات رسمياً. ويشكل بدء مرحلة المفاوضات الرسمية، خطوةً أُولى في عملية انضمام طويلة وشاقة تستغرق سنوات. وفي هذا الصدد، تسعى مولدوفا إلى المضي قدماً في تلك العملية، مع استكمال المتطلبات اللازمة للوفاء بشروط الانضمام، ومنها التعديلات الدستورية والقانونية التي سيتعين عليها إجراؤها.5– اتهام مولدوفا لروسيا بالتدخل في شؤونها الداخلية: يُعاني المشهد الداخلي في مولدوفا من تجاذبات خارجية؛ حيث أوقفت الشرطة المولدوفية مئات الأشخاص خلال الأشهر القليلة الماضية، وحذرت من أنه في شهر أكتوبر الجاري فقط جرى تهريب ملايين الدولارات إلى البلاد عبر أشخاص مرتبطين بالسياسي السابق ورجل الأعمال الهارب من العدالة إيلان شور، وهو ما يعني أن نحو 25% من أصوات الناخبين (300 ألف صوت) قد تكون روسيا استطاعت شراءها وفق تقديرات الشرطة المولدوفية. وبالإضافة إلى اتهامها لروسيا بشراء الأصوات، رصدت الشرطة المولدوفية تدريب مئات الشباب في روسيا وبعض دول البلقان بهدف إحداث "اضطراب عام" في البلاد؛ وذلك في الوقت الذي تنفي فيه روسيا كل تلك الاتهامات، وتتحدى مولدوفا أن تقدم أدلة تثبتها.خُطورة التداعياتثمة تداعيات مُحتملة لاستمرار ضبابية المشهد الداخلي في مولدوفا، وما كشفت عنه نتائج الانتخابات الرئاسية والاستفتاء الدستوري مؤخراً؛ وذلك على نحو ما يلي:1– عدم قدرة "مايا ساندو" على حسم الانتخابات من الجولة الأولى: أظهرت النتائج الأولية لانتخابات الرئاسة المولدوفية فوز الرئيسة الحالية مايا ساندو بالمركز الأول بنسبة 42.45%، مُتقدّمةً على أقرب منافسيها ألكسندر ستيانوجلو الذي حصل على نسبة 26.1% من مجموع الأصوات، وهو ما سيمهد الطريق لدخولهما جولة الإعادة في 3 نوفمبر 2024؛ لعدم استيفاء ساندو النصاب القانوني للفوز من الجولة الأولى المُقدر بنسبة 50%+1 من مجموع الأصوات الصحيحة.2– تفاقم الاستقطاب بشأن ملف الانضمام للاتحاد الأوروبي: تكرَّر مشهد الانتخابات الرئاسية في نتائج الاستفتاء الدستوري؛ حيث كشفت النتائج الأولية غلبة تصويت المواطنين المولدوفيين بـ"نعم" لصالح تطويع الدستور المولدوفي من أجل الانضمام لاحقاً إلى الاتحاد الأوروبي، غير أن أغلبية التصويت جاءت هزيلة للغاية بحيث لم تتعدَّ نسبة 50.5% خلافاً لما كانت تطمح إليه ساندو بأن يكون معها أغلبية مؤثرة تشجعها على الوفاء بمزيد من متطلبات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.3– احتمالية تقويض التوازن السياسي الدقيق في البلاد: يتسم المشهد الداخلي في مولدوفا ببعض التعقيد؛ حيث ينص الدُّستور على الحياد وعدم الانحياز إلى أي طرف في الصراع بين الشرق والغرب. ويجنح قطاع واسع من المولدوفيين إلى الحصول على جنسية دولة من دول الاتحاد الأوروبي للاستفادة من المزايا المتاحة لمواطنيها، فضلاً عن التركيبة المعقدة في إقليم ترانسنيستريا الانفصالي الذي يسمح لروسيا بالوجود الفعلي على أراضٍ مولدوفية. ومن شأن دأب مولدوفا على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، خاصةً بعد أن جاءت نتيجة الاستفتاء الدستوري لصالح إجراء عملية التعديل؛ احتمالية تقويض التوازن السياسي الدقيق الذي تُدير به ساندو المشهد الداخلي في البلاد، خاصةً في ظل أن الأغلبية التي كشفت عنها نتائج الاستفتاء الدستوري أغلبية هزيلة، تمثل في ذاتها إشكالية.4– تصور تكرار السيناريو الأوكراني في مولدوفا: تُعاني مولدوفا من ضعفٍ في بنيتها الاجتماعية، وهو ما كشفت عنه نتائج التصويت في الانتخابات الرئاسية والاستفتاء الدستوري على حد سواء؛ حيث أظهر أن هناك درجة كبيرة من الانقسام تجاه تطلعات مايا ساندو نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وما سيُرتبه من أعباء. أما من الناحية العسكرية، فعلى الرغم من أن رومانيا ساعدتها في السابق خلال المواجهات الخاصة بإقليم ترانسنيستريا الانفصالي، فإن مولدوفا لا تزال دولة ضعيفة عسكرياً؛ إذ يبلغ تعداد القوات المسلحة المولدوفية وفق تقارير عسكرية، نحو 11 ألف جندي ومتطوع أو أقل من ذلك، وهو ما يطرح إمكانية تكرار السيناريو الأوكراني في مولدوفا إذا ما استطاعت روسيا حسم حربها في أوكرانيا، وإذا ما سعت بعدها إلى تحييد مولدوفا بعيداً عن محاولة التقارب مع الاتحاد الأوروبي.5– استفزاز روسيا بسبب دعم الغرب المتواصل لنظام ساندو: تزايدت ردود الأفعال الأمريكية والغربية بعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية والاستفتاء الدستوري المولدوفيين؛ حيث دافع الاتحاد الأوروبي عن رواية ساندو التي اتهمت فيها روسيا مباشرةً بمحاولة عرقلة المسار الديمقراطي في بلادها، ونوه الاتحاد في بيان أن مولدوفا واجهت ترهيباً غير مسبوق وتدخلاً أجنبياً سافراً من روسيا ووكلائها قبل هذا التصويت.فيما رحبت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية بنتيجة الاستفتاء، وبأنها جاءت معبرة عن أن مولدوفا مستقلة وقوية وتريد مستقبلاً أوروبياً. أما جون كيربي مُنسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي، فقال إن روسيا كانت تعمل بنشاط لتقويض انتخابات مولدوفا وسعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما دحضته النتائج الأولية، وأثبتت بالتبعية أن الديمقراطية المولدوفية قوية وعصية حتى الآن على روسيا، وهو ما يمكن في مجموعِهِ أن يحفز روسيا على تحجيم خسائرها وتقليب الأوضاع الداخلية في مولدوفا بصورة غير مسبوقة، وبشكل أكثر وضوحاً في ترانسنيستريا التي لا تزال لديها ما يزيد عن 1300 جندي متمركز بها، وتضم كذلك أكثر من 220 ألف مواطن روسي.6– إمكانية رهان روسيا على "ستيانوجلو" في جولة الإعادة الرئاسية: يُنافس مايا ساندو في جولة الإعادة الرئاسية المقرر عقدها في 3 نوفمبر المقبل، ألكسندر ستيانوجلو المُدَّعي العام السابق المدعوم من روسيا، الذي أشار في وقت سابق إلى أنه سيتبنى "سياسة خارجية متوازنة"، تضمن علاقات موصولة بكل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا والصين على حد سواء. وكان ستيانوجلو قد قاطع الاستفتاء الدستوري بحجة أنه حيلة من ساندو للفوز بالانتخابات الرئاسية، وهو ما يمكن أن يكون بوابة خلفية لروسيا من أجل دعمه والرهان عليه، أملاً منها في فوزه على ساندو في جولة الإعادة وإعادة تشكيل اللُّعبة من جديد. ولعل ما يُعزِّز تلك الفرضية، توقُّع جون كيربي أن روسيا لن تستسلم لنتائج الانتخابات الرئاسية والاستفتاء على الدستور، وأنها ستحاول التأثير على انتخابات جولة الإعادة.ختاماً، يبدو أن ديناميات المشهد الداخلي في مولدوفا ستتصاعد في المرحلة المقبلة؛ حيث يمكن لنتائج جولة الإعادة أن تُعيد تشكيل اللُّعبة من جديد، إذا استطاع ألكسندر ستيانوجلو الفوز على الرئيسة الحالية مايا ساندو، بعد أن أظهرت نتائج الاستفتاء الدستوري وجود أغلبية طفيفة لصالح انضمام مولدوفا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما يرفضه ستيانوجلو، بل إنه قاطع التصويت على الاستفتاء بداعي تمسكه بمبدأ الحياد في سياسة بلاده الخارجية تجاه كل من معسكر الولايات المتحدة والغرب، ومعسكر الصين وروسيا. الأمر الآخر الجدير بالمُلاحظة في المُعادلة المولدوفية، هو وجود بعض المُعضلات الداخلية التي يُتوقع أن يكون لها دور حاسم في إمكانية انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي مُستقبلاً، ويأتي على رأس ذلك قضية إقليم ترانسنيستريا الانفصالي.&nbsp;

دلالات الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة والاستفتاء الدستوري بمولدوفا