إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

أعلنت مصادر أمريكية بمنتصف ديسمبر 2023 عن قرب التوصل إلى تسوية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي تمنح واشنطن بموجبها (61) مليار دولار مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا؛ حيث يرفض الحزب الجمهوري تقديم مساعدات جديدة لكييف، ويسانده في ذلك الرأي العام الأمريكي؛ ما أدى إلى انقسام في الموقف الأمريكي ووقف منح أي مساعدات جديدة لأوكرانيا في ظل نفاد 97% من أموال المساعدات المقدمة لها؛ ما يؤدي&nbsp;إلى عجز الجيش الأوكراني المعتمد تماماً على الدعم الغربي له؛ الأمر الذي سيؤثر على مستقبل الحرب الأوكرانية والموقف الأمريكي منها، لا سيما قبل إجراء الانتخابات الرئاسية الروسية والأمريكية العام المقبل.دوافع متعددة رفض رئيس مجلس النواب الأمريكي الجمهوري "مايك جونسون" تمرير مشروع قانون إنفاق طارئ، طلبته إدارة الرئيس الأمريكي "جون بايدن" بقيمة (111) مليار دولار لتقديم مساعدات عسكرية لكل من أوكرانيا وإسرائيل وتايوان، وتأمين الحدود الأمريكية الجنوبية بنوفمبر الماضي، ودعا إلى منح المساعدات لإسرائيل فقط، وهو ما رفضه "بايدن" الذي حذر من أن وقف المساعدات سيمثل "هدية" للرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"؛ حيث يرفض "جونسون" منح المزيد من الدعم لكييف بعد تلقيها (110) مليارات دولار من واشنطن مساعدات منذ بدء الحرب الروسية ضدها في 24 فبراير 2022؛ الأمر الذي دفع الحزبين الجمهوري والديمقراطي إلى تشكيل "لجنة ثلاثية مصغرة" للتوصل إلى تسوية تمرر مشروع القانون حزمة واحدة. وثمة العديد من الدوافع لتغير الموقف الأمريكي من دعم أوكرانيا، ومنها:&nbsp;1- انقسام حزبي حول دعم أوكرانيا: يرهن الحزب الجمهوري موافقته على تمرير مساعدات جديدة لأوكرانيا بموافقة الحزب الديمقراطي على قانون يتعلق بأزمة المهاجرين غير الشرعيين على الحدود الأمريكية المكسيكية، وفرض إجراءات متشددة على الهجرة، وهو ما يرفضه الحزب الديمقراطي حتى الآن، ويتمسك الحزب الجمهوري بربط الملفين معاً، وبضرورة إنفاق المزيد من الأموال لتحقيق الأمن القومي الأمريكي بطريقة مباشرة؛ ولذا يسعى كلا الحزبين إلى الضغط على الآخر لتمرير ما يريده. وإذا فشل التوصل إلى تسوية فسيتهم كل حزب الطرف الآخر بأنه المسؤول عن تداعيات ذلك.وقد سعى الرئيس الأوكراني "زيلينسكي" خلال زيارته لواشنطن في 11 ديسمبر 2023 إلى لقاء النواب الجمهوريين لإقناعهم بضرورة استمرار الدعم لبلاده، بيد أن السيناتور الجمهوري "جاي دي فانس" انتقده واتهمه بأنه "يتدخل في الجدل الداخلي السياسي الأمريكي". ورغم هذا فإن زعيم الأقلية الجمهورية بمجلس الشيوخ السيناتور "ميتش ماكونيل" مؤيد لاستمرار دعم أوكرانيا وربط هذا الدعم بالمساعدات المقدمة لإسرائيل حزمة واحدة. ويجب على الحزبين التوصل إلى تسوية قبل منتصف يناير المقبل موعد الإغلاق الجزئي الحكومي؛ ما يدفعهما إلى الإسراع بالتوصل إلى تسوية ما.وجدير بالذكر أن مجلس النواب يسيطر عليه أغلبية جمهورية ومجلس الشيوخ يسيطر عليه أغلبية ديمقراطية، وأن النواب الجمهوريين في المجلسين يطالبون بتنفيذ إصلاحات جذرية في قوانين الهجرة واللجوء لتخفيض عدد المهاجرين من المكسيك إلى بلادهم، وهو ما يرفضه الديمقراطيون حتى الآن، بينما يدعم الحزب الديمقراطي استمرار الدعم لأوكرانيا وهو ليس الموقف ذاته بالنسبة لأغلب الجمهوريين.2- تصاعد الرفض الشعبي لمواصلة الدعم لأوكرانيا: ثمة عدد من المؤشرات تؤكد تصاعد الرفض الشعبي الأمريكي لدعم أوكرانيا؛ فوفق استطلاع رأي أجراه مركز "شيكاغو للشؤون العالمية" في منتصف ديسمبر 2023، تراجع التأييد الشعبي الأمريكي لدعم أوكرانيا وبلغ (63%) بعدما كان (72%) العام الماضي. وأجرت وكالة "أسوشيتد برس" ومركز "نورك" لأبحاث الشؤون العامة استطلاعاً للرأي في ديسمبر الحالي أوضح أن (45%) من المشاركين يرون "المساعدات الأمريكية لكييف كبيرة".بينما انتقد الصحفي الأمريكي "تاكر كارلسون" الاضطهاد الذي يتعرض له معارضو استمرار دعم كييف، وأوضح أنه "يتم إسكات السياسيين الأمريكيين الذين يعارضون علناً الدعم المستمر لأوكرانيا، باتهامهم بالتعامل مع روسيا"، كما تراجع الدعم الشعبي "لبايدن" وفق أحدث استطلاع للرأي إلى أدنى مستوى له منذ توليه منصبه عام 2021، وبلغ (33%)؛ نظراً إلى تأييده المستمر لدعم أوكرانيا. وربما يعود هذا التراجع إلى عدم وجود جدول زمني للدعم أو انتصار عسكري ملموس حققته كييف بعد عامين من الحرب؛ حيث لا يرغب الشعب الأمريكي في التورط في حرب طويلة الأمد تستنزف قدراته كما حدث بحربي العراق وأفغانستان من قبل.3- الجدل حول الأهمية الاقتصادية للدعم: يدفع الحزب الجمهوري المعارض لدعم أوكرانيا بأن أموال المساعدات الأمريكية يجب أن يستفيد منها اقتصاد البلاد، بينما أوضح "بايدن" أن "الكثير من الإنفاق على أوكرانيا يبقى في الداخل؛ ما يخلق فرص عمل ويدعم الشركات". وكرر وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكن" المعنى ذاته وأكد أن "90% من المساعدات الأمنية تم إنفاقها داخل الولايات المتحدة مع شركاتنا المصنعة، وهذا أدى إلى خلق المزيد من فرص العمل الأمريكية، والمزيد من النمو داخل اقتصادنا"، في محاولة لإقناع الرأي العام الأمريكي بجدوى المساعدات وعائدها الاقتصادي على الولايات المتحدة الأمريكية.4- التشكيك في الجدوى الأمنية للمساعدات: بعض المعارضين لتقديم الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا يؤكدون أن توجيه هذه الأموال الضخمة لتطوير الجيش الأمريكي وتأمين الحدود الجنوبية سيحقق الأمن القومي للبلاد بشكل أفضل، بيد أن المؤيدين لاستمرار الدعم – ومنهم نائب مدير برنامج روسيا بمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات "جون هاردي" – لهم رأى مغاير؛ حيث أوضح الأخير "أن تقاعس الكونجرس عن مساعدة أوكرانيا يضر بالجيشين الأوكراني والأمريكي"؛ لأنه يعيق التخطيط العسكري للعام المقبل، ويضر الجيش الأمريكي من خلال تأخير استبدال المعدات والذخائر التي تم التبرع بها لأوكرانيا، كما أن العقود الجديدة لمد كييف بالأسلحة الأمريكية تساهم في تشغيل مصانع الأسلحة الأمريكية ومنها (117) خط إنتاج في 31 ولاية على الأقل تنتج أنظمة أسلحة رئيسية لأوكرانيا، منها (دبابات أبرامز، ومدرعات سترايكر، وطائرات "سويتشبليد" المسيَّرة، مركبات برادلي القتالية).وهذا الأمر أوضحته المتحدثة باسم وزارة الدفاع "سابرينا سينج" التي ذكرت أن "المساعدة الأمنية لأوكرانيا هي استثمار ذكي في أمننا القومي؛ لأنها تساعد في منع نشوب حرب أكبر بأوروبا مع تعزيز قاعدتنا الصناعية الدفاعية، وخلق وظائف للشعب الأمريكي". وهذا يؤكد الجدوى الأمنية من استمرار الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا وارتباطه بالأمن القومي الأمريكي رغم التشكيك في تلك الجدوى.5- انتقاد فشل الهجوم المضاد الأوكراني: يرى الجمهوريون أن "زيلينسكي" فشل في إدارة "الهجوم المضاد" الذي بدأه الجيش الأوكراني منذ مارس الماضي، ولم يحقق تقدماً عسكرياً ملموساً؛ ما دفع الأخير إلى إقالة عدد كبير من القيادات والقادة العسكريين بالجيش الأوكراني؛ ما أثار الشكوك في قدرة "زيلينسكي" نفسه على إدارة البلاد خلال الحرب مع تصاعد الاتهامات الموجهة إلى كييف بانتشار الفساد وغياب الشفافية بكافة مؤسسات الدولة؛ الأمر الذي أدى إلى تراجع شعبية "زيلينسكي" بدرجة كبيرة داخل أوكرانيا؛ حيث أجري استطلاع للرأي أثبت أنه إذا تم إجراء انتخابات رئاسية بأوكرانيا فإنه سيحصل على 72% من الأصوات مقابل 84% من الأصوات سيحصل عليها القائد العام للقوات المسلحة الجنرال "فاليري زالوجني" الذي يتمتع بشعبية أيضاً داخل الجيش الأوكراني، وهو ما أثار الحديث حول رفض "زيلينسكي" إجراء انتخابات خلال الحرب، ومساعي دول أوروبية وواشنطن إلى أن تستبدل به رئيساً جديداً يمكن التفاوض معه على تسوية سلمية للأزمة.تداعيات متعددةرغم رفض مجلس النواب تقديم حزمة الدعم لأوكرانيا، فإن "بايدن" جدد حرصه على دعم كييف خلال لقائه "زيلينسكي" بواشنطن في منتصف ديسمبر الحالي، وقدم له 200 مليون دولار دعماً مالياً جديداً لبلاده غير حزمة المساعدات محل الخلاف؛ ولذا فإن تعثر تمرير المساعدات الجديدة لكييف ستكون لها تداعيات عدة على "بايدن" وعلى مستقبل الحرب الأوكرانية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:&nbsp;1- تغير آليات دعم أوكرانيا: ثمة توقعات أصبحت شبه مؤكدة بأن الحرب الروسية على أوكرانيا ستمتد لعامين أو أكثر، وأنها حرب "طويلة الأمد"؛ ما يتطلب تغييراً في آليات تقديم الدعم والمساعدات العسكرية للجيش الأوكراني في المرحلة المقبلة، عبر توطين الصناعات الدفاعية في أوكرانيا، واستحداث تكتيكات عسكرية جديدة قليلة التكلفة على حلفاء كييف، وتتناسب مع طول أمد المعارك العسكرية.2- التأثير على مكانة "بايدن":&nbsp;قدم "بايدن" كافة أشكال الدعم السياسي والعسكري لكييف منذ بدء الحرب دون تحقيق تقدم ملموس، وأصبح مستقبله السياسي مرتبطاً بنتائج الحرب الأوكرانية؛ ولذا ربما يؤثر عليه سلباً التجاذبات الحزبية بمجلس النواب حول تقديم الدعم لأوكرانيا، كما بدأ الحزب الجمهوري بالتزامن مع ذلك إجراءات عزل "بايدن" من منصبه بتهم تتعلق بالفساد والتربح؛ وذلك قبل عام من الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أعلن ترشحه فيها؛ ما ينذر بأن الحزب الجمهوري برفضه حزمة المساعدات لأوكرانيا، يرغب في الضغط على "بايدن" للتخلي عن منصبه أو لتدني شعبيته وخسارته الانتخابات المقبلة.3- تقدم القوات الروسية: بعد مرور عامين من الحرب الروسية على أوكرانيا، أصبحت موسكو تسيطر على (18%) من الأراضي الأوكرانية. ورغم المساعدات العسكرية الضخمة لكييف لم تتمكن من استعادتها، ومن المنتظر مع بداية (شتاء 2024) أن تكثف موسكو هجماتها على المناطق الحيوية بأوكرانيا، وتستهدف تدمير البنية التحتية الحيوية لها، وهو ما بدأ بالفعل منذ نوفمبر الماضي الذي شهد أعنف هجوم روسي على أوكرانيا منذ عام. وتهدف موسكو من ذلك استغلال توقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا، والسعي لتحقيق تقدم ميداني تروج له كانتصار عسكري؛ لحشد الأصوات المؤيدة للرئيس الروسي "بوتين" قبل الانتخابات الرئاسية الروسية المقبلة المقررة في مارس 2024، وهذا ربما يتحقق لها إذا استمرت المباحثات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي للموافقة على حزمة المساعدات الجديدة لكييف حتى منتصف يناير المقبل موعد الإغلاق الحكومي الأمريكي.4- بدء التفاوض لحل الأزمة الأوكرانية: ربما تدفع الخلافات داخل الولايات المتحدة نحو تشديد الضغوط على كييف للبحث عن مسار لتسوية الحرب؛ فالرئيس الأوكراني "زيلينسكي" بات يدرك أن موقفه أصبح أكثر صعوبة حالياً، في ظل الإشكاليات التي تواجه الدعم الغربي لكييف؛ ولذا ربما يكون وقف إطلاق النار والتفاوض واحداً من السبل المطروحة لحل الأزمة الأوكرانية، خاصة في ظل غياب الحسم العسكري، واستمرار استنزاف قدرات الدولتين وقدرات حلفاء كييف كذلك من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية. ولعل المبادرة الصينية لحل الأزمة التي وافق عليها "بوتين" تكون نقطة الانطلاق للتفاوض، بيد أن كييف وواشنطن رفضتا المبادرة؛ نظراً إلى التنافس الجيوسياسي بين بكين وواشنطن مؤخراً.5-دعم التيار الرافض لدعم كييف داخل أوروبا: لا يمكن إغفال أن الخلافات داخل الولايات المتحدة بشأن دعم كييف تُكسب الخطاب الرافض لدعم أوكرانيا داخل أوروبا المزيد من الزخم؛ فهناك رئيس الوزراء المجري "فيكتور أوربان" الذي يعرقل بصورة كبيرة تقديم المزيد من المساعدات لأوكرانيا. علاوة على ذلك، فإن تصاعد نفوذ اليمين المتطرف في أكثر من دولة أوروبية قد يشكل قيداً إضافياً على تقديم مساعدات جديدة لأوكرانيا.مما سبق، نجد أن ثمة تغيراً بالموقف الأمريكي من استمرار تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا. وإذا تم التوصل إلى تسوية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حزمة المساعدات الجديدة وتم منحها لكييف بالفعل، فإن ذلك لا يرتبط بتغير الإدراك الأمريكي بشأن الحرب، بل بالتجاذبات الحزبية الأمريكية، التي ستشتد العام المقبل؛ حيث الانتخابات الرئاسية، كما بدأت عدد من الدول الأوروبية ترفض تقديم دعم لكييف، ومنها المجر وسلوفاكيا؛ ولذا فإن على أوكرانيا التكيف مع تغير آليات الدعم العسكري المقدم لها حال استمرارها في الحرب أو البحث في القبول بمبادرة لتسوية الأزمة. &nbsp;

تداعيات تصاعد الخلافات الأمريكية حول دعم أوكرانيا