تسبب الصراع الجديد في الشرق الأوسط بين إسرائيل وحماس في تداعيات فورية على الدبلوماسيات الغربية؛ حيث إن بعض مواقفها أثارت موجة من الانتقادات القوية؛ لأنه تم تفسيرها على أنها متساهلة مع إسرائيل، خصوصاً بعد تجاوز رد الفعل الإسرائيلي الحدود المعيارية المعمول بها في العالم التي وضعها الغرب نفسه. ولقد استدعى هذا الأمر مراجعات ومحاولات لإعادة التقييم ولكن بشكل متفاوت بين الدول الغربية، وخاصة مع مؤشرات الاستياء المتصاعدة داخل المؤسسات الدبلوماسية تجاه خيارات صانع القرار وموقفه مما يجري في قطاع غزة.

استياء متصاعد

يمكن رصد أهم ملامح ومؤشرات تأثر الدبلوماسية الغربية من حرب غزة من خلال النقاط التالية:

1- تزايد الانقسامات داخل الدبلوماسية الفرنسية: في بادرة غير مسبوقة، أعرب العديد من السفراء الفرنسيين في الشرق الأوسط، من خلال مذكرة مشتركة، عن أسفهم لموقف بلادهم من الحرب بين إسرائيل وحماس، واعتراضهم على التحول في الدبلوماسية الفرنسية الذي اتخذه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الميال نحو تأييد إسرائيل. وبناءً على هذا التحول أصبحت فرنسا عرضة للانتقادات والاتهامات "بالتواطؤ في جرائم الحرب المرتكبة هناك". وذكرت صحيفة لوموند الفرنسية في 15 نوفمبر 2023 أن قرار ماكرون إرسال وزير القوات المسلحة سيباستيان لوكورنو في جولة إلى الشرق الأوسط يأتي على خلفية التعتيم على وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا؛ نظراࣧ إلى التوترات الكبيرة التي نشأت على خلفية هذه المذكرة.

2- تفاقم مشكلات الائتلاف الحاكم في إسبانيا: وجد الائتلاف الحكومي برئاسة الاشتراكي بيدرو سانشيز في إسبانيا نفسه منقسماً بشأن الحرب في غزة؛ حيث إن أحد مكوناته – وهو حزب بوديموس – لم يقم بإدانة هجمات حماس في 7 أكتوبر على عكس شركائه في الائتلاف، كما قام أعضاء من الحكومة منتمون الى هذا الحزب بانتقاد ردة الفعل الإسرائيلية على هذه الهجمات، كاعتبار وزيرة الحقوق الاجتماعية إيوني بيلارا أن ما يحدث في غزة هو إبادة جماعية مخطط لها؛ الأمر الذي دفع وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس، إلى الاعتراف بوجود حساسيات مختلفة ضمن الائتلاف الحاكم فيما يخص هذا الموضوع، ولكن مع التذكير بأن الموقف الرسمي الإسباني يتم التعبير عنه من خلال رئيس الحكومة ووزير خارجيته فقط.

3- اعتراض الأجنحة التقدمية في الولايات المتحدة: في الولايات المتحدة الأمريكية قاطع خطابَ وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن في مجلس الشيوخ في 31 أكتوبر الماضي، ناشطون صبغوا أيديهم باللون الأحمر، كما قاطعت سيدة خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن أثناء تجمع انتخابي في مينيابوليس، مطالبة بوقف فوري لإطلاق النار في غزة.

وكشف موقع بوليتيكو عن وجود تقرير سري كتبه دبلوماسيون يطالب الإدارة الأمريكية بالتنبه إلىالانتهاكات الإسرائيلية للمعايير الدولية؛ الأمر الذي يتعارض مع القيم الأمريكية. ولاحقاࣧ نشر موقع أكسيوس محتويات رسالة أرسلتها دبلوماسية أمريكية تعمل في مكتب شؤون الشرق الأوسط من أجل جمع توقيعات على عريضة تتهم جو بايدن بـالتواطؤ في الإبادة الجماعية من خلال دعمه الثابت لإسرائيل.

وذكرت صحيفة نيويورك تايمز في 14 نوفمبر 2023 عن وجود رسالة موقعة من أكثر من 500 موظف حكومي تدعو بايدن إلى طلب وقف إطلاق النار بشكل عاجل، وتسهيل مرور مساعدات إنسانية كافية إلى قطاع غزة، كما قدم ثمانية نواب من الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي، من بينهم ألكساندريا أوكازيو كورتيز، مشروع قرار يدعو بوضوح إلى وقف إطلاق النار. وتأتي هذه الانقسامات بالتزامن مع سعي إدارة بايدن للتصويت في الكونجرس على حزمة مساعدات بنحو 105 مليارات دولار مخصصة لأوكرانيا وإسرائيل.

4- اتساع التباينات الدبلوماسية الأوروبية: ظهر من خلال التصويت على مشروع القرار الذي قدمه الأردن في 27 أكتوبر 2023 في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي يتناول وقف الحرب في غزة عدم وحدة المواقف الأوروبية؛ حيث صوت الأوروبيون عليه بشكل متفرق؛ إذ عارضته 4 دول من الاتحاد الأوروبي هي كرواتيا والنمسا والمجر والتشيك، وامتنعت 15 دولة أوروبية عن التصويت عليه في مقدمتهم ألمانيا، وصوتت 8 دول لصالحه منها فرنسا وإسبانيا وبلجيكا وأيرلندا، وترجع أغلبية الدول الأوروبية التي امتنعت عن التصويت سبب ذلك إلى عدم إدراج إدانة هجمات 7 أكتوبر التي قامت بها حماس ضمن القرار.

وتبلورت الخلافات الأوروبية أيضاً في قمة الاتحاد الأوروبي التي انعقدت في 26 أكتوبر 2023؛ حيث استغرق النقاش للخروج ببيان مشترك يتعلق بالحرب بين إسرائيل وحماس نحو 5 ساعات متواصلة، وكان المخرج من الخلافات في وجهات النظر هو استخدام كلمة "توقفات" مؤقتة للاستجابة للاحتياجات الإنسانية وتقديم المساعدات إلى غزة.

وكانت إسبانيا تطالب بـاستخدام مصطلح "وقف إطلاق النار"، فيما كانت تعمل فرنسا على استخدام كلمة "الهدنة". أما ألمانيا فكانت مع استخدام لفظ "النوافذ" الإنسانية، وفي النهاية تم تبني الكلمة التي اقترحها الممثل الأعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، وهي "توقفات". وكان لافتاࣧ أنه تم تبني هذه الكلمة بصيغة الجمع حتى تشير طبيعتها المتكررة إلى عدم الاعتراض على استمرار الأعمال العسكرية الإسرائيلية ضد حماس.

5- تداخل في توزيع الأدوار الدبلوماسية لمؤسسات الاتحاد الأوروبي: ظهر الارتباك أيضاࣧ على أداء الدبلوماسية الغربية من خلال تضارب مواقف قادة مؤسسات الاتحاد الأوروبي؛ حيث قامت رئيسة المفوضية الأوروبية الألمانية أورسولا فون دير لاين بزيارة تضامنية مع إسرائيل بشكل مبكر، مبدية التعاطف مع حكومة بنيامين نتنياهو، ومتجاهلة بحث مصير المدنيين الفلسطينيين؛ ما أثار حفيظة الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل، ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل اللذين لديهما صلاحية تحديد السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، كما أثار هذا أيضاࣧ حفيظة العديد من دول الاتحاد الأوروبي.

ومن أجل وضع حد لهذا الارتباك، قرر المجلس الأوروبي تقييد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، الذي كان غير مشروط في السابق، بأحكام وقواعد القانون الدولي الإنساني . وعلى الرغم من أن ألمانيا تأتي في طليعة الدول التي كانت تقدم مساعدات إلى السلطة الفلسطينية، وكان ينتظر منها لعب دور دبلوماسي أكبر في التعاطي مع الحرب في غزة، فإن غياب إظهار التعاطف مع المدنيين الفلسطينيين الذي أظهره المستشار الألماني، الذي كان أول رئيس حكومة غربية يزور إسرائيل بعد هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى اغتنام هذه الفرصة من أجل تنظيم مؤتمر إنساني في باريس حول غزة في 9 نوفمبر 2023، بمشاركة أكثر من 50 دولة ومنظمة دولية وغابت عنه إسرائيل، وهو المؤتمر الذي خرج بنتيجة الالتزام بتقديم أكثر من مليار يورو لمساعدة السكان في غزة، وهو الأمر الذي أثار انزعاج برلين.

6- التأثر بالتظاهرات أمام السفارات الغربية: حيث كان لافتاً أن أغلب التظاهرات الاعتراضية على ما يجري في غزة داخل الدول العربية أو الإسلامية، كانت تحدث أمام السفارات الأمريكية والفرنسية؛ حيث منعت القوى الأمنية جموعاً من المحتشدين الغاضبين من الاقتراب من السفارة الأمريكية في منطقة عوكر بلبنان، فيما استطاع بعض المتظاهرين أمام السفارة الفرنسية في بيروت من نزع العلم الفرنسي على مدخل السفارة واستبدال علم فلسطيني به. أما في تركيا فلقد كان لافتاࣧ تزامن تنظيم تظاهرات أمام السفارة الأمريكية مع موعد زيارة وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن الى أنقرة في 6 نوفمبر؛ وذلك في إطار إظهار رسالة احتجاجية على هذه الزيارة. وكان قد سبق هذه الزيارة أيضاً تظاهر الآلاف من الأتراك قرب قاعدة أنجرليك العسكرية، مطالبين بطرد الجنود الأمريكيين منها.

7- تزايد الخطوات السياسية الارتجالية: وذلك كاقتراح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال لقائه في تل أبيب مع بنيامين نتنياهو أثناء زيارته لإسرائيل في 24 أكتوبر 2023، توسيع التحالف الدولي ضد داعش من أجل القضاء على حماس، وهي فكرة تسببت في كثير في عدم الفهم في الشرق الأوسط، قبل أن يتم التخلي عنها لاحقاً، كما توقف المراقبون أمام إعلان ماكرون في اليوم التالي وأثناء زيارته لمصر، اعتزام فرنسا إرسال سفينة عسكرية لتعمل كمستشفى عائم في غزة اسمها تونير Tonnerre ليتبين بعد ذلك أن السفينة المذكورة لا يمكنها القيام بهذه المهمة. ومن ثم تمت الاستعاضة عن ذلك بإرسال سفينة أخرى تدعى Dixmude مجهزة بشكل أفضل.

8- تصاعد ضغوط الرأي العام الداخلي على صانع القرار: شكل الرأي العام الداخلي في الدول الغربية عاملاً ضاغطاً على الدبلوماسية الغربية، والعاملين في مؤسسات السياسة الخارجية والدبلوماسية، وقد ظهرت مؤشرات ذلك مع بعض استطلاعات الرأي؛ حيث كشف استطلاع رأي جرى في ألمانيا أن 32% من الألمان يعتقدون أن حكومة بلادهم أظهرت الكثير من المحاباة لإسرائيل، في حين اعتبر 7% منهم أن برلين تقف بجانب الفلسطينيين أكثر من اللازم.

كما أظهرت نتائج استطلاع أجرته YouGov في 2 نوفمبر 2023 أن 19% من البريطانيين يتعاطفون أكثر مع الجانب الإسرائيلي، في حين أن نسبة مماثلة تتعاطف أكثر مع الجانب الفلسطيني. واللافت في نتائج هذا الاستطلاع إعلان نسبة 32% من البريطانيين أنهم يتعاطفون مع الطرفين في الوقت نفسه وبشكل متساوٍ، في حين كانت هذه النسبة في النصف الأول من شهر أكتوبر 2023 تلامس 20%.

أما في فرنسا، فلقد أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة Ifop بعد شهر واحد من هجوم حماس في إسرائيل، تراجع تعاطف الفرنسيين مع إسرائيل بمقدار 12 نقطة؛ حيث كان في أكتوبر 37% في حين أصبح في منتصف نوفمبر 25%. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فلقد أظهرت نتائج استطلاع رأي أجرته Reuters/Ipsos في منتصف نوفمبر أن 32% من المشاركين في الاستطلاع يعتبرون أن على الولايات المتحدة أن تدعم إسرائيل. واللافت أن هذه النسبة جاءت أقل عما كانت عليه في 13 أكتوبر 2023؛ حيث كانت تلامس 41%، كما ارتفعت نسبة الذين يقولون إن على الولايات المتحدة أن تكون وسيطاً محايداً من 27% إلى 39% في الاستطلاع الجديد.

تداعيات رئيسية

يمكن تفصيل أبرز تداعيات معضلة الدبلوماسية الغربية عقب عملية طوفان الأقصى من خلال ما يلي:

1- تغير في المواقف الغربية: نتيجة الضغط والمطالب المتعددة بضرورة إعادة التوازن إلى الموقف الفرنسي، قام ماكرون ومن خلال مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC في 10 نوفمبر، بالدعوة إلى وقف إطلاق نار إنساني، وانتقاد الضربات الموجهة ضد المدنيين، وبذلك يكون أول رئيس دولة في مجموعة السبعة يطالب بوقف إطلاق النار في الحرب الدائرة منذ أكثر من شهر، إلا أن المستشار الألماني شولتز، سارع إلى اعتبار هذا الطلب غير عادل لقطع الطريق على نظيره الفرنسي في دفع أوروبا إلى تبني هذا الخيار ومحاولة تحسين صورة فرنسا.

كما بدأ الرئيس الأمريكي بايدن يتكلم عن حاجة إلى توقفات إنسانية، وناقش وزير خارجيته بلينكن، خلال زيارته الأخيرة إلى إسرائيل في 3 نوفمبر 2023، هذا الأمر مع الحكومة الإسرائيلية، كما أثار مسألة حماية المدنيين في غزة، والتقليل من عدد الضحايا. وفي 15 نوفمبر، تبنى مجلس الأمن قراراࣧ يدعو إلى توقفات إنسانية في غزة، بعد أربع محاولات سابقة باءت بالفشل خلال شهر أكتوبر. ولقد حصل هذا القرار على 12 صوتاً وامتنع عن التصويت عليه 3 أعضاء هي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا.

2- تزايد التوترات الدبلوماسية مع إسرائيل: قامت السفارة الإسرائيلية في مدريد بالرد على وزراء من حزب بوديموس عبر اتهامهم بالإدلاء بتصريحات غير أخلاقية على الإطلاق عندما تحدثوا عن الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين، ودعت السفارة رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز إلى إدانة هذه التصريحات بشكل لا لبس فيه، إلا أن الرد الإسباني كان برفض الحكومة التعليق على هذه المواقف على اعتبار أنه يمكن لأي سياسي إسباني التعبير بحرية عن مواقفه في دولة ديمقراطية مثل إسبانيا.

كما اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الموقف الفرنسي بالدعوة إلى وقف إطلاق النار خطأ فعلياً وأخلاقياً ويتناقض مع موقف حلفاء الرئيس الفرنسي كالولايات المتحدة وألمانيا، كما قام نتنياهو في 13 نوفمبر الجاري بالرد على رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، الذي كان قد طالب بوقف قتل النساء والأطفال والرضع في قطاع غزة ، معتبراࣧ أن إسرائيل ليست هي التي تستهدف المدنيين عمداࣧ، بل حماس.

3- زيادة الضغط الدولي على تل أبيب: حيث حذرت آراء إسرائيلية من قرب انتهاء فترة السماح الدولية الممنوحة من الغرب لإسرائيل وهي الآراء التي كان من بينها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك الذي اعتبر في 7 نوفمبر أن أمام إسرائيل أسابيع فقط لهزيمة حماس، وأن إسرائيل بدأت تخسر الرأي العام في أوروبا، وأنه في غضون أسبوع أو أسبوعين ستبدأ في خسارة الحكومات، وبعد وقت قليل سيبدأ الاحتكاك مع الأمريكيين يظهر على السطح.

كما اعتبر وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين في 14 نوفمبر أن إسرائيل أصبحت في سباق مع الزمن، وأنه لم يبقَ أمامها سوى أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع قبل أن تشتد عليها الضغوط الشعبية الدولية التي يجب ألا تمنعها من تحقيق أهدافها العسكرية.

4- تصاعد اتجاه تراجع النفوذ الغربي عالمياً: أظهرت نتائج التصويت على مشروع القرار الأردني في الجمعية العامة المتعلق بالحرب في غزة، أن أغلبية الدول تعارض التوجهات الغربية؛ حيث صوتت 121 دولة مع القرار، وتغيبت 44 دولة عن التصويت، وصوتت 14 دولة ضد القرار (من بينها الولايات المتحدة وإسرائيل)، وكانت الدول الغربية تتساءل قبل ذلك وأثناء الحرب في أوكرانيا عن سبب عدم مشاركة دول الجنوب في العقوبات معها على روسيا.

ويبدو أنه عند كل حدث دولي كبير فإن هذه العزلة التي يعاني منها الغرب تتجسد بشكل أوضح، ويبدو أن الأحداث المتتالية لا تساهم إلا في تعزيز انقسام العالم إلى ثنائية "الغرب مقابل الباقي" West vs. the Rest))، ويرجع بعض الخبراء إلى أن هذه العزلة بدأت بشكل تصاعدي مع مؤتمر أستانة لحل الأزمة السورية في عام 2017؛ حيث تم استثناء الغرب من المشاركة في هذا المؤتمر، وأصبح مفهوم إبعاد الغرب عن حل المشاكل الناشبة في العالم يُرمز اليه بمصطلح Astanaïsation (نسبة إلى الأستانة).

5- تجاذبات جديدة حول موضوع الهجرة: تقوم النزعة الفكرية الجديدة لتيار المحافظين Neoconservatism على طرحين أساسيين: الأول أن هجرة المسلمين تشكل تحدياً للحضارة الغربية، والثاني أن "التعددية الثقافية" الرسمية ليست الحل بل هي جزء من المشكلة. ولقد أدت الحرب في غزة إلى ارتفاع العديد من الأصوات التي تدعو إلى مراجعة سياسات الهجرة المتبعة في الدول الغربية؛ حيث إنه حسب هذه الآراء أصبح من الواضح أن رفض المهاجرين المسلمين لاستيعاب هويتهم الجديدة يهدد تماسك المجتمعات التي يعيشون بداخلها، بحيث أصبحت الديمقراطيات الغربية تحاول رسم سياساتها الخارجية بناء على إرضاء هذه الأقلية الناشطة Active Minority وليس بناءً على مفاهيمها وقيمها ومصالحها الخارجية.

6- الاصطدام بتهمة ازدواجية المعايير: حيث تم انتقاد موقف ألمانيا التي ضاعفت من مساعداتها العسكرية إلى إسرائيل؛ إذ قفز رقم موافقة برلين على عقود لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل إلى 185 عقداࣧ بعد 7 اكتوبر، أي ما يقارب 6 أضعاف ما كانت عليه بين يناير وسبتمبر من هذا العام. ويبدو أن الحكومة الألمانية قد تخلت عن مبدئها الرافض لإرسال المعدات العسكرية إلى المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة الذي كانت قد طبقته في العديد من النزاعات في الشرق الأوسط.

وبالإضافة إلى الاتهامات بالاصطفاف خلف الموقف الأمريكي فيما يخص إسرائيل، فإن بعض قوى اليسار الألماني تعتبر أن ألمانيا ما زالت تحت تأثير عقدة الذنب التاريخية التي تمنعها من لعب دور محايد في القضايا التي تكون إسرائيل طرفاࣧ فيها. بالإضافة إلى ذلك فلقد قام العديد من المحللين الأوروبيين بالتحذير من فكرة إدانة الغرب سقوط المدنيين في أوكرانيا وضم روسيا أراضيَ خارج حدودها انطلاقاࣧ من واجب احترام قواعد القانون الدولي، وفي الوقت نفسه عدم الاكتراث بمصير المدنيين في غزة والسكوت عن ضم إسرائيل أراضيَ عربية.

ختاماً، سلطت الحرب في غزة الضوء على الانقسام المتزايد بين الغرب ودول الجنوب، وأظهرت إلى أي مدى أصبحت عزلة الغرب واضحة. وكان المفكر الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي Thomas Piketty قد حذر مؤخراً من أن استمرار هذه الحرب سيؤدي إلى توسيع فجوة هذا الانقسام أكثر وأكثر، داعياً الغرب إلى الخروج من غطرسته وأخذ دول الجنوب على محمل الجد؛ فهل ستبادر الدبلوماسيات الغربية إلى محاولة فك هذه العزلة التي تشتد عليها يوماࣧ بعد يوم؟ أم ستستمر في سياسة العمى الاستراتيجي؟

كيف أثرت حرب غزة على الدبلوماسية الغربية؟