د. حمدي بشير

تتزايد المخاوف بشأن تنامي حدة التوترات بين الجزائر ومالي، إلى الحد الذي دفع صحيفة "لوبينيون" الفرنسية، في 1 سبتمبر 2024، إلى التأكيد على أن العلاقات بين الجزائر ومالي قد وصلت إلى مستويات متدنية للغاية، بل وإلى درجة الاحتكاك العسكري المباشرـ وهو ما يثير التساؤلات حول أسباب تصاعد التوتر على الحدود بين البلدين.عوامل عديدةيمكن القول إن هناك جملة من العوامل التي تقف وراء زيادة التوترات الحدودية بين الجزائر ومالي، ومن أبرزها:1- التحركات العسكرية المالية بالقرب من الحدود الجزائرية: تشير التقارير إلى قيام الجزائر بإرسال طائرة مقاتلة من طراز "سوخوي" في مهمة تحذيرية قُرب الحدود المالية بعد أن رصدت طائرة مسيرة من طراز "بيرقدار تي بي 2" تستخدمها القوات المالية، والتي كانت تُحلق بالقرب من الحدود الجزائرية. وتشهد العلاقات الجزائرية المالية توترات متنامية منذ بدء العملية العسكرية للجيش المالي بالقرب من الحدود مع الجزائر، وتُبدي الجزائر قلقاً متنامياً إزاء التحركات العسكرية المالية في المنطقة، وتعتبر أن هذه التحركات بمثابة "استفزازات" مقصودة من جانب مالي. وربما تعود هذه التحركات العسكرية المالية بالقرب من الحدود الجزائرية إلى تزايد الشكوك المالية من تصاعد أنشطة أجهزة الاستخبارات الجزائرية في شمال مالي.2- المواجهات الدبلوماسية المتنامية داخل أروقة الأمم المتحدة: طالب ممثل مالي في مجلس الأمن بإصدار عقوبات ضد باماكو بعد هجومها على تجمعٍ سكني، في 25 أغسطس 2024. كما طلبت الجزائر من الأمم المتحدة اتخاذ إجراءات ضد مرتزقة مجموعة "فاجنر" الروسية المتواجدين في مالي، متهمةً إياهم بالوقوف وراء الهجمات الأخيرة التي أسفرت عن مقتل أكثر من 20 شخصاً معظمهم من المدنيين في شمال مالي، وهو ما نفته مالي عبر ممثلها في الأمم المتحدة متهمةً الجزائر بنشر "أخبار زائفة" حول الوضع في البلاد.3- التوترات السياسية المتصاعدة بين البلدين منذ مطلع 2024: زادت التوترات السياسية بين البلدين منذ أن قررت مالي إلغاء اتفاق السلام الذي تم بوساطة دبلوماسية مع الحركات الانفصالية في شمال مالي في عام 1994، كما طلبت باماكو من الجزائر التوقف عن التدخل في شؤونها الداخلية، وهو ما أعقبته اتهامات متبادلة بين الطرفين. ويعود تصاعد هذه التوترات السياسية إلى القلق المالي المتنامي حيال العلاقات بين الجزائر وعناصر من الحركات الأزوادية التي تُقيم في الجزائر. ناهيك عن علاقة الجزائر برجل الدين محمود ديكو الذي استقبلته الجزائر مطلع عام 2024.4- مخاوف الجزائر من تداعيات الأزمة في مالي على استقرارها: تخشى الجزائر من أن تؤدي الأزمة المتصاعدة في مالي ومنطقة الساحل إلى زيادة تدفق النازحين والمهاجرين إليها، وهو ما قد يؤدي إلى تفجُّر الوضع بشكل أكبر، مما قد يتسبب في أزمة هجرة جديدة. فيما تعاني الجزائر حالياً من أزمة مع النيجر بعد طردها الآلاف من المهاجرين. ناهيك عن انتشار الجماعات الطوارقية والأزوادية في جنوب الجزائر. وقد يدفع هذا الصراع المتنامي في شمال مالي هذه الجماعات الطوارقية للانخراط في الصراع وتقديم الدعم للحركات الأزوادية. ولذلك هناك مخاوف جزائرية من أن يمتد هذا الصراع إلى داخل الأراضي الجزائرية من أجل مطاردة الحركات الأزوادية، على غرار ما حدث في موريتانيا عندما قامت قوات فاجنر والقوات المالية باختراق الحدود الموريتانية، وبررت ذلك بمطاردتها للمتمردين.تداعيات محتملةمن المتوقع أن يكون لتصاعد التوتر على الحدود الجزائرية المالية تداعياته على التفاعلات في المنطقة، وذلك على النحو التالي:1- تصاعُد التوترات الجزائرية-الروسية: رغم العلاقات الاستراتيجية المتنامية بين البلدين. لكن تواجه الجزائر أزمة محتملة في علاقاتها مع موسكو بسبب الاتهامات المبطنة والموجهة لمجموعة "فاجنر"، وبينما تسعى روسيا لتعزيز حضورها في الساحل، ترى الجزائر أن التحركات الروسية تمثل تهديداً لاستقرار المنطقة. وتضع الأزمة في شمال مالي الجزائر في اختبار صعب بسبب اختلاف الرؤى الجزائرية والروسية تجاه العديد من الملفات الإقليمية، فالجزائر ليست على وفاق تام مع السياسة الروسية في منطقة الساحل. وبالمثل، فإن الجزائر ليست على وفاق مع السياسة الروسية في ليبيا، وكان هذا واضحاً عندما اتجه الجيش الليبي لدفع قواته للتحرك في اتجاه الجنوب الغربي الليبي بالقرب من الحدود الجزائرية، وهو ما رأت فيه الجزائر تهديداً للاستقرار من جانب أحد حلفاء روسيا في المنطقة، خاصة أن هذا التحرك الليبي جاء متزامناً مع تصاعد الصراع في شمال مالي، ووضعت تحركات الجيش الليبي العلاقات الروسية الجزائرية على المحك.2- تكثيف الضغوط الخارجية على الجزائر: من المحتمل أن تؤدي زيادة التوترات بين روسيا والجزائر إلى زيادة الضغوط الخارجية وفرض المزيد من عزلة الجزائر، وخاصة في ظل توتر العلاقات الجزائرية مع عدد من الدول الغربية مثل فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة، وخاصةً مع اتجاه هذه الدول لتعزيز علاقاتها مع المغرب في ظل تصاعد الصراع الجزائري المغربي على الصحراء المغربية، ودعم هذه الدول المغرب ومبادرة الحكم الذاتي المغربية في إقليم الصحراء، وهو الأمر الذي يزيد من مستوى الضغوط الدولية وضيق خياراتها في التعامل مع الأزمة في مالي.3- توسُّع النفوذ المغربي في الساحل الأفريقي: يؤدي تصاعد التوتر في العلاقات الجزائرية المالية إلى زيادة توجه مالي إلى تعزيز علاقاتها مع المغرب، حيث ترى مالي أن الجزائر يتبنى سياسة خارجية متوازنة تجاه دول الساحل، على عكس الجزائر التي تعمل على زيادة تدخلاتها في الشؤون الداخلية لدول المنطقة. وقد انضمت مالي مؤخراً إلى المبادرة الأطلسية التي طرحها المغرب من أجل منح دول الساحل تسهيلات للوصول إلى المحيط الأطلسي، ما دفع الجزائر إلى فرض عقوبات اقتصادية على دول الساحل.4- زيادة التفاهمات الروسية-المغربية في الساحل: من المتوقع أن تُعزز الخلافات الروسية الجزائرية من التفاهمات الروسية المغربية في منطقة الساحل، وخاصةً في ظل التحركات الروسية المتنامية لتحسين العلاقات مع المغرب وتبني سياسة متوازنة حيال الصراع الجزائري المغربي، بما يضمن الحفاظ على علاقات مستقرة مع البلدين، لكن الخلافات المكتومة بين روسيا والجزائر في منطقة الساحل قد تدفع روسيا والمغرب إلى تنسيق مواقفهما بشكل متزايد في المنطقة.5- تعزيز الدعم الجزائري للحركات الأزوادية: تشير بعض التقارير إلى أن الجزائر تحافظ بالفعل على علاقات قائمة مع الحركات الأزوادية، وتستضيف بعض القيادات الأزوادية على أراضيها، لذلك من المتوقع أن يؤدي التوتر المتصاعد على الحدود الجزائرية المالية إلى اتجاه الجزائر نحو زيادة دعمها السياسي والعسكري غير المباشر للحركات الجزائرية. وقد وجهت الحكومة المالية في أكثر من مناسبة اتهاماتها للحكومة الجزائرية بتقديم الدعم للتنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة في شمال مالي عبر جهاز الاستخبارات الجزائري.6- احتمالية حدوث تقارب بين الجزائر وأوكرانيا: أكدت العديد من تقارير الرصد الدولية وجود انخراط أوكراني بالفعل في الصراع المالي بعد اعترافات مسؤولين أوكرانيين بأن الأجهزة الاستخباراتية الأوكرانية قدّمت دعماً لوجستياً وعسكرياً للحركات الأزوادية لدعمها ضد الجيش المالي المدعوم من مجموعة "فاجنر". لذلك من المتوقع أن تعمل أوكرانيا على استثمار أي توتر في العلاقات الروسية الجزائرية من أجل تعزيز علاقاتها مع الجزائر في سياق الاستراتيجية الأوكرانية التي تعمل على التصعيد ضد العمليات الروسية في الخارج.مراجعة التحالفاتوإجمالاً، يمكن القول إن تصاعد التوترات بين الجزائر ومالي قد تكون لها تداعياتها على إعادة صياغة خريطة التفاعلات في منطقة الساحل، فبينما تتصاعد الخلافات بين الجزائر ومالي في منطقة الساحل، تتزايد التفاهمات الروسية المغربية في المنطقة. وبرغم أن الخلافات المحتملة بين روسيا والجزائر قد تزيد من عزلة الجزائر في ظل علاقاتها المتوترة مع العديد من القوى الغربية مثل فرنسا التي اتجهت مؤخراً لتعزيز علاقاتها مع المغرب، لكن الخلافات مع روسيا قد تفتح المجال لتفاهمات جزائرية أوكرانية في منطقة الساحل، وخاصةً مع تزايد انخراط أوكرانيا في الصراع المالي ضد "فاجنر" الروسية في ظل رغبة أوكرانيا المدعومة من الدول الغربية في نقل الحرب الروسية الأوكرانية إلى ساحات أخرى، بما في ذلك منطقة الساحل الأفريقي، ما يعني أن تصاعُد التوترات الجزائرية المالية قد تكون له تداعياته الإقليمية والدولية، التي تدفع الجزائر إلى مراجعة حساباتها وعلاقاتها في المنطقة.

لماذا تصاعد التوتر على الحدود الجزائرية-المالية؟