عمار ياسين

أظهرت النتائج الأولية للانتخابات التشريعيّة في النمسا، فوز حزب الحُرية اليميني "FPÖ" بقيادة هربرت كيكل بالمركز الأول بنسبة 29.2% لأول مرة في تاريخه، متفوقاً على حزب الشعب النمساوي الذي حصل على نسبة 26.5% فيما حلّ الحزب الاشتراكي الديمقراطي المنتمي إلى يسار الوسط على 21% من جملة الأصوات. يأتي فوز حزب الحرية بالانتخابات التشريعية النمساوية بعد نحو ثلاثة أشهر فقط من فوزه في انتخابات البرلمان الأوروبي، وهو ما يمكن أن يسهم في تغيير الخريطة السياسية للنمسا وتكون له تداعيات داخلية وأخرى متعلقة بديناميات المشهد الأوروبي في ظل صعود اليمين في عديد من البلدان الأوروبية.صعود اليمينثمّة عدد من المؤشرات الدالة على صعود اليمين وتزايد شعبويته في النمسا، قادت في مجموعها إلى ترجيح كفة حزب الحُرية على الرغم من الانتقادات الموجهة إليه بسبب أفكاره المعادية للإسلام والمهاجرين وتوجهات زعيمه هربرت كيكل، الأكثر حدة وإثارة للجدل حتى مع خصومه السياسيين في الداخل النمساوي، وهي على النحو التالي:1- فوز حزب الحُرية لأول مرة في انتخابات البرلمان الأوروبي: في مطلع يونيو 2024، صوّت ما يقرب من 400 مليون ناخب في انتخابات البرلمان الأوروبي لانتخاب 720 عضواً في البرلمان، استطاع حينها حزب الحُرية النمساوي (FPÖ) الحصول على 25.4% من الأصوات، ليتصدر الانتخابات الأوروبية في البلاد لأول مرة في تاريخه. فيما حلّ حزب الشّعب النمساوي ÖVP)) ثانياً في تلك الانتخابات بنسبة 24.5%. كان حزب الحرية قد فاز بثلاثة مقاعد فقط في البرلمان الأوروبي في دورته السابقة في عام 2019، وهو رقم تضاعف في التشكيل الجديد للبرلمان الأوروبي.2- مُحافظة حزب الحُرية على تصدره في استطلاعات الرأي: خلال الأشهر التالية على انتخابات البرلمان الأوروبي، واصل حزب الحُرية النمساوي تصدره لاستطلاعات الرأي بنسب تراوحت بين 27-29%، وبفارق حوالي 3% عن حزب الشعب النمساوي المحافظ، بينما حافظ الحزب الديمقراطي الاجتماعي من يسار الوسط على المركز الثالث بنحو 21%، وهو الترتيب ذاته الذي كشفت عنه نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة فيما يخص ترتيب الأحزاب الثلاثة الحائزة على المراكز الأولى، مع فارق بسيط في النسب المئوية.3- كسب حزب الحُرية للكُتلة التصويتية الحرجة: استطاع الحزب بقيادة هربرت كيكل منذ عام 2021 إظهار قدرة كبيرة على مخاطبة الجماهير، والتعاطي مع القضايا الأكثر إلحاحاً بالنسبة للداخل النمساوي، ويأتي على رأسها قضايا الهجرة وكف الدعم عن أوكرانيا ومواصلة الاعتماد على الغاز الروسي، فضلاً عن تعاطي الحزب بصورة سريعة وبنّاءة مع الأزمات العارضة، ومنها الفيضانات الأخيرة التي عمت أجزاء من النمسا في أول شهر سبتمبر، حيث طالب الحزب حينها بتقديم تعويضات عاجلة للولايات النمساوية الأكثر تضرراً وعلى رأسها ولاية النمسا السفلى، وللأفراد والمحال المتضررة، فضلاً عن المطالبة بحساب فترة الغياب عن العمل بسبب موجة الفيضانات فترة عمل مدفوعة الأجر، وهو ما جعله يُحافظ على كسب كُتلة تصويتية حرجة وضعته في صدارة المشهد.4- تحقيق حزب الحرية أكبر مكسب في الانتخابات التشريعية: تعتبر النتائج التي حققها حزب الحرية في الانتخابات أكبر نتيجة حققها في تاريخه. ففي الانتخابات السابقة، التي عقدت عام 2019، حصل الحزب على 16.2% من الأصوات، وتأثر الحزب في هذه الانتخابات بالفضيحة التي أسقطت الحكومة آنذاك والتي كان الحزب شريكاً فيها. واستقال نائب المستشار -آنذاك- وزعيم حزب الحرية هاينز كريستيان شتراخه بعد نشر مقطع فيديو مسجل سراً ظهر فيه وهو يعرض خدمات على مستثمر روسي مزعوم.5- رفض نيهامر الدخول في ائتلاف مع كيكل: أبدى المستشار النمساوي كارل نيهامر استياءه من نتيجة الانتخابات وهزيمة حزبه (حزب الشعب)، حيث ذكر أنه يشعر "بالمرارة لأن حزبه لم يحصل على المركز الأول". وفي تأكيد على موقفه الرافض الدخول في ائتلاف مع هربرت كيكل، ذكر نيهامر: "ما قلته قبل الانتخابات، أقوله أيضاً بعد الانتخابات". وعادة ما يصف نيهامر كيكل بأنه "خطر أمني" على البلاد، لكنه لم يستبعد تشكيل ائتلاف مع حزب الحرية نفسه، وهو ما يعني ضمناً تخلي كيكل عن منصبه في الحكومة، لكن هذا يبدو مستبعداً مع احتلال حزب الحرية المركز الأول، وطموحات كيكل لتولي رئاسة الحكومة. تداعيات مُحتملةثمة عدد من التداعيات المُحتملة المُرتبطة بفوز حزب الحُرية اليميني بالانتخابات التشريعيّة في النمسا، وهي بطبيعة الحال تداعيات داخلية وأخرى متعلقة بديناميات المشهد الأوروبي على النحو التالي:1- أزمة تشكيل الحكومة الجديدة في النمسا: جرت العادة في النمسا أن يتم تسمية زعيم الحزب الحاصل على أعلى نسبة في نتائج الانتخابات التشريعيّة، مُستشاراً جديداً للبلاد، وهو ما تم مع المُستشار النمساوي المُنتهية ولايته كارل نيهامر عقب الانتخابات التشريعية في 2019. إلا أنه في ظل صعود اليمين المتطرف في النمسا ووجود شخصية مثيرة للجدل مثل هربرت كيكل، لا يتوقع أن تسير الأمور بهذه الوتيرة الطبيعية. حيث تعتبر قيادة كيكل للبلاد هاجساً معلناً لدى المؤسسات السياسية النمساوية، وذلك بعدما أكد كل من الرئيس النمساوي ألكسندر فان دير بيلين والمستشار المنتهية ولايته كارل نيهامر، في وقت سابق، أنهما لن يتعاونا مع كيكل حال فوز حزبه في الانتخابات.وبالإضافة لذلك، فإن الأحزاب السياسية على اختلاف توجهاتها تخشى هي الأخرى التعاون والدخول في ائتلاف مع حزب الحرية ومع هربرت كيكل على وجه التحديد. يأتي ذلك في الوقت الذي يتعين على حزب الحُرية أن يأتلف ثنائياً أو بصورة ثلاثية مع أحزاب أخرى، ليكمل معها النصاب القانوني اللازم لتشكيل الحكومة، بحوز الأغلبية المُطلقة بنسبة 50% +1 كحد أدنى.2- التوترات المحتملة بسبب أجندة الحزب بخصوص إعادة المُهاجرين: في إطار سعي حزب الحرية إلى تحقيق أجندة "النمسا أولاً" يدعم الحزب ما يسمى بـ"إعادة المهاجرين" وتعني إعادة الأشخاص إلى البلدان التي جاءت منها عائلاتهم في الأصل، وخاصّةً أولئك الذين طالتهم مخالفات قانونية، وذلك خلافاً لتوجه الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي يريد أيضاً إعادة توزيع طالبي اللُّجوء، لكن على نحو يُثقل كاهل النمسا بدرجةٍ أقل.وفي حال نجاح حزب الحرية في تسوية التحدي الخاص بالمُستشارية وتسمية شخص رئيس الحكومة الجديد، من المتوقع أن يسعى بصورة جادة لتحقيق هذا الهدف باعتباره على رأس أولويات أجندته السياسية، يأتي ذلك في الوقت الذي تستضيف فيه النمسا فقط حوالي 146 ألف لاجئ وآخرين من حملة صفة الحماية الفرعية، وأكثر من 18 ألف طالب لجوء، ويُشكّل السُّوريّون مُعظم اللاجئين بحوالي 58 ألف لاجئ، يليهم الأفغان بحوالي 41 ألف لاجئ، وهم أيضاً في صدارة الجنسيات الأولى من حيث طالبي اللُّجوء.وبالإضافة إلى تركيز كيكل في حملته الانتخابية الأخيرة على الدعوة لترحيل المهاجرين، فهو يطالب برنامج حزبه أيضاً في حال استطاع التغلب على العوائق وتشكيل الحكومة أن يتضمن الدّفع نحو سن تشريعات جديدة من شأنها منع اللاجئين من الحصول على أي خدمات اجتماعية، ومنعهم كذلك مدى الحياة من الحصول على الجنسية النمساوية.3- معضلة التعامل مع طموحات هربرت كيكل: لم يحصل حزب الحرية على النصاب القانوني اللازم لتشكيل الحكومة الجديدة بإرادة منفردة وهي الأغلبية المُطلقة 50% +1 ومن ثم سيتعين عليه إيجاد أحد بديلين، البديل الأول هو التحالف مع جميع الأحزاب الأخرى بدءاً من المركز الرابع، التي كونت معاً حوالي 25% من إجمالي نسب التصويت في الانتخابات الأخيرة، مثل حزب البيرة وحزب غزة وحزب الخضر وغيرهم، وتشكيله معهم بصورة تشاركية للحكومة الجديدة، وهو أمر غير ممكن تحقيقه في الواقع.أما الخيار الثاني الذي سيتحتم على حزب الحرية أن يختاره أو يتحمل تبعة تفويته، فهو تخليه عن رغبته في تسمية هربرت كيكل مستشاراً جديداً للبلاد خلفاً لنيهامر، وذلك بسبب حالة الرفض المؤسسي والحزبي تجاه شخص كيكل، وحينها سيستطيع الحزب التحالف مع أي من حزبي الشعب النمساوي أو الحزب الاشتراكي الديمقراطي واستكمال النصاب القانوني لتشكيل الحكومة الجديدة. وهو خيار صعب بطبيعة الحال إلا أنه أيسر من سابقه، بحيث سيحافظ من خلاله على مُكتسباته التاريخية المتمثلة في فوزه بالانتخابات الأوروبية والوطنية على حد سواء، بدلاً من أن يدفع حزب الشعب والحزب الاشتراكي الديمقراطي لعمل ائتلاف ثلاثي مع حزب صغير بعيداً عنه.4- إمكانية عرقلة مساعي ضم أوكرانيا للاتحاد الأوروبي: نجاح حزب الحرية اليميني في التواجد على رأس الحكومة المقبلة، حتى ولو من خلال تسمية شخص آخر خلافاً لهربرت كيكل، من شأنه عرقلة المساعي الأوروبية في ضم أوكرانيا للاتحاد الأوروبي خلال الدورة البرلمانية الحالية والتي ستستمر حتى عام 2029 وذلك لصلة حزب الحرية بروسيا، واعتماد أجندة الحزب على تعزيز العلاقات النمساوية-الروسية، وتحييد العلاقات النمساوية-الأوكرانية. 5- احتمالية تحييد النمسا عن المشروعات الأوروبية: قد يفضي صعود حزب الحرية إلى تحييد النمسا وإبعادها عن المشروعات الأوروبية، حيث عارض كيكل بشدة مبادرة الدرع الجوي الأوروبية (European Sky Shield initiative) واصفاً إياها بأنها تهديد لحياد النمسا. وبطبيعة الحال يؤدي موقف الحزب الإيجابي من العلاقات مع روسيا إلى احتمالية تزايد التوترات بين النمسا والاتحاد الأوروبي. 6- دعم روسيا والوقوف بجانب حركات اليمين المتطرفة في أوروبا: تشكيل حزب الحرية اليميني للحكومة الجديدة ولو بصورة تشاركية، من شأنه توجيه الدعم لروسيا في صراعها الممتد مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وذلك انطلاقاً من رؤية الحزب بأن العقوبات الدولية المفروضة على روسيا تضر بالنمسا أكثر من إضرارها بروسيا، فضلاً عن دعم حركات اليمين المتطرفة في كل من إيطاليا وألمانيا وفرنسا وهولندا، وبالتالي ستكون وحدة الصف الأوروبي على المحك.7- تصدير مُشكلات اللاجئين إلى الدول الأوروبية المجاورة: من الممكن أن تعتبر النمسا في ظل حكومة جديدة يقودها اليمين المتطرف، دولة طاردة للاجئين ومضيّقة على الجاليات الأجنبية بصفة عامة، وهو ما يمكن أن يساهم في تصدير مُشكلات اللاجئين إلى الدول المجاورة، وعلى رأسها ألمانيا وسويسرا.في المُجمل، ستواجه الحكومة النمساوية المقبلة اقتصاداً على وشك الانكماش للعام الثاني على التوالي، وتضخماً تجاوز حدود المتوسط في الاتحاد الأوروبي، مما يُضفي أهمية خاصة على المباحثات الداخلية الخاصة بتشكيل الحكومة الجديدة. الأمر الجدير بالملاحظة، هو أنه وعلى الرغم من تأثير الدومينو في حالة صعود حركات اليمين المتطرفة في أوروبا، إلا أن صعود اليمين في النمسا قوبل بمناوأة مؤسسية وحزبية خففت نوعاً ما من التداعيات المحتملة التي كانت ستصاحب حصوله على النصاب القانوني اللازم لتشكيل الحكومة الجديدة بإرادة مُنفردة، وهو ما سيدفع حزب الحرية لكبح جماح هربرت كيكل وتقديم شخصية أخرى مقبولة لرئاسة الحكومة، أو الإصرار على تسمية كيكل رغم احتمالية أن يُفضي به ذلك إلى الوقوع في الهاوية.

دلالات فوز اليمين المُتطرف بالانتخابات التشريعية في النمسا