د. يوسف داوود

أعلن البيت الأبيض يوم 4 ديسمبر 2023 عن استعداد الولايات المتحدة لتشكيل "قوة عمل بحرية" Maritime Task Force&nbsp;من عدد من الدول؛ لمرافقة السفن التجارية المارة في البحر الأحمر؛ وذلك بعد يوم واحد فقط من استهداف ثلاث سفن – قال الحوثيون إنها مملوكة أو مرتبطة بإسرائيل – بصواريخ أطلقت من اليمن. في السياق ذاته، صرح مستشار الأمن القومي جيك سوليفان بأن الولايات المتحدة تجري محادثات نشطة مع الحلفاء حول تدشين قوة متعددة الجنسيات هدفها حماية حركة الملاحة في البحر الأحمر، واصفاً ذلك بـ"رد الفعل الطبيعي" على ما تتعرض له السفن التجارية في البحر الأحمر. وبالرغم من أن تفاصيل هذا المقترح لم تتبلور بالشكل الكافي، فإنه يعكس في جانب رئيسي منه مخاوف أطراف دولية وإقليمية مختلفة من تعرض حركة الملاحة العالمية في البحر الأحمر لتهديدات حادة.قوة بحرية فيما يلي أهم الأبعاد والخصائص المبدئية لمقترح تشكيل الولايات المتحدة قوة عمل بحرية في البحر الأحمر للتصدي للتهديدات المتزامنة مع استمرار الحرب الحالية في غزة:1- توسيع قاعدة الدول المشاركة: بالرغم من عدم الإعلان عن أسماء الدول التي يتم التفاوض معها الآن لتشكيل قوة العمل البحرية، فإنه من المتوقع أن يكون نطاق التفاوض والتنفيذ واسعاً وشاملاً؛ فمن المقرر أن يضم التفاوض الدول المشاطئة للبحر الأحمر، وعلى رأسها السعودية ومصر، بالإضافة إلى دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، فضلاً عن دول الناتو للاستفادة من أصولها العسكرية.لذا قد تجمع هذه القوة البحرية 39 دولة كما صرح "جون كيربي" المتحدث باسم البيت الأبيض، ولكن مع تفاوت نسبة مساهمة كل دولة في المعدات والأسلحة البحرية وفقاً لدرجة ارتباطها بتهديدات البحر الأحمر. يُضاف إلى ما تقدم، أنه يمثل تدشين مقر للقيادة المشتركة لقوة العمل البحرية كارتاً تفاوضياً في يد الولايات المتحدة يمكن استخدامه لإشراك الدول الهامة المترددة.2- التمايز عن القوة البحرية المشتركة: تهدف قوة العمل&nbsp;CTF 153التابعة للقوة البحرية المشتركة Combined Maritime Forces (CMF) –&nbsp;مقرها قيادة الأسطول الخامس الأمريكي في البحرين – إلى حماية منطقة الخليج العربي من أعمال القرصنة والاتجار غير المشروع في المخدرات وغيرها من التهديدات التي قد يفرضها عدد من الفاعلين من غير الدول على اتساع الخليج العربي والبحر الأحمر.أما القوة المقترحة، فهدفها حماية السفن في منطقة البحر الأحمر ومضيق باب المندب خاصةً، وهي بذلك تكون موجهة بصورة خاصة ضد الحوثيين في اليمن، وإن كانت التفاصيل الأدق ستوضح إذا ما كانت قاصرة على هذا النطاق أم تمتد لما هو أبعد من ذلك.3- التركيز على الدفاع الجوي: كان من الملاحظ أن هجمات الحوثيين التي استهدفت السفن قد استخدمت إما الصواريخ أو المسيرات لذلك الغرض، وهي التهديدات التي تختلف جذرياً في طبيعتها عن هجمات القرصنة أو النهب التي تتم بقوارب أو سفن صغيرة. من هنا، من المرتقب أن تتكون القوة المشتركة بالأساس من فرقاطات حديثة مجهزة بأسلحة دفاع جوي للتصدي لهذا النوع من التهديدات، وقد أسقطت بالفعل الفرقاطات الأمريكية والفرنسية عدداً من المسيرات التي استهدفت إسرائيل من اليمن .4- محاكاة النماذج القائمة: يسعى التصور الأمريكي المبدئي إلى إرسال تطمينات للدول الشريكة المنخرطة في هذه الترتيبات عن طريق تأكيد وجود نماذج مشابهة لهذا النمط من القوات البحرية المتعددة الجنسيات، بل منها ما هو قائم على مستوى أضيق في البحر الأحمر نفسه. وقد ضرب "سوليفان" مثالاً بقوة العمل القائمة التي تهدف إلى حماية سواحل الصومال .5- اتباع نمط مرافقة السفن: بخلاف المياه الإقليمية للدول المشاطئة للبحر الأحمر التي تعتبر جزءاً أصيلاً من نطاق حمايتها العسكرية، تواترت الأنباء بشأن تركيز التصور الأمريكي لهذه القوة على فكرة مرافقة السفن التجارية المارة في المناطق البحرية الأخرى من قبل سفن حربية مجهزة للتصدي للتهديدات ذات الصلة.هذا وإن كانت الفكرة في ظاهرها تشير إلى أن هذه الطريقة تعتبر الأكثر أماناً بالنسبة إلى السفن، إلا أنها تنطوي على عدد من التعقيدات اللوجستية ذات الصلة بحركة مرور السفن وتكدس الممر الملاحي الضيق أصلاً، فضلاً عن احتمالية تداخل السفن الحربية المنوط بها عمليات التأمين مع مجال السيادة المطلق للدول المشاطئة.اعتبارات سياسية ينطوي المقترح المشار إليه على مجموعة من الاعتبارات السياسية الشارحة للدوافع الأمريكية من وراءه، والتبعات المحتملة حال تطبيقه؛ وذلك كالتالي:1- تأكيد واشنطن التزامها بأمن إسرائيل في إطار جماعي: منذ بداية الحرب الحالية في غزة، أظهرت الولايات المتحدة دعمها الواضح لإسرائيل سياسياً وعسكرياً، وخاصة عن طريق إرسال حاملتي الطائرات "جيرالد فورد" و"أيزنهاور" إلى المنطقة؛ لضمان عدم اتساع الصراع ليشمل أطرافاً أخرى. وبتدشين قوة العمل البحرية المشار إليها، فإن الولايات المتحدة تهدف إلى تأكيد التزامها بأمن إسرائيل في إطار جماعي يحقق لها عدداً من الأهداف كالتالي: حشد دول المنطقة وراء هدف حماية أمن البحر الأحمر كستار لحماية أمن إسرائيل، وعدم تحمل فاتورة العمليات العسكرية الدفاعية بمفردها، وتجنب المواجهة العسكرية الثنائية مع ميليشيا الحوثي؛ لما قد تسببه من ضرر على صورة واشنطن حال تكبد الأخيرة خسائر جوهرية.2- منع إسرائيل من تنفيذ أي عمل عسكري موسع ضد الحوثيين: بالرغم من مساندة واشنطن الراسخة لإسرائيل، فإنه توجد لديها تخوفات حقيقية من ردود فعل حكومة "نتنياهو" على مثل هذه التهديدات في ظل حالة الغليان العامة المسيطرة على أروقة صنع القرار في تل أبيب؛ لذلك، ومنعاً لانخراط إسرائيل في عمليات أخرى موسعة في اليمن بما يحول مخاوف واشنطن إلى واقع ملموس، سارعت واشنطن إلى الإعلان عن التفاوض حول هذه القوة بعد يوم واحد من استهداف السفن الثلاث التي أعلنت ميليشيا الحوثي تبعيتها لإسرائيل.3- حماية شحنات النفط عبر البحر الأحمر: في ظل أزمة تضخم عالمية، تخشى الولايات المتحدة من تعرض طرق تجارة النفط الرئيسية لاختلالات من شأنها رفع التضخم بصورة أكبر، خاصةً أن الولايات المتحدة مقبلة على استحقاقات انتخابية رئاسية وبرلمانية في نوفمبر 2024. وتعرض هجمات الحوثيين حركة المرور في أحد أكثر ممرات الشحن الحيوية في العالم للخطر ومعها التجارة العالمية بوجه عام؛ فوفقاً لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية، يتم شحن 8.8 مليون برميل من النفط يومياً عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب إلى أوروبا والولايات المتحدة والصين؛ ما يجعله أحد أهم نقاط العبور في التجارة العالمية.&nbsp;4- عدم تحمل خسارة أخرى أمام إيران: تقدر الإدارة الأمريكية الحالية أنه ليس بمقدورها تحمل ما قد يصفه البعض بـ"خسارة إضافية" أمام إيران، من شأنها التأثير على صورة إدارة بايدن أمام الرأي العام؛ فبعد التقارب السعودي الإيراني بوساطة صينية، وعقب موافقة إدارة بايدن على الإفراج عن 6 مليارات دولار من الأصول الأمريكية المجمدة (قبل التراجع عن القرار)، وعلى إثر هجوم حماس على إسرائيل، تتخوف واشنطن بصورة كبيرة من نجاح الحوثيين في عرقلة حركة ملاحة السفن الأمريكية أو الإسرائيلية في البحر الأحمر؛ ما يضيف إلى سجل هزائمها المتتالية من إيران.كما تقدر واشنطن أن القوة المتعددة الجنسيات من شأنها المساعدة في تجنب وضع الولايات المتحدة في سيناريو المواجهة المباشرة المنفردة مع الحوثيين، التي قد تضطرها إلى القيام بعملية عسكرية منفردة في اليمن – على غرار العراق وأفغانستان – وهو بالطبع آخر ما تتمناه الولايات المتحدة في الظرف الراهن.5- المساهمة في سياسة الضغوط على إيران وأذرعها: انطلاقاً من النقطة السابقة، تحاول الولايات المتحدة من وراء تدشين هذه القوة تشديد سياسة الضغوط والتطويق التي تتبعها تجاه إيران منذ اندلاع الحرب في غزة؛ فقد أعلنت وزارة الخزانة يوم 7 ديسمبر 2023 عن فرض عقوبات على 13 فرداً وكياناً مسؤولين عن تقديم الأموال للحوثيين في اليمن ، بما يؤدي إلى عزل أولئك الذين يسهلون هجمات الحوثيين، كما أعلن البيت الأبيض أن هذا الإجراء سيتبعه فرض عدد آخر من العقوبات على الحوثيين والحرس الثوري الإيراني – فيلق القدس – كاستكمال للعقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة بالفعل منذ 7 أكتوبر.6- محاولة تحذير الحوثيين من توسيع هجماتهم: يستهدف مقترح قوة العمل البحرية من جانب واشنطن إرسال رسائل تحذيرية إلى الحوثيين من توسيع هجماتهم في البحر الأحمر، وهو أمر بات مرجحاً عقب إعلان ميليشيا الحوثي، يوم 9 ديسمبر الجاري، أنها ستمنع مرور السفن المتوجهة إلى الموانئ الإسرائيلية عبر البحر الأحمر ما لم يتم إدخال الأغذية والأدوية إلى قطاع غزة.الخلاصة: لا يزال الطرح الأمريكي بشأن تدشين قوة عمل بحرية لحماية البحر الأحمر غير متبلور بالشكل الكافي، ولكن تحمل إرهاصاته في طياتها قدراً من العجلة الأمريكية التي تؤشر بوضوح على وجود تخوفات ملموسة من اتساع نطاق الصراع الحالي بشكل قد لا يمكن ضبطه. وفي الوقت الذي تبدو فيه الفكرة غير جديدة ومتربطة بالملاحة في البحر الأحمر، فإن ارتباطها عضوياً بالرغبة الأمريكية في الحفاظ على أمن إسرائيل، واستمرار واشنطن في رفضها لكافة دعوات وقف إطلاق النار، قد يجعل بعض الدول العربية المدعوة مترددة في الاستجابة السريعة – أو الاستجابة أصلاً – لهذا المقترح.

دلالات طرح واشنطن مقترح قوة عمل بحرية في البحر الأحمر