على مدار السنوات الثلاثة الماضية، عانت السوق الصينية للأوراق المالية من اضطرابات شبه مستمرة، كان أبرزها التصفية الأخيرة لعملاق التطوير العقاري إيفرجراند المثقل بالديون؛ وذلك على خلفية أزمة العقارات التي أثرت على معنويات المستهلكين، وعرقلت فرص الانتعاش من تداعيات جائحة كوفيد–19. ونتيجة لذلك، انخفض مؤشر شنجهاي للأسهم في الصين بأكثر من 21 %، وانخفضت بالتبعية تقييمات الأسهم الصينية.

واستكمالاً لحالة الانهيار في السوق الصينية للأوراق المالية خلال السنوات الأخيرة، شهد الأسبوع الأول من شهر فبراير سلسلة انخفاضات متتالية في السوق، أثرت بدورها على معنويات المستثمرين، وأثارت غضب العديد من الصينيين؛ ما دفع الحكومة إلى اتخاذ جملة من الإجراءات في سبيل تصحيح الأوضاع ووضع حد للخسائر القياسية التي تكابدها السوق منذ عام 2021؛ وذلك بعد جولة من الوعود الحكومية لتحقيق الاستقرار في سوق الأسهم الصينية قبل ذلك بأسبوع. وإن كان قد ترتب على ضخ الحكومة الصينية في السوق سيولة مالية من قبل صندوق الثروة السيادية، ارتفاع في قيمة الأسهم الصينية، إلا أنه لا تزال الشكوك قائمة حول مدى كفاءة الإجراءات الحكومية في إحداث إصلاح حقيقي لسوق الأسهم الصينية على المديين المتوسط والبعيد.

أبعاد الأزمة

ثمة أبعاد رئيسية وأسباب مؤدية إلى حدوث أزمة حقيقية في سوق الأوراق المالية الصينية على مدار السنوات الثلاث الماضية، يمكن الوقوف على أبرزها في إطار ما يأتي:

1– تداعيات انهيار قطاع العقارات الصيني: أدى الانخفاض في قيمة العقارات إلى تقليص صافي ثروة الأسر بالقدر الذي أجبر المستهلكين الصينيين على التراجع عن نفقاتهم، بما في ذلك الإنفاق على السكن؛ ففي شهر يناير 2024، وصلت المبيعات الجديدة إلى أدنى مستوى لها منذ خمس سنوات، بانخفاض يزيد عن 34% على أساس سنوي.

وتشير التحليلات إلى أن الإجراءات الحكومية الرامية إلى إحياء القطاع العقاري الصيني، كانت ذات تأثير ضئيل حتى الوقت الراهن على إصلاح حال القطاع، كذلك تشير المفاوضات بشأن إفلاس مجموعة إيفرجراند الصينية، إلى وجود صراع مستمر بين الدائنين العقاريين، على النحو الذي يدفع المسؤولين المحليين إلى مراجعة تقديرات نمو الناتج المحلي الإجمالي في الدولة، وهو الأمر الذي انعكس سلباً وبطريق مباشر على أداء سوق الأوراق المالية في ظل حالة عدم اليقين السائدة في القطاع العقاري.

2– هجرة التدفقات الأجنبية من أسواق المال الصينية: في الآونة الأخيرة، شهدت سوق الأسهم الصينية هجرة التدفقات الأجنبية من جانب المستثمرين وصناديق النمو الطويلة الأجل التي تشتري الأسهم وتحتفظ بها؛ حيث أضحى المستثمرون الأجانب في الوقت الحالي يفضلون الأسواق الناشئة الأخرى التي تتمتع بآفاق وفرص اقتصادية أفضل ومخاطر سياسية أقل من الصين، مثلما يتجلى في أداء اثنين من مؤشرات مورجان ستانلي لرأس المال؛ ما أسفر عن حالة من عدم الاستقرار في سوق الأسهم الصينية.

ففي عام 2023، بلغ صافي التدفقات الأجنبية إلى أسواق الأسهم الصينية 6.1 مليار دولار، وهو المعدل الأدنى منذ عام 2017. أضف إلى ذلك الانخفاضات في المؤشرات الرئيسية في أسواق الصين وهونج كونج مقابل المكاسب القوية التي تمتعت بها الأسواق من طوكيو إلى مومباي حتى نيويورك؛ ما يشير إلى استفادة الأسواق الآسيوية بوجه خاص من هروب الأموال من سوق المال الصينية.

3– السياسات الحكومية المؤثرة على ثقة المستهلك: تعود جذور تراجع أداء سوق الأسهم الصينية خلال السنوات الثلاث الأخيرة إلى السياسات الحكومية التي قوضت ثقة المستهلك، واستنزفت ديناميكية القطاع الخاص، على حد اعتقاد بعض المحللين. ويدلل على ذلك أن مساعي الحكومة الصينية في عام 2020 لتفريغ فقاعة سوق العقارات، كانت بطيئة مقارنة بالانهيار الذي شهده المطورون العقاريون.

أضف إلى ذلك قرار بكين خلال عام 2020، إلغاء الدعم النشط للمباني السكنية على نحو مفاجئ؛ ما أدى إلى التعجيل بإخفاق شركات التطوير العقاري الكبرى. ونظراً إلى تباطؤ بكين في تقديم التعويض اللازم عن التداعيات المالية لهذه الشركات، فإن التمويل الصيني في سوق العقارات، قد فقد قدرته على توفير تدفقات الائتمان اللازمة لدعم النمو به، كما أن حالات التعثر العقاري تسببت في تراجع كبير في شراء المساكن، فانخفضت أسعار العقارات، وتأثرت سوق الأسهم الصينية بالتبعية بالسلب.

4– انخفاضات متتالية في مؤشرات الأسهم الصينية: في مطلع شهر فبراير الجاري، شهدت مؤشرات الأسهم سلسلة انخفاضات متتالية؛ حيث تراجعت أسواق الصين يوم 5 فبراير الجاري، بعد أسوأ أسبوع لها منذ سنوات؛ إذ انخفض أكثر من 1800 سهم في أسواق شنجهاي وشنتشن، بما يمثل ثلث جميع الأسهم المدرجة في الصين.

فبينما انخفض مؤشر CSI 1000 الصيني، في يوم 5 فبراير الجاري، لليوم السابع على التوالي، بنسبة تزيد عن 8 % خلال الساعات الأولى من اليوم، بما يقرب من 400 نقطة ليصل إلى مستوى منخفض عند 4177.94، فإن مؤشر Hang Seng في هونج كونج قد لاقى انخفاضاً في اليوم ذاته بنسبة 0.2%؛ وذلك بعد انخفاضه بنسبة 1.3% في وقت سابق من يوم 5 فبراير الجاري، حتى بلغت مجموع خسائره حتى ذلك اليوم نحو 9%، هذا وقد انخفض مؤشر شنجهاي المركب بنسبة 1% بعد انخفاضه بنسبة 3.5% خلال اليوم نفسه.

فيما تراجعت مؤشرات الأسهم المحلية في أواخر التعاملات؛ حيث انخفض مؤشر(BSE Sensex) بمقدار 354.21 نقطة أو 0.49% إلى 71731.42 نقطة، وتراجع مؤشر (BSE Midcap) بنسبة 0.23%، في حين أنهى مؤشر(BSE Smallcap) تعاملات اليوم منخفضاً بنسبة 0.33%.

5– اتساع خسائر سوق الأوراق المالية الصينية: أدت التقلبات المستمرة في أسواق الأسهم في الصين وهونج كونج وتراجع مؤشرات الأسهم الصينية، إلى اتساع خسائر القيمة السوقية للأسهم الصينية إلى ما يقدر بنحو 6.1 تريليون دولار في الوقت الراهن؛ وذلك منذ انهيار السوق في عام 2021.

6– تعبير الصينيين عن استيائهم من أداء سوق الأسهم المتراجع: بعد أسبوع مُحمل بالخسائر، أججه التراجع الواسع في الأسهم الصينية يوم 5 فبراير الجاري، لجأ قطاع من الصينيين إلى التعبير عن غضبهم بشأن الانهيار المستمر في سوق الأسهم في الدولة؛ وذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ونشروا تعليقات للتعبير عن كم الغضب والإحباط بسبب هزيمة سوق المال في دولتهم.

تدابير حكومية

منذ مطلع عام 2024، اتخذت الحكومة الصينية عدداّ من السياسات والتدابير، بغية تحفيز السوق وتنشيطها. وفيما يأتي يمكن تناول التدابير الحكومية الأخيرة في هذا الصدد:

1– دراسة السلطات إنشاء صندوق استقرار لدعم أسعار الأسهم: في مطلع عام 2024، كشفت السلطات الصينية عن دراستها فكرة إنشاء صندوق استقرار بقيمة نحو 280 مليار دولار لدعم أسعار الأسهم الصينية، باعتبار ذلك جزءاً من الإجراءات الحكومية لإنعاش السوق الصينية وشركات الاستثمار المدعومة من الدولة.

2– تدفقات مالية حكومية إلى سوق الأسهم الصينية: وفق تقرير لبنك أوف أمريكا، فإن سوق الأسهم الصينية قد شهدت تدفقاً بقيمة 6.3 مليار دولار في الأسبوع المنتهي في 31 يناير الماضي، بعد تدفق نحو 12 مليار دولار في الأسبوع السابق له، ليمثل التدفق الأكبر منذ 2015، غير أن ذلك التدفق لم يكن كافياً لإنعاش السوق بالشكل المتوقع، في ظل تجاوز التدفقات الخارجة من المحافظ الصينية 80 مليار دولار في عام 2023، وفقاً لتقديرات معهد التمويل الدولي.

3– إقالة رئيس هيئة مراقبة الأوراق المالية: في ظل حالة عدم اليقين التي خيمت على القطاع المالي في الصين، واضطرار الشركات إلى تقليص الإنفاق والتوظيف وسط خسائر قياسية، تعهد مجلس الوزراء باتخاذ إجراءات أكثر قوة لتعزيز الثقة بالسوق؛ كان أبرزها إقالة الحكومة الصينية، في السابع من فبراير الجاري، رئيس لجنة تنظيم الأوراق المالية "يي هويمان"، واختيار "وو تشينج" بديلاً له، وهو منظم أوراق مالية مخضرم، تولى قيادة بورصة شنجهاي وعمل نائباً رئيسياً في حكومة بلدية شنجهاي.

وهو ما قابلته بهجة خافتة في الأسواق، صاحبها إصرار من قبل المستثمرين على اتخاذ إجراءات أكبر، في سبيل معالجة جذور الأزمة التي تجتاح ثاني أكبر اقتصاد في العالم. ورغم عدم الكشف عن سبب لإقالة يي، فإن تلك الخطوة دفعت محللين ومستثمرين إلى اعتبارها علامة على تكثيف صناع السياسات جهودهم لدعم الأسواق الصينية المتضررة.

4– فرض قيود للبيع على المكشوف: عمدت بكين من ناحية أخرى إلى الحد من البيع على المكشوف لتقليل محفزات تراجع السوق؛ وذلك من خلال فرض قيود على البيع على المكشوف أو تخفيضات تكاليف التداول، فضلاً عن البيانات الحكومية الواعدة بالدعم، وتأثيرها على تحقيق بعض الاستقرار في سوق الأسهم الصينية.

5– توسيع شركة الأسهم المملوكة للدولة حيازتها من الصناديق المتداولة بالبورصة: أعلنت شركة (Central Huijin Investment)، ذراع الأسهم لشركة (China Investment Corp) المملوكة للدولة، يوم 6 فبراير الجاري، أنها قامت مؤخراً بتوسيع حيازاتها من الصناديق المتداولة في البورصة (ETFs) في أسواق الأسهم بالبر الرئيسي.

وصرحت الشركة بأنها ستواصل توسيع ممتلكاتها للحفاظ على عمليات مستقرة في سوق رأس المال. وعلى خلفية ذلك الإعلان، أصدرت لجنة تنظيم الأوراق المالية الصينية بياناً تدعم فيه بقوة خطة شركة (Central Huijin Investment) لمواصلة زيادة حجم ممتلكاتها، على اعتبار أن هذه الخطوة من شأنها أن تشجع مزيداً من المستثمرين المؤسسين، كصناديق الاستثمار المشتركة، وصناديق التقاعد الحكومية، وشركات التأمين على دخول سوق الأسهم.

ردود السوق

أسفر التدخل الحكومي والسياسات الأخيرة التي أطلقتها السلطات الصينية يوم 6 فبراير الجاري، عن عدة تداعيات إيجابية على سوق الأسهم الصينية، يمكن استعراضها على النحو التالي:

1– نمو فوري في الأسهم الصينية: عقب تصريح صندوق الثروة السيادية في الصين، يوم 6 فبراير الجاري، بأنه سيكثف شراء الأسهم، في الوقت الذي يتدافع فيه المسؤولون لوضع حد لاضطراب السوق المستمر منذ ثلاث سنوات؛ نجم عن ذلك ارتفاع في قيمة الأسهم هو الأكبر منذ سنوات؛ إذ ارتفع مؤشر شنجهاي المركب – وهو المؤشر القياسي في البر الرئيسي الصيني للشركات الكبيرة المملوكة للدولة والأسهم القيادية – بنسبة 3.2% في اليوم ذاته، منهياً سلسلة خسائر استمرت ستة أيام، كما مثلت أكبر زيادة يومية منذ مارس 2022.

فيما انتعشت الأسهم الصينية على نحو كبير؛ حيث ارتفع مؤشر شانجهاي المركب (SSEC) بنسبة 1.4% يوم 7 فبراير الجاري، وشهدت الشركات الصغيرة في اليوم ذاته أداءً أفضل؛ حيث ارتفع مؤشر شنتشن المركب بنسبة 6.2%؛ ما مثًَل أفضل مكسب يومي للمؤشر منذ سبتمبر 2015، في حين حقق مؤشر الشركات الناشئة (ChiNext) أفضل أداء له منذ سبع سنوات؛ حيث ارتفع بنسبة 6.7%. وفي هونج كونج، ارتفع مؤشر هانج سنج بنسبة 4%، وهي أكبر زيادة مئوية منذ أكثر من ستة أشهر.

2– تعديل صندوق النقد الدولي تقديرات النمو للصين: فور التدخل الحكومي واتخاذ التدابير والسياسات اللازمة لطمأنة السوق، قام صندوق النقد الدولي بتعديل تقديرات النمو للصين لعام 2024 بنسبة 0.4 نقطة مئوية إلى 4.6%؛ بسبب زيادة الإنفاق الحكومي، وإن كان ذلك المعدل لا يزال أبطأ من النمو في العام الماضي بنسبة 5.2%، غير أنه من وجهة نظر البنك الدولي، بإمكان الصين أن تتعافى أسرع من المتوقع إذا ما أجرت إصلاحات إضافية في قطاع العقارات، كإعادة هيكلة شركات التطوير العقاري المفلسة، أو الإنفاق بدرجة أكبر من المتوقع، لتعزيز ثقة المستهلك.

3– تحقيق سوق الأسهم الصينية مكاسب أسبوعية: مع دخول الأسواق عطلة العام القمري الجديد، ارتفع مؤشر (CSI 300) بنسبة 0.6% في يوم 8 فبراير الجاري، وهو آخر يوم تداول قبل العطلات، لليوم الثالث على التوالي، فيما بلغت المكاسب الأسبوعية نسبة 5% تقريباً، وهي الأعلى منذ 15 شهراً.

فضلاً عن ذلك، شهد صندوق (China Southern CSI 1000 ETF)، الذي يتتبع الأسهم الصغيرة والمتوسطة، تدفقات صافية قدرها 17 مليار يوان بما يعادل 2.38 مليار دولار لأربعة أيام حتى يوم 8 فبراير الجاري، مع تضخم القيمة الإجمالية للأصول بنحو أربعة أضعاف، وفقاً لأبحاث صينية.

4– تجاوب الشركات الصينية مع دعوة الحكومة لتحفيز السوق: على خلفية التحسن الذي شهدته السوق، في أعقاب الإجراءات الحكومية، استجابت الشركات الصينية لدعوة الحكومة لتحفيز السوق؛ وذلك عبر التعهد بتعزيز جودتها؛ حيث صرحت مئات الشركات المدرجة في بورصة شنجهاي، بأنها ستتخذ خطوات لتحفيز سوق الأوراق المالية بناءً على طلب الحكومة، وأنها ستشارك في دعوة الحكومة لدعم سوق الأوراق المالية والاقتصاد ككل؛ وذلك إما من خلال إعادة شراء الأسهم أو جعل أصحاب المصلحة الرئيسيين يزيدون من ممتلكاتهم من الأسهم الصينية، في إشارة إلى تنامي ثقة المستثمرين بالسوق الصينية.

انتكاسة متوقعة

رغم الأصداء الإيجابية التي لاقتها التدابير الحكومية الأخيرة، فإن ثمة تشكيكاً من جانب بعض المحللين في كفاءة تلك الإجراءات، ومدى قدرتها على استدامة الاستقرار والانتعاش في سوق الأسهم الصينية؛ فبينما يذهب محللون إلى القول بأن تلك المرة ليست الأولى التي تقيل فيها الصين رئيس لجنة تنظيم الأوراق المالية من أجل تهدئة اضطراب السوق؛ ما اعتبروها مجرد خطوة لتحقيق بعض الاستقرار والتفاؤل في معنويات السوق دون إيجاد حل جذري للأزمة ومعالجتها على نحو أكثر استدامة؛ اعتبر ليندسي جيمس استراتيجي الاستثمار في شركة كويلتر إنفستورز، أن إجراءات الحكومة غير كافية، وتحتاج إلى بذل المزيد من الجهود لتخفيف مخاوف السوق، فيما رأى آخرون أن تحركات بكين لتعزيز الثقة جاءت متأخرة للغاية.

وهناك اتجاه في الوقت الحالي يشير إلى احتمالية فشل إجراءات الحكومة الصينية في الإبقاء على سوق الأسهم منتعشةً على المديين المتوسط والطويل، خاصة مع بدء موسم العطلات في يوم 10 فبراير الجاري، الذي أفقد ارتفاع مؤشرات الأسهم الصينية زخمه، وسط شكوك بين المستثمرين حول إمكانية استكمال سوق الأسهم الصينية ذلك الانتعاش بعد العطلات، ومدى قدرة الحكومة عامة على اتخاذ تدابير إضافية من شأنها أن تُحدث إصلاحاً جذرياً لمشكلات السوق، بما يضفي قدراً من الاستقرار على سوق الأسهم الصينية المُضطربة منذ ثلاث سنوات.

هل تنجح بكين في إنعاش السوق الصينية للأوراق المالية؟