لماذا تأخر تشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة؟

بعد مرور أكثر من خمسة أسابيع على الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية، لم يقم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حتى الآن بتعيين رئيس جديد للوزراء من أجل تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة التي ستخلف حكومة غابرييل أتال المستقيلة والتي ما زالت تمارس صلاحياتها ضمن نطاق تصريف الأعمال. وعلى الرغم من أن الجبهة الشعبية الجديدة، المحسوبة على اليسار، والتي حلت في المرتبة الأولى في الانتخابات من حيث عدد المقاعد (193 مقعداً)، قد سمت مرشحتها لهذا المنصب وهي لوسي كاستيه؛ لكن يبدو أن ماكرون غير متحمس لهذا الاسم، وما زال يختبر العديد من الأسماء ولكن من دون الكشف عن نواياه.

تعقيدات سياسية

تسببت التعقيدات الداخلية في فرنسا في عدم تسمية رئيس جديد للحكومة بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة، مما ينذر ببروز أزمة سياسية عميقة. ونوجز أهم الأسباب التي أدت إلى هذا التأخر على النحو التالي:

1- تعقد الوضع البرلماني: على الرغم من أنه يجب على الحكومة الانتهاء من إعداد الموازنة في نهاية سبتمبر لعرضها على الجمعية الوطنية، كما أنه تم تحديد 20 سبتمبر كموعد أقصى من قبل المفوضية الأوروبية لفرنسا من أجل تقديم خطتها من أجل تصحيح مسارها المالي؛ فإن الأوساط المقربة من الرئيس الفرنسي ترى أن فترة النضج لتشكيل الحكومة الجديدة لم تحن بعد، وأن الأمور تحتاج إلى المزيد من التفكير في الخيارات المحتملة لأن الوضع البرلماني الذي تمر به فرنسا هو وضع غير مسبوق؛ حيث ينقسم البرلمان الحالي إلى 11 مجموعة برلمانية وهو رقم قياسي غير مسبوق، وإلى 3 كتل كبرى لا يمتلك أي منها الأغلبية المطلقة، وتتصارع فيما بينها، وبالتالي فإنّ ماكرون ليس في وارد الاستعجال، كما أنه في الوقت نفسه لا يحاول اكتساب الوقت.

2- مساعي ماكرون لتجنب اختيار مرشح إشكالي: رأت أوساط اليسار أن الرئيس الفرنسي يحاول إنكار نتائج الانتخابات الأخيرة، والتي أدت إلى تراجع كتلته بما يوازي 73 مقعداً؛ حيث اعتبر في 11 يوليو أن أحداً لم ينتصر في الانتخابات المبكرة، كما اعتبرت هذه الأوساط أن سبب هذا الإنكار هو أنه لا يريد تعيين شخصية من اليسار كرئيس للحكومة من أجل إبعاد سيناريو التعايش Cohabitation عن نفسه، ومن أجل السيطرة على عهده حتى نهايته في العام 2027.

كما حذرت آراء أخرى من أن يتحول هذا الانسداد السياسي إلى أزمة نظام، لأن إطالة الفارق الزمني بين نتائج الانتخابات التشريعية وتعيين رئيس جديد للحكومة هو بداية الخروج عن القانون الأساسي، خصوصاً المادة 3 من الدستور المتعلقة بسيادة الشعب، والمادة 5 منه التي تلزم رئيس الجمهورية بضمان استمرارية الدولة، والمادة 20 التي تتحدث عن النظام البرلماني. كما أنه لا يجوز دستورياً استخدام حجة عدم امتلاك أي حكومة محتملة للثقة داخل البرلمان من أجل تأخير التسمية.

3- محاولة "ماكرون" إضعاف فرص "لوسي كاستيه": بعد استقالة غابرييل أتال في 16 يوليو، أعلن إيمانويل ماكرون في 23 يوليو أنه لن يتم تعيين رئيس وزراء جديد قبل نهاية الألعاب الأولمبية، وهو ما اصطلح على تسميته بـ"الهدنة الأولمبية". واعتبرت أوساط اليسار أن هذا التأجيل هو بمثابة التفاف من ماكرون لتجنب تعيين لوسي كاستيه بعد أن كان يراهن على عدم توصل اليسار إلى التوافق على مرشح مشترك. وحاولت كاستيه، التي كان اختيارها مفاجئاً كونها لم تكن من قيادات الصف الأول بل مديرة للشؤون المالية في بلدية باريس، الاستفادة أيضاً من هذه الهدنة للقيام بالعديد من اللقاءات والرحلات من أجل التعريف بنفسها، وإيصال مقترحاتها للرأي العام. وقامت مع انتهاء الألعاب الأولمبية وتحديداً في 12 أغسطس بتوجيه رسالة إلى البرلمانيين، مستثنية منهم نواب اليمين المتطرف، حددت فيها أولويات الحكومة التي تطالب بترأسها، في مؤشر إلى سعيها لإقناع نواب من خارج صفوف الجبهة الشعبية الجديدة.

4- الرهان على الخلاف بين أركان جبهة اليسار: يعتبر العديد من المراقبين أن ماكرون كان يراهن على عدم صلابة جبهة اليسار، وبالتالي فإنه حاول تأخير التسمية أملاً في بروز التباينات بين أركان هذه الجبهة وتفككها على غرار ما حصل بعد أحداث "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023 مع جبهة اليسار السابقة، خصوصاً أن قادة حزب "فرنسا غير الخاضعة" LFI كانوا وما زالوا يصرون على تطبيق برنامج جبهة اليسار بأكمله، في حين أن بعض أركانها يدركون أنه لا بد من نسج بعض التسويات مع أطراف برلمانية أخرى من أجل الحصول على الأغلبية المطلقة وتمرير النصوص، وهذا الأمر يجعل من الصعب تطبيق البرنامج بأكمله، لذلك فإنه بالإمكان الاعتماد عليه كنقطة انطلاق.

5- إفساح المجال أمام مبادرات التقارب بين القوى السياسية: قام أيضاً رئيس الوزراء المستقيل غابرييل أتال، والذي يرأس حالياً مجموعة "معاً من أجل الجمهورية" (الكتلة الماكرونية)، بإرسال رسالة في 13 أغسطس 2024 إلى النواب الذين لا ينتمون إلى اليمين أو اليسار المتطرفين. وفصّل أتال في هذه الرسالة التي أسماها "ميثاق عمل للفرنسيين" الأولويات التي على أساسها سيكون حزبه مستعداً للتقارب مع الأحزاب الأخرى. ورأت لوسي كاستيه في هذه الرسالة رفضاً لنتائج الانتخابات.

كما دعا لوران ماركانجيلي، رئيس مجموعة آفاق البرلمانية Horizons المنضوية في التحالف الداعم لماكرون، إلى تنظيم اجتماع في أقرب وقت ممكن من أجل التباحث بشأن استقرار الوضع السياسي في فرنسا دون أن تشمل هذه الدعوة حزبي التجمع الوطني وحزب فرنسا غير الخاضعة. ورأت أوساط مقربة من اليسار أن قادة التيار الماكروني ما زالوا يبحثون عمّن يمكنهم التجمع حولهم لإنشاء أغلبية حول ماكرون، وأن ماكرون لا يمكنه إلا التعايش مع نفسه. كما أوردت صحيفة "لوموند" معلومات عن توجه ماكرون بعد 19 أغسطس إلى دعوة رؤساء المجموعات البرلمانية للاجتماع معه من أجل المزيد من التباحث.

الخيارات المحتملة

تنحصر الخيارات النظرية المحتملة لتأليف حكومة جديدة في فرنسا ضمن أربعة سيناريوهات:

1- تشكيل حكومة من جانب جبهة اليسار: وتنطلق هذه الحكومة من أغلبية نسبية من 193 مقعداً (الأغلبية المطلقة 289) برئاسة لوسي كاستيه. وهذا الخيار تعترضه عقبة كبيرة وهي معارضة ماكرون الأولية له. ومن العوامل التي تحسن من احتمالات حدوث هذا الخيار إعلان حزب فرنسا غير الخاضعة LFI دعمه لهذه الحكومة، ولكن من دون الدخول فيها أو الحصول على مقاعد وزارية.

وقد تلجأ هذه الحكومة التي تبتعد عن الأغلبية المطلقة بحوالي 100 مقعد إلى تأجيل تنفيذ التدابير الخلافية ببرنامجها من أجل تجنب التصويت الفوري على امتحان الثقة، وبالتالي إسقاطها. ومن أبرز الإجراءات التي تعتزم هذه الحكومة اليسارية القيام بها هي إلغاء إصلاح نظام التقاعد، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 1600 يورو في الشهر. وتعتبر جبهة اليسار أنها ستستطيع تمرير الموازنة في البرلمان؛ حيث لن تجرؤ القوى السياسية المعارضة على الوقوف ضد اقتراح رفع مستوى الحد الأدنى الأجور. وفي هذا السياق، دعا رئيس الوزراء السابق دومينيك دو فيلبان، في 11 يوليو 2024، ماكرون إلى تعيين رئيس وزراء من صفوف الجبهة الشعبية الجديدة، لأنها جاءت في المركز الأول في الانتخابات، وذلك احتراماً لما أسماه التقليد الجمهوري.

2- تكليف شخصية من اليمين بتشكيل الحكومة: تنطلق هذه الحكومة من أغلبية نسبية أيضاً من 235 مقعداً، وتقوم على تحالف الكتلة الماكرونية مع حزب الجمهوريين LR اليميني، وتنتقدها أوساط اليسار على اعتبار أنها "تحالف المهزومين". على أن تكون هذه الحكومة برئاسة رئيس منطقة "أوت دو فرانس" Hauts-de-France كزافييه برتراند (الاسم الأكثر تردداً)، وهو أحد القياديين المخضرمين في التيار اليميني والذي حصل على إشادة من وزير الداخلية الحالي جيرالد دارمانين في يوليو 2024 أثناء مقابلة على قناة فرانس2.

ويستفيد برتراند من ميزة معارضته المنتظمة في السابق لماكرون، الأمر الذي من شأنه أن يُعطي انطباعاً بحصول نوع من التعايش ولكن من دون تغيير في السياسات، وهو النوع الوحيد من التعايش الذي يمكن أن يتقبله ماكرون لأن ماكرون وبرتراند ينتميان إلى الخط الأيديولوجي نفسه الذي يميل نحو اليمين.

وتجدر الإشارة إلى أن العقبة الأساسية التي تعترض حصول هذه الفرضية تأتي من اليمين نفسه؛ حيث إن أنصار القائد الفعلي للجمهوريين لوران فوكييه لا يحبذون أن يظهر حزبهم كعجلة احتياطية للماكرونية مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في عام 2027. وعلى الرغم من إبرام لوران فوكييه تحالفات مع الكتلة الماكرونية للحصول على مناصب رئيسية في الجمعية الوطنية، غير أنه أعلن في يوليو 2024 أنه لن يدخل في ائتلاف حكومي مع إيمانويل ماكرون.

3- تكوين ائتلاف ديمقراطي - اشتراكي: وتنطلق هذه الحكومة من أغلبية نسبية من 278 مقعداً وهي أغلبية قريبة من الأغلبية المطلقة، وتقوم على قيام ائتلاف ديمقراطي-اشتراكي بين الوسط (الكتلة الماكرونية) واليسار المعتدل (الاشتراكيين والبيئيين والشيوعيين)، وتكون الحكومة برئاسة شخصية محسوبة رمزياً على اليسار كرئيس الوزراء الأسبق في عهد فرنسوا هولاند، برنارد كازنوف مثلاً. وسيكون من السهل على حزب فرنسا غير الخاضعة (أقصى اليسار) التنديد بخيانة بقية أحزاب اليسار، عبر مشاركتها في هذه الحكومة، وانسحابها من الجبهة الشعبية الجديدة.

4- الوصول إلى حكومة ائتلاف كبير تستبعد المتطرفين: وهو الاحتمال الوحيد من بين السيناريوهات النظرية المطروحة الذي يستطيع حيازة الأغلبية المطلقة، بل يتخطاها بشكل كبير مع امتلاك 356 مقعداً، بحيث تنضوي فيه الكتلة الماكرونية واليسار المعتدل وحزب الجمهوريين بحيث لا يتم إلا استبعاد الحزبين اللذين يمثلان أقصى اليمين (حزب التجمع الجمهوري) وأقصى اليسار (حزب فرنسا غير الخاضعة).

وسيحتاج تكوين هذا الائتلاف إلى إيجاد شخصية توافقية لترأسه تكون بعيدة عن الانقسامات السياسية الحالية. ولقد كان لافتاً في هذا السياق، تصريح ماكرون بعد انتهاء الألعاب الأولمبية عبر صحيفة "ليكيب" بأن الرسالة التي أرسلها الفرنسيون تتسق للغاية مع الألعاب الأولمبية وهي العمل معاً، شاكراً رئيسة بلدية باريس الاشتراكية آن هيدالجو، ورئيسة منطقة "إيل دو فرانس" اليمينية فاليري بيكريس، على جهود التنظيم المشترك للأولمبياد، مشيراً إلى أن هاتين السيدتين كانتا تتنافسان معه على الانتخابات الرئاسية في عام 2022، الأمر الذي لم يمنعهم هم الثلاثة من العمل معاً خلال فترة الألعاب الأولمبية، معتبراً أنه "حين نعمل معاً، لا يوجد شيء لا يمكن التغلب عليه".

وفي رد على هذه التصريحات، دعا رئيس الحزب الشيوعي الفرنسي فابيان روسيل، ماكرون إلى عدم محاولة الاستفادة من الألعاب الأولمبية من أجل القفز فوق النتائج التي تم التعبير عنها خلال الانتخابات الأخيرة، وبأن عليه أن يفهم أنه قد خسر.

ختاماً، في حين أن أوساط قوى اليسار في فرنسا تحاول تصوير ماكرون على أنه يسيء استخدام وظيفته كضامن لروح الدستور عبر عدم الأخذ بأصوات الفرنسيين؛ تحاول أوساط الإليزيه الإيحاء بأن الهدف من هذا التريث هو البحث عن الحكومة الأكثر استقراراً والتي تمثل المعالم الدقيقة داخل الجمعية الوطنية، على أن تترأسها شخصية تتمتع بخبرة كبيرة في إدارة شؤون الدولة، تحظى بالاحترام، وتكون قادرة على التحدث مع الجميع.