أسماء الصفتي

أشارت بعض التقارير مؤخراً إلى طلب روسيا الحصول على إذن لطائرات روسية بالتمركز في قاعدة جوية في أقصى شرق إندونيسيا، وهو الأمر الذي يعكس مساعي روسيا على مدار السنوات الماضية إلى التوجه نحو آسيا، مع عدم اقتصار شراكاتها الخارجية في هذه المنطقة على كل من الصين وكوريا الشمالية، لتعزيز ثقلها الاقتصادي ونفوذها في المنطقة، خاصة مع إدراك الكرملين أن أوروبا لن تكون شريكاً لروسيا بأي شكل من الأشكال، وأن التعاطي مع التحدي الأمريكي والأوروبي يستدعي تعزيز شراكاتها في عمقها الآسيوي. ولذا عملت روسيا على تعزيز حضورها الأمني والعسكري في منطقة الهندوباسيفيك، وزيادة شراكاتها مع القوى المتوسطة في جنوب شرق آسيا. مؤشرات بارزةمنذ وصول "برابوو سوبيانتو" إلى الرئاسة في إندونيسيا في أكتوبر 2024، سعت موسكو وجاكرتا إلى تعميق علاقاتهما الثنائية في عدد من الميادين الاقتصادية والتعليمية والعسكرية، ويمكن حصر أبرز مؤشرات ودلالات الشراكة الثنائية بين الطرفين في الآتي: 1- إقامة تدريبات عسكرية مشتركة: أجرت كل من إندونيسيا وروسيا أول تدريبات بحرية مشتركة بعد شهر واحد فقط من تولي الرئيس الإندونيسي الجديد لمنصبه. ففي نوفمبر 2024، بدأت إندونيسيا وروسيا أول مناورات بحرية مشتركة على الإطلاق في بحر جاوة. وقد تم الإعلان بشكل رسمي أن هذه التدريبات الثنائية تستهدف دعم أجندة السياسة الخارجية الإندونيسية التي تعطي الأولوية لعدم الانحياز في مواجهة الصراع بين القوى العالمية. وتم تقسيم التدريبات إلى مرحلتين، أجريت على مدار خمسة أيام بالقرب من مدينة سورابايا الإندونيسية، شرقي العاصمة جاكرتا. 2- زيارات كبار المسؤولين الروس لإندونيسيا: قام "سيرجي شويجو"، سكرتير مجلس الأمن الروسي وأحد أقرب حلفاء "فلاديمير بوتين"، بزيارة إندونيسيا وماليزيا في فبراير 2025، وذلك على الرغم من انشغال موسكو بميدان المعركة في أوكرانيا. وتشير هذه الزيارة رفيعة المستوى إلى أن نوايا موسكو تجاه جاكرتا قد تكون أعمق من مجرد بناء روابط عسكرية جيدة وقوية مع إندونيسيا، وإنما تمتد لتشمل الحصول على امتيازات عسكرية تخدم أيضاً المصالح الروسية الكبرى في العالم، وأوروبا على وجع التحديد. كما قائم نائب رئيس الوزراء الروسي "دينيس مانتوروف" بزيارة إندونيسيا في 14 و15 أبريل 2025 في زيارة رسمية، حيث التقى الرئيس "برابوو سوبيانتو، وهو التوقيت الذي تزامن مع بروز تقارير تفيد بطلب موسكو من إندونيسيا استضافة قاعدة جوية لها عبر أراضيها.3- خلق طلب جديد على الأسلحة الروسية في إندونيسيا: سعت روسيا منذ فترة إلى بيع تكنولوجيا الدفاع والطائرات المقاتلة لإندونيسيا، معتبرة إياها سوقاً محتملة مربحة للأسلحة الروسية. حيث سعت روسيا بشكل عام إلى تعميق شراكاتها العسكرية مع دول الآسيان ككل، وشاركت في مناورات عسكرية مشتركة، وأبرزت العديد من برامجها العسكرية لقادة هذه الدول لجعل برامجها وأسلحتها العسكرية أكثر رواجاً بين دول هذه المنطقة، المنخرطة في سباق تسلح جديد. 4- العمل على إقامة وجود عسكري روسي دائم بإندونيسيا: أفاد تقرير لمؤسسة جينز، نشر في 16 أبريل 2025، أن موسكو سعت إلى إنشاء قاعدة لطائراتها بعيدة المدى في إندونيسيا. وأوضح التقرير أن الطلب الروسي تضمن محاولة الحصول على موافقة جاكرتا لتمركز طائراتها في قاعدة "مانوها" الجوية الواقعة في أقصى شرق إندونيسيا، في مقاطعة بابوا. وتبعد هذه القاعدة حوالي 1300 كيلومتر فقط عن مدينة داروين الأسترالية.محفزات رئيسية تضطلع عدد من العوامل بتعزيز التقارب بين روسيا وإندونيسيا، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي: 1- حرص موسكو على التأكيد على حضورها ونفوذها الدولي: أكدت العديد من الصحف وعلى رأسها "دويتش فيلا" و"راديو آسيا الحرة" أن التحرك الروسي الرامي إلى تدشين قاعدة لطائراتها بعيدة المدى في إندونيسيا، يمكن النظر إليه باعتباره ضربة موجة تسعى موسكو من خلاله إلى إثارة القلق والخوف وحالة من عدم اليقين في وسط الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة. حيث يؤكد هذا التحرك أن موسكو لم تعد تكتفي باتخاذ خطوات رمزية-على غرار إرسال غواصة بحرية إلى إحدى الموانئ الآسيوية- لإظهار استمرار الوجود والنفوذ الروسي العالمي، وقدرتها على كسر عزلتها الدولية، وإنما تهدف لخلق وجود عسكري دائم لها في آسيا، مما يضاعف من التهديدات التي يعاني منها حلفاء واشنطن في المنطقة. 2- تطلع القيادة الإندونيسية للفرص الاقتصادية المحتملة لتعاونها مع موسكو: تسعى إندونيسيا إلى إقامة علاقات اقتصادية أوثق مع روسيا، وهي حريصة بشكل خاص على جذب الاستثمارات الروسية في القطاعات الاستراتيجية مثل الطاقة والتعدين وفي صندوق الثروة السيادية الإندونيسي. ويبدو أن العلاقات الجيدة مع موسكو تشكل أيضاً جزءاً من استراتيجية الرئيس الإندونيسي الجديد، والتي تستهدف جعل إندونيسيا قوة متوسطة نشطة، وإن كانت غير منحازة. كما تسمح العلاقات مع موسكو لإندونيسيا بأن تحقق نوع من التوازن في العلاقات مع الصين والولايات المتحدة مع اشتداد المنافسة بين القوى العظمى. 3- غياب توجهات الرأي العام الإندونيسية السلبية تجاه روسيا: لا يحمل الإندونيسيون، مثلهم مثل كثير من شعوب الجنوب العالمي، نفس النظرة السلبية تجاه موسكو التي تسود في الغرب. فعلى سبيل المثال، أظهر استطلاع رأي أجرته مؤسسة "بيو" للأبحاث واستطلاعات الرأي في منتصف عام 2023 أن 70% من الأستراليين الذين شملهم الاستطلاع لديهم "نظرة سلبية جداً" تجاه روسيا، مقارنة بـ 6% فقط من الإندونيسيين. 4- عدم معارضة روسيا لانضمام إندونيسيا لمجموعة دول البريكس: في يناير 2025، انضمت إندونيسيا كأول دولة من جنوب شرق آسيا، بصورة رسمية إلى مجموعة دول "البريكس"، وهو تكتل لدول الجنوب العالمي، ينظر إليه كثيراً باعتباره يتحدى الهيمنة الغربية على النظام الاقتصادي العالمي. وعلى الرغم من رفض عدد من المحللين الإندونيسيين القول بأن انضمام جاكرتا إلى التكتل يعد بمثابة اصطفاف إندونيسي مع كل من الصين وروسيا، وخروج عن المنظومة الاقتصادية الغربية، إلا أنهم يؤكدون في ذات الوقت أن اهتمام الرئيس "برابوو" بالانضمام إلى هذه المجموعة يشير إلى رغبته في أن تكون بلاده لاعباً دبلوماسياً أكثر نشاطاً في نظام دولي، خاصة مع تأثر بلاده الكبير بالحرب التجارية القائمة في الوقت الحالي فيما بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية. 5- اهتمام النخب الإندونيسية بالثقافة الروسية: تتمتع بعض النخب السياسية الروسية بروابط هامة بالجانب الروسي. فعلى سبيل المثال، يُعرف وزير الثقافة الإندونيسي، ونائب رئيس حزب "غيريندرا" الذي يتزعمه الرئيس الإندونيسي الحالي، "فاضلي زون"، بحبه لروسيا. وهو حاصل على شهادة في الأدب الروسي من جامعة إندونيسيا. وقبيل الانتخابات الرئاسية لعام 2019 التي خسرها "سوبيانتو"، صرح "زون" بأن إندونيسيا بحاجة إلى زعيم قوي مثل "فلاديمير بوتين". وقال حينها: "إذا أردتم أن تنهض إندونيسيا وتنتصر، فهي بحاجة إلى زعيم مثل "فلاديمير بوتين"، يتمتع بخصال من قبل الشجاعة، وامتلاك الذكاء، والحكمة والحنكة". تداعيات محتملةينطوي التقارب بين روسيا وإندونيسيا على عدد من التداعيات الرئيسية المحتملة وذلك على النحو التالي: 1- تصاعد مخاوف أستراليا من التقارب الروسي الإندونيسي: تعد أستراليا من بين الدول الأكثر تضرراً وتخوفا من هذه الشراكة، خاصة وأنها تجمعها نوع خاص من الشراكة الأمنية والعسكرية مع إندونيسيا، وتحرص دائما على استمرار تبني جاكرتا لسياسة المهادنة والحياد وعدم الانخراط لأي طرف دولي رئيسي من أطراف الصراع في منطقة الهندوباسيفيك. وقد أصدرت أستراليا بياناً رسمياً للتعليق على خبر سعى موسكو لتدشين قاعدة عسكرية لها في إندونيسيا، حيث شكك وزير الدفاع الأسترالي، "ريتشارد مارلز"، في صحة المعلومات الواردة في تقرير جينز. وقد برر ذلك بالقول إن نظيره الإندونيسي طمأنه بأنه لن يتم السماح بتمركز أي طائرات روسية في إندونيسيا. من جانبه، قال رئيس الوزراء الأسترالي، "أنتوني ألبانيزي"، إنه يسعى للحصول على إجابات من نظرائه في إندونيسيا بشأن التقرير.2- تزايد الجدل حول سياسة التوازنات الخارجية لإندونيسيا: ورغم ما تثيره التحركات الروسية الأخيرة في إندونيسيا من تخوفات لدى عدد من المحللين والمتخصصين في منطقة الهندوباسيفيك، فقد أشار العديد من المحللين إلى أن النهج التقليدي للسياسة الخارجية الإندونيسية، الذي يركز على السيادة وعدم الانحياز، يجعل التوصل لأي اتفاق لإنشاء قواعد عسكرية أمراً شبه مستحيل. فكما أن الموقف الصارم من عدم الانحياز والحساسية تجاه السيادة يعقد أحياناً علاقات جاكرتا الدفاعية مع أستراليا، فإن هذه العقلية نفسها تُعد رادعاً فعالاً في إبطاء تعاون جاكرتا مع أطراف دولية أخرى من قبل الصين وروسيا.3- احتمالية تحرك أستراليا لتوسيع نطاق التعاون مع إندونيسيا: يتصور أن مثل هذا التحرك الروسي تجاه التقارب مع إندونيسيا، سيكون بمثابة جرس الإنذار الذي سيدفع الحكومة الأسترالية الحالية إلى عدم الركون والاستكانة، وبذل جهود مضاعفة لمجابهة التحديات التي تفرضها موسكو عليها في منطقة جنوب شرق آسيا. فالاستقرار الذي سيطر على العلاقات بين أستراليا وإندونيسيا، جعل كانبرا ربما أكثر تراخياً. فرئيس الوزراء "أنتوني ألبانيزي"، وزعيم المعارضة "بيتر داتون" قالا إنهما يقدّران العلاقة مع إندونيسيا، لكن كلّاً منهما، بطريقته، فوت فرصاً للاستثمار في هذه العلاقة. فقد تخلف "ألبانيزي" عن حضور تنصيب "برابوو" في أكتوبر 2025، وهو ما يمثل خروجاً عن تقليد طويل حافظ عليه رؤساء وزراء أستراليا المتلاحقين، كما أنه لم يزر إندونيسيا منذ ذلك الحين. وبالمثل، فإن تصريح "داتون" بأنه سيجعل زيارته الخارجية الأولى إلى واشنطن بدلاً من جاكرتا. 4- إضفاء المزيد من التعقيدات على العلاقات الأمريكية الإندونيسية: صحيح أن إدارة ترامب تسعى إلى التوصل لاتفاق مع روسيا بشأن إنهاء الحرب الأوكرانية، ولكن من المؤكد أن سعي روسيا للتواجد في منطقة الهندوباسيفيك عبر بوابة إندونيسيا لن يكون موضع ترحيب كبير، وخاصة أن ذلك الأمر يؤدي إلى تعقيد المشهد الأمني في المنطقة في ظل تعدد الفاعلين هناك. وفي هذا السياق، قد تلعب سياسة الرسوم الجمركية التي يتبناها ترامب ضد الدول المختلفة، بما فيها إندونيسيا، دور في المزيد من التقارب بين جاكرتا وموسكو. 5- ترقب الصين لمآلات التقارب بين إندونيسيا وروسيا: ساهمت الحرب الأوكرانية في تعزيز العلاقات بين روسيا والصين، حيث بدا أن بكين تدعم الرؤية الروسية تجاه الحرب، وخاصة فيما يتعلق بتحميل السياسات الغربية مسؤولية إندلاع هذه الحرب. ولكن تسارع وتيرة التواجد الروسي في منطقة الهندو باسيفيك، وفي الجوار الصيني، قد يثير بعض الهواجس لدى بكين، وخاصة أن مسار المحادثات الروسية الأمريكية الراهنة غير واضح المعالم وماذا ستكون مطالب واشنطن من روسيا.خلاصة القول، تشير جميع هذه المعطيات إلى أنه في ضوء المنافسة الكبيرة على النفوذ بين الدول الكبرى في منطقة الهندوباسيفيك، فإن هذه الدول ستسعى إلى جذب الدول المحايدة إلى معسكرها، والحصول على المزيد من التنازلات العسكرية والسياسية في مقابل دعم شراكتها الثنائية مع هذه الدول. وهو ما قد يمثل لهم في النهاية إما فرصة أو تحدياً آخر يجب التعاطي معه في ظل بيئة سياسية شديدة الحساسية والتغير.

ملامح تزايد التعاون الدفاعي بين روسيا وإندونيسيا