عبد الله جمال

منذ اندلاع الحرب الروسية–الأوكرانية، كانت بولندا من أقوى الداعمين لكييف؛ حيث قدمت لها مساعدات عسكرية واقتصادية، واستقبلت ملايين اللاجئين الأوكرانيين، ودافعت عن سيادة الأراضي الأوكرانية في مختلف المحافل الدولية، بل حوَّلت أراضيها إلى قناة رئيسية لتمرير شحنات الأسلحة الغربية المتجهة إلى الخطوط الأوكرانية. ولعل التصعيد الأبرز من جانب وارسو ضد موسكو، يوم 22 أبريل الجاري، عندما أعلن الرئيس البولندي أندريه دودا عن استعداد بلاده لاستضافة أسلحة نووية للأعضاء الآخرين في التحالف العسكري على أراضيها؛ وذلك إذا قرر حلف الناتو تعزيز جناحه الشرقي رداً على نقل روسيا أسلحتها النووية إلى بيلاروسيا المجاورة. وتجدر الإشارة إلى أن تصريحات دودا جاءت على خلفية محادثاته مع الإدارة الأمريكية خلال زيارته إلى الولايات المتحدة شهر أبريل الجاري؛ حيث التقى مسؤولي البيت الأبيض، وكذلك المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024 دونالد ترامب.تهديد موسكومنذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب في أوكرانيا، انتهجت وارسو العديد من التحركات التي تثبت موقفها القوي المعادي لروسيا، والداعم للغرب وأوكرانيا، ومن ثم فإن لتصريحات دودا العديد من الدلالات الهامة، أبرزها:1– ردع التصعيد النووي الروسي في المنطقة: منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أطلقت موسكو تهديدات نووية تجاه الغرب، حتى إنها نقلت وخزَّنت العديد من الأسلحة الذرية في بيلاروسيا المتاخمة لبولندا وليتوانيا ولاتفيا الأعضاء في الناتو، فضلاً عن إقدامه على عسكرة مقاطعة كالينينجراد الروسية؛ وذلك رداً على توسع الناتو بضم فنلندا والسويد إلى الحلف. ومن اللافت للنظر أن بولندا تشترك في حدودها مع كل من مقاطعة كالينينجراد الروسية وبيلاروسيا. ومن ثم فإن قرب الأسلحة النووية الروسية من الحدود البولندية شكل حافزاً لوارسو من أجل الاضطلاع بدور أكثر نشاطاً في آلية المشاركة النووية التابعة للناتو.اللافت أن تعليقات دودا بشأن المشاركة النووية، قد جاءت بالتزامن مع إعلان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن خطر الحرب النووية يتزايد؛ إذ نُقل عن لافروف، بحسب وكالة رويترز، أن "الغربيين يتأرجحون بشكل خطير على شفا مواجهة عسكرية مباشرة بين القوى النووية". ووفقاً له، تتخذ الولايات المتحدة والقوى النووية في أوروبا "خطوات استفزازية" لدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا. وفي وقت سابق، حذر بوتين من أنه إذا أجرت الولايات المتحدة تجارب نووية، فإن موسكو ستفعل الشيء نفسه؛ الأمر الذي قد يثير أزمة سباق تسلح نووي بالمنطقة، وهو ما يجبر وارسو على اتخاذ إجراءات وقائية.2– إصرار بولندا على حيازة السلاح النووي: لم تكن هذه المرة التي يصرح فيها مسؤول بولندي برغبة بلاده في حيازة السلاح النووي؛ ففي يونيو 2023، أعلن رئيس الوزراء الأسبق ماتيوش مورافيتسكي اهتمام بلاده باستضافة أسلحة نووية بموجب سياسة تقاسم الأسلحة النووية لحلف شمال الأطلسي، وقد يتم تنفيذ الرغبة البولندية هذه من خلال عدة طرق، بما في ذلك استضافة أسلحة نووية من طراز "B61" على أراضيها، أو تجهيز الطائرات من طراز "F–35A" من أجل حمل أسلحة نووية، أو الاضطلاع بدور أكثر أهميةً في عملية صنع القرار، فيما يتعلق بالعقيدة النووية لحلف شمال الأطلسي.وبعد فترة وجيزة من إعلان مورافيتسكي، أوضح رئيس مكتب الأمن القومي البولندي جاسيك سيويرا، أن وارسو مهتمة بتجهيز الطائرات من طراز "F–35A" لحمل قنابل نووية، وهي تلك الطائرات المقرر حصول بولندا عليها بموجب اتفاق مع الولايات المتحدة؛ وذلك خلال العامين الجاري والمقبل.ومن الملاحظ أيضاً أن الحرب الأوكرانية قد ولدت اهتماماً جديداً بقضايا الردع النووي بين الجمهور البولندي؛ حيث أشار استطلاع للرأي أُجرِي في أكتوبر 2022، إلى أن أكثر من نصف السكان يؤيدون نشر القنبلة النووية "B61" في بلادهم؛ وذلك بالمقارنة بموافقة نحو ربع المشاركين فقط في الاستطلاع ذاته عام 2016.3– تقدُّم المباحثات النووية بين واشنطن ووارسو: أكد الرئيس البولندي أن النشر المحتمل للأسلحة النووية في بولندا كان موضوع محادثاته مع الإدارة الأمريكية خلال زيارته الأخيرة؛ وذلك عندما التقى مسؤولي البيت الأبيض، وكذلك الرئيس الأسبق دونالد ترامب. وعلى الرغم من نفي الولايات المتحدة في الماضي إجراء أي محادثات رسمية حول هذه القضية، فإن دودا قد أشار إلى أن المناقشات حول التعاون النووي بين بولندا والولايات المتحدة استمرت طوال الفترة الماضية، قائلاً: "لقد تحدثت بالفعل عن هذا الأمر عدة مرات، ويجب أن أعترف أنه عندما سئلت عن ذلك، أعلنت استعدادنا".4– قرب تسليم صفقات "F–35A" إلى بولندا: لم يذكر دودا أي الطائرات البولندية يمكن استخدامها لحمل أسلحة نووية. ومع ذلك، فإنه في يناير 2020، وقعت بولندا صفقة بقيمة 4.6 مليار دولار لشراء 32 طائرة مقاتلة من طراز "F–35A" من الولايات المتحدة. وفي وقت سابق من شهر أبريل الجاري، صرح المتحدث باسم وزارة الدفاع البولندية لموقع (Defense News) بأن تنفيذ العقد يسير وفقاً للجدول الزمني؛ بحيث سيتم تسليم أول ست طائرات من الطراز ذاته خلال عامي 2024 و2025، على أن يستمر تسليمها حتى عام 2030 على دفعات تتراوح بين أربع وست وحدات سنوياً. ومن ثم يمكن القول بأن إعلان دودا الأخير عن استعداد بولندا لاستضافة أسلحة نووية، ربما يكون مرتبطاً بالتسليم الوشيك للـ32 طائرة، باعتبارها قادرة على حمل قنابل نووية من طراز "B61".5– ضمان وفاء بولندا بتعهداتها لحلف الناتو: خلال قمة الناتو الأخيرة في فيلنيوس العام الماضي، تعهد الحلفاء "باتخاذ جميع الخطوات اللازمة لضمان مصداقية وفاعلية وسلامة وأمن مهمة الردع النووي"، وهو ما قد استحضره دودا خلال تصريحاته، عندما أشار إلى أن بولندا "تدرك التزاماتها ضمن التحالف الذي يضم 32 عضواً".والجدير ذكره أنه بدافع القلق من الحرب في أوكرانيا، صعدت بولندا إلى مصاف الدول الأكثر إنفاقاً عسكرياً في حلف الناتو خلال عام 2023؛ إذ أنفقت الحكومة نحو 3.8% من ناتجها المحلي الإجمالي، أي ضعف هدف الحلف البالغ 2%؛ حيث يقدر حجم الإنفاق العسكري البولندي بنحو 31.6 مليار دولار عام 2023، مقارنةً بنحو 16.6 مليار دولار عام 2022. وتجدر الإشارة إلى أن الإنفاق العسكري البولندي الحالي – بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي – يُعَد الأكبر في تاريخ البلاد؛ حيث كانت آخر مرة اقتربت فيها بولندا من إنفاقها الدفاعي الحالي عام 1982، في خضم الحرب الباردة، عندما أنفقت 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.عوائق محتملةبالرغم من إصرار الرئيس البولندي على الإقدام على تنفيذ هذه الخطوة الشديدة الخطورة، فإن هناك مجموعة من التداعيات المحتملة قد تحول دون تنفيذها، ولعل أبرزها ما يلي:1– تبني موسكو خطاباً تصعيدياً ضد بولندا: تعهَّد الكرملين بالرد الانتقامي إذا حصلت بولندا على أسلحة نووية؛ حيث أوضح المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أن أي نشر لأسلحة نووية أمريكية في بولندا ستقابله خطوات ضرورية لأمن روسيا، مصرحاً للصحفيين بأن "الجيش سيقوم بالطبع بتحليل الوضع، وعلى أي حال سيتخذ جميع خطوات الرد اللازمة لضمان أمننا".وكذلك أصدر نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف تحذيراً شديد اللهجة إلى بولندا، مؤكداً أن أي نشر دائم للأسلحة النووية التابعة لمنظمة حلف شمال الأطلسي على الأراضي البولندية، من شأنه أن يجعل البلاد هدفاً عسكرياً لروسيا.2– احتمالية تزايد الخلافات بين الحكومة البولندية والرئيس "دودا": في النظام السياسي في بولندا، يعتبر الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، لكنه يفتقر إلى السلطة السياسية التي تُخوِّله اتخاذ القرار بشأن انضمام البلاد إلى برامج الدفاع الدولية، وهو ما يعزز من أهمية موقف الحكومة البولندية، وخاصةً رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك، الذي يتمتع بالسلطة الفعلية في هذا الصدد، والذي أشار إلى أن عملية نشر الأسلحة النووية على الأراضي البولندية، لم تُناقَش مع الرئيس البولندي حتى الآن، محذراً من خطورة هذا المقترح؛ وذلك على الرغم من موافقته المسبقة على وجهات نظر دودا فيما يخص أهمية الأمن القومي، لكنه في الوقت الراهن يحث على ضرورة الإعداد والمناقشة بشكل شامل لهذه القضية؛ نظراً إلى ما قد تنطوي عليه من تداعيات إقليمية ودولية خطيرة.هذا وقد صرح تاسك بأنه يحتاج إلى "معرفة جميع الظروف التي دفعت الرئيس إلى إصدار هذا الإعلان"، وهو ما يشير إلى أن دودا لم يتشاور مسبقاً مع الحكومة في هذه الخطوة قبل إعلانه عنها؛ الأمر الذي قد ينتج عنه رفض كامل من قبل الحكومة؛ إذ صرح تاسك: "أريد أن تكون بولندا آمنة ومسلحة جيداً، ولكن أود أيضاً أن تُعَدَّ أي مبادرات بشكل جيد للغاية من قِبَل المسؤولين عنها، وأن نقتنع جميعاً بأن هذا هو ما نريده".وفي السياق ذاته، أوضح وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي، أثناء مقابلة لاحقة مع إذاعة بي بي سي، أن مسألة استضافة بولندا للأسلحة النووية لم تناقشها الحكومة البولندية، مضيفاً أن استضافة مثل هذه الذخائر قد يكون خطيراً، معلقاً بأنه "على الرغم من أن أسلحة الناتو على الأراضي البولندية ستكون موجودة للدفاع عن أراضينا، فإنها ستكون أيضاً هدفاً لروسيا". ويمثل موقف تاسك وسيكورسكي خروجاً عن الموقف الذي تبنته حكومة المحافظين السابقة بقيادة ماتيوش مورافيتسكي، ومن ثم يمثل خروجاً عن الموقف الذي يتبنَّاه الرئيس دودا المحافظ أيضاً.3– تردد الناتو في التصعيد النووي ضد روسيا: قد لا يلقى التصعيد البولندي قبولاً واسعاً بين الدول الأعضاء في حلف الناتو، خاصةً إذا قررت موسكو الرد على هذا التصعيد بضربات عسكرية استباقية داخل الأراضي البولندية أحد أعضاء الحلف، وهو التصعيد الذي سيُعَد حرباً شاملةً بين روسيا وحلف الناتو، وهو ما قد لا يُحبِّذه الأخير خلال الفترة الراهنة. وبالرغم من اعتراف البيان الصادر عن قمة الناتو الأخيرة في فيلنيوس، بالقلق الذي يشعر به أعضاء الجناح الشرقي فيما يتعلق بالردع النووي، مشيراً إلى أن الحلف سوف يطور قدراته ويُحدِّث التخطيط لزيادة المرونة والقدرة على التكيف لأسلحته النووية؛ فإن مدى استجابة الأمين العام لحلف شمال الأطلسي والدول الأعضاء لطلبات بولندا المحددة لا يزال غير معروف حتى الآن، بل من غير المرجح أيضاً ألَّا تظهر أي إشارة واضحة للرد على طلبات دودا دون صدور قرار رسمي من قبل الحلف.4– إمكانية توجيه ضربات استباقية روسية للقواعد البولندية: إذا تحقق سيناريو نشر بولندا الأسلحة النووية على أراضيها، فقد يكون العالم بصدد مواجهة أزمة مشابهة لأزمة الصواريخ الكوبية؛ حيث إن نشر الأسلحة النووية بشكل دائم بالقرب من الحدود الروسية، من شأنه أن يحفز موسكو على ضرب مثل هذه المواقع في وقت مبكر من الصراع، في محاولة إما لتدميرها بذخائر تقليدية أو نووية، وإما لتعطيل عمليات القواعد الجوية، وربما يكون ذلك بهجمات بالأسلحة الكيميائية.وبناءً على ذلك، سوف تراقب روسيا أي أمر يصدر من بولندا بالموافقة على نشر هذه الأسلحة على أراضيها؛ حيث سوف تستفيد موسكو من ضرب هذه الأهداف بشكل استباقي، قبل أن تُنشَر القنابل النووية، ومن ثم فإن من المرجح بقوة أن هذه الخطوة ستزيد فرص تعرض بولندا لخطر الهجوم الروسي في وقت مبكر من أي صراع محتمل، بما يحد من قدراتها لكي تصبح قوة نووية جديدة على عتبة الأراضي الروسية.ختاماً، فإن موقف بولندا الاستباقي في دعم أوكرانيا، واستعدادها للمساهمة في جهود الردع التي يبذلها حلف شمال الأطلسي، يعكس الأهمية الاستراتيجية التي تتمتع بها بولندا في المنطقة. ومع ذلك، فإن احتمال نشر الأسلحة النووية على الأراضي البولندية يثير تساؤلات واعتبارات كبيرة، على الصعيدين المحلي والدولي، خاصةً أن إطلاق الخطة البولندية لنشر الأسلحة النووية بهدف التحول إلى قوة نووية، يظل عملاً محفوفاً بالمخاطر؛ حيث من الممكن أن تصبح وارسو أكثر عرضةً للهجمات الروسية الوقائية، مقارنةً بالدول التي ليس لديها مثل هذه الخطة.

لماذا عرض رئيس بولندا استضافة أسلحة نووية من حلف الناتو؟