عرض: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

تسعى فرنسا إلى تقديم نفسها كقوة فاعلة في النظام الدولي الحالي، خاصةً في ظل احتدام التنافس بين الولايات المتحدة والصين. وفي ضوء هذا، يحاول الصحفي الاستقصائي وعالِم الاجتماع مارك أندويلد، في كتابه "القبضة.. ماكرون محاصَر في حرب اقتصادية باردة جديدة"، تتبُّع الترابط بين فكرتين أساسيتين متداخلتين: الفكرة الأولى هي عودة الحرب الباردة بين القوى الكبرى، والفكرة الثانية تراجع مكانة فرنسا على الصعيد الدولي مع استعراض مراكز القوى في السياسة الفرنسية وأوجه القصور، وبالتركيز على مصالح باريس الداخلية والخارجية.

صعود الماكرونية

ركز الكتاب على استعراض مراكز القوى داخل السياسة الخارجية الفرنسية والشخصيات المسيطرة؛ وذلك على النحو التالي:

1- تياران متنافسان على السياسة الخارجية الفرنسية: يشرح مارك إندويلد الاتجاهين الرئيسيين في الجسم الدبلوماسي الفرنسي؛ فمن ناحية هناك الجولو–متيرانيون (نسبةّ إلى رئيسَي فرنسا السابقَين شارل دي جول وفرانسوا ميتران)، الذين يهدفون إلى إيجاد مكان بين المعسكرين الأمريكي والروسي، ومن ناحية أخرى هناك المحافظون الجدد أو الغربيون الذين يقفون دائماً خلف المواقف الأمريكية.

2-نفوذ كبير لـ"إليكسيس كوهلر" داخل الإليزيه: ينتقد المؤلف عدم اتساق المواقف الفرنسية الحالية مع تقديرات هذا الجسم الدبلوماسي؛ حيث إن الحسم في الأمور والمواقف على الصعيد الدولي يعود في الأغلب إلى خلية الشؤون الخارجية في الإليزيه، وبالأخص إلى الأمين العام للإليزيه أليكسيس كوهلرAlexis kohler، ويحاول الكاتب، من خلال تفصيل تضارب المصالح الذي تحيط شبهاته بكوهلر، التدليل على طريقة العمل المتبعة داخل الدائرة الضيقة التي تحيط بالرئيس ماكرون؛ فكوهلر له روابط عائلية مع شركة MSC، وهي شركة تمتلكها عائلة أبونتي Aponte التي تعتبر حالياً قوة جيوسياسية في مجال الشحن البحري العالمي؛ حيث إنه كان على السيد كوهلر، حينما كان يدير ملف STX France، البت في عدة قضايا تتنافس فيها MSC مع شركات أخرى.

كما أشار الكاتب إلى أن الأمين العام للإليزيه يلعب دوراً رئيسياً، والعلاقة بين الشخصيتين ممتدة منذ أن كان كوهلر مستشاراً لماكرون؛ عندما تم تعيينه وزيراً للاقتصاد في عام 2014؛ حينها وجد كوهلر نفسه مسيطراً على مجموعة واسعة من الملفات الصناعية والاستراتيجية، ولطالما منحه إيمانويل ماكرون قدراً كبيراً من الحرية عندما كان الأمر يتعلق بالتحكيم النهائي في مختلف القضايا. وبمجرد وصوله إلى الإليزيه، احتفظ أليكسيس كوهلر بالسيطرة على الملفات الصناعية والاستراتيجية الرئيسية، التي أضيفت إليها ملفات الاستخبارات والدبلوماسية والأمن القومي، وأيضاً الملفات النووية، حتى إنه يتمتع بسلطة أكبر من سلطة وزير المالية برونو لومير.

3- تأييد "ماكرون" صيغة "الرئاسة المفرطة": يقول الكاتب إنه وفقاً للشهادات الحية التي حصل عليها أثناء إعداده الكتاب فإن أليكسيس كوهلر يعتبر أقوى أمين عام للإليزيه في تاريخ الجمهورية الخامسة، إلى حد وصفه بأنه نائب الرئيس الفعلي. وهذه القوة لا تزعج ماكرون الذي يحبذ أشكال الرئاسة المفرطة التي تضعف الحكومة في مواجهة الشخصية الرئاسية.

4-هيمنة "الماكرونية" على صنع القرار الفرنسي: يعتبر الكاتب أن فائض القوة التي يتمتع بها كوهلر، يمكن تفسيره بأسباب أخرى غير الكفاءة؛ فهو يرتبط ارتباطاً مباشراً بعائلة أبونتي ومالك ومدير مجموعة الشحن MSC، وبوجه عام، فإن الماكرونية هي عنوان تتصدر فيه المصالح الخاصة حيزاً واسعاً في عملية صنع القرار السياسي. ويحاول الكاتب تصوير هذا الاقتران بأنه السبب في انهيار الهيئات الديمقراطية الفرنسية؛ حيث عادة ما تتحول البرلمانات والحكومات المنتخبة شعبياً إلى متفرجين أمام ما تقرره النخبة الحاكمة وفقاً لمصالحها الخاصة.

5- تصاعد دور الاستخبارات في الدبلوماسية الفرنسية: وفق الكاتب، فإن التركيز المفرط لعملية صنع القرار بشأن القضايا الدولية وحصره في الإليزيه فقط، والربط بين القضايا الدبلوماسية والمصالح الخاصة، ساهم في إضعاف دور فرنسا ووجودها حتى في دوائر نفوذها السابقة. ويعتبر الكاتب أن فرنسا تشهد عسكرة حقيقية من خلال سيطرة أجهزة المخابرات على الدبلوماسية؛ حيث يستمر في عهد ماكرون تصاعد نفوذ أجهزة المخابرات وجهات فاعلة مختلفة يتم تنشيطها مباشرة من قِبل الإليزيه.

سياسات الشرق الأوسط

استعرض الكتاب بعض السياسات الفرنسية تجاه منطقة الشرق الأوسط؛ وذلك على النحو التالي:

1- مراقبة فرنسا الانسحاب الأمريكي من المنطقة: يُسلط الكاتب الضوء على مسألة الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط، واهتمام فرنسا بمتابعة تداعيات ذلك؛ فالأمريكيون – حسب الكاتب – ينسحبون من الشرق الأوسط من منظور أمني، لكنهم مهتمون بثلاث دول: تركيا وإيران وباكستان، ومن خلال المراهنة مرة أخرى على محور أنقرة وطهران وكراتشي، فإن واشنطن تحاول استخدام هذه الدول كمحور ضد القوى الأوروبية والآسيوية، مثل روسيا والصين.

2-تعزيز التعاون الفرنسي مع السعودية: يتتبع الكاتب الروابط الأولى بين فرنسا والمملكة العربية السعودية التي تعود إلى المساعدة المقدمة من GIGN لاستعادة السيطرة على المسجد الكبير في مكة في عام 1979. وبعد هذه المساعدة زادت السعودية من طلباتها للسلاح الفرنسي، إلا أن الكاتب ينتقد هذه الدبلوماسية الاقتصادية التي حلت محل أي رؤية لمكانة فرنسا في العالم، خاصةً أن المملكة تلعب لعبة مزدوجة، تحاول من خلالها الإيحاء للولايات المتحدة بأنها عثرت على بديل لها.

3- توظيف الدبلوماسية الموازية في لبنان: بحسب الكاتب، تم اتباع الدبلوماسية الموازية في لبنان، الذي زاره ماكرون بعد انفجار مرفأ بيروت مباشرة في أغسطس 2020، واضعاً نصب عينيه إحراز انتصار دبلوماسي يُخرجه من الانتكاسة التي مُني بها عهده إبان أزمة السترات الصفراء، وعلى أمل أن تحظى فرنسا من وراء حل الأزمة السياسية في لبنان بمهمة إعادة إعمار هذا البلد عبر المؤسسات والشركات الفرنسية، ولكن خطأ ماكرون كان يتمثل في عدم الالتفات إلى تقارير وتقديرات الدبلوماسيين الفرنسيين، والعمل مع كوهلر على الاستحواذ على خطة إعادة إعمار مرفأ بيروت. ووفق الكاتب، تراجع عقب ذلك النفوذ الفرنسي في الشرق الأوسط، وابتعد بأشواط عن مكانة فرنسا في زمن جاك شيراك التي لم يكن من ممكن حصول شيء في الشرق الأوسط من دونها.

4-مزج الدبلوماسية بالأعمال في ليبيا والجزائر: لفت الكاتب إلى مسألة التعاطي الفرنسي مع أفريقيا؛ حيث قام إيمانويل ماكرون بمزج الدبلوماسية بالأعمال، وإنشاء روابط مع الأشخاص الخطأ. هذا الشيء يجده المؤلف يتكرر في الجزائر وليبيا، والنتيجة هي نفسها دائماً: استمرار الدبلوماسية الموازية أو غير الرسمية مع بلدان أفريقية أخرى بعد أن تثبت في كل مرة عدم فاعليتها.

معضلة الطاقة

أصبح ملف الطاقة من الملفات الحيوية التي تواجه فرنسا فيه العديد من التحديات؛ وذلك على النحو التالي:

1- معارضة فرنسا بناء خط "نورد ستريم 2": يسرد مارك أندويلد في الفصل الثامن تفاصيل الصراع على الطاقة في أوروبا؛ حيث عارضت فرنسا بناء خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2″؛ لأن من شأنه أن يمنح برلين فرصة إضافية للسيطرة الأوروبية على المدى الطويل. ومن ناحية ثانية، فإن ألمانيا عملت على عرقلة خط أنابيب السيل الجنوبي من أجل تعزيز قوة خط أنابيب السيل الشمالي 2 الذي يتوقف فيها. ومع بداية عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن وقبل اندلاع الحرب الأوكرانية، استطاعت ميركل إقناع بايدن بسحب المعارضة الأمريكية للسيل الشمالي 2؛ الأمر الذي جعل فرنسا تجد نفسها معزولة بين روسيا والولايات المتحدة بعد أن فشلت في التوصل إلى اتفاق مع ألمانيا في هذا المجال.

2- معضلة الاعتماد بشكل متزايد على الغاز الروسي: المشكلة الرئيسية التي تواجه أوروبا في مسألة الطاقة، حسب الكاتب، تعود إلى اعتمادها بشكل متزايد على الغاز الروسي على مدى السنوات الـ20 أو الـ30 الماضية؛ وذلك بسبب التوجه الألماني بالتخلي عن الطاقة النووية، وتقليل التعاون مع الدول المنتجة للغاز في شمال أفريقيا، كالجزائر، وانخفاض احتياطيات الغاز الأوروبية في بحر الشمال، بالإضافة إلى طبيعة العقود لشراء الغاز المسال المختلفة عن العقود الطويلة الأجل على مدى 20 أو 30 عاماً، التي تعوَّد عليها الأوروبيون.

3- تداعيات سلبية للحرب الأوكرانية في مجال الطاقة: أظهرت الأزمة الأوكرانية أن فرنسا وأوروبا عالقتان بين الولايات المتحدة وروسيا؛ لأن المطالب بتحقيق الانتقال في الطاقة، ضاعف الاعتماد على الغاز الطبيعي باعتباره ضرورياً لإحداث هذا الانتقال على الرغم من كونه طاقة كربونية، ومن ثم فإن إيجاد بدائل عن الغاز الروسي والغاز المُسال الأمريكي أصبح أمراً في غاية الصعوبة. ويشير الكاتب إلى أن قضايا الطاقة في فرنسا لا تتأثر فقط بالنقاشات بين المطلعين والخبراء؛ حيث توجد جماعات ضغط تستخدم الصحافة للتأثير على السلطات العامة والرأي العام الفرنسي؛ فعلى سبيل المثال، شهدت الصحافة الفرنسية في عام 2018 وصول رجل أعمال متخصص في مجال الطاقة اسمه دانيال كريتينسكي، وهو يمتلك مجموعة طاقة كبيرة في جمهورية التشيك، بالإضافة إلى وجود مصالح له في فرنسا، وهو يستثمر في صحيفة لوموند واشترى مجلة ماريان ومنشورات فرنسية أخرى.

4- عدم اتخاذ خيارات صحيحة للطاقة النووية الفرنسية: بالنسبة إلى فرنسا فإن قطاعها النووي آخذ في الشيخوخة، ويرى الكاتب أن فرنسا لم تتخذ الخيارات الصحيحة في الوقت المناسب فيما يخص الطاقة النووية؛ فسلاسل التوريد عفا عليها الزمن تماماً، ومعدل تشغيل محطات الطاقة النووية ينخفض شهراً بعد شهر، بالإضافة إلى تراكم المشاكل الفنية؛ ما يتسبب في إغلاق العديد من المفاعلات مؤقتاً. وينوه الكاتب أن على فرنسا التي يُنظر إليها على أنها مستقلة بفضل الطاقة الكهربائية التي تنتجها الطاقة النووية، أن تنتبه لنفسها؛ لأن هذا المسار غير مضمون في استمراريته؛ حيث يمر قطاع الطاقة النووية الفرنسي بأزمة وجودية وصناعية عميقة.

5- مساعي "ماكرون" الحثيثة لخصخصة قطاع الطاقة: لم تشهد الحملة الانتخابية لرئاسة فرنسا لعام 2017 نقاشاً حول الطاقة بين المتنافسين. ومع ذلك، فإن ما كشفه أندويلد في كتابه هو وجود مشروع يسمى هرقل Hercule يسعى ماكرون إلى تحقيقه، وينص على تفكيك مجموعة EDF (أي شركة كهرباء فرنسا) وتأميم القطاع النووي فيها والتوجه إلى خصخصة قطاع الطاقات المتجددة. ويقول المؤلف إن ماكرون لعب دوراً مباشراً في تطوير خطة هرقل بالاتفاق مع أليكسيس كوهلر، وبأنه في البداية، اعتقدت النقابات بحسن نية أن الحكومة الفرنسية ستعيد إطلاق الصناعة النووية، لكن هذه الخطة في الواقع كانت تهدف إلى استغلال ملكية الدولة لهذا القطاع لإضفاء الطابع الاجتماعي على الخسائر وتحميلها للدولة. أما الأرباح فتذهب إلى الأطراف التي دخلت في عملية الخصخصة. ويقول الكاتب إن عقيدة ماكرون في الطاقة واضحة للغاية: زعزعة استقرار المجموعة العامة EDF وحصر أنشطتها في الجانب النووي وتمويلها على حساب دافعي الضرائب من دون أن يكون لهم رأي في إدارة هذه المؤسسة.

6-توجُّه إلى الاعتماد على الصين لإنتاج الطاقة النووية: يحاول الكاتب الإيحاء بأن هناك رغبة خفية لتدمير كامل للصناعة النووية الفرنسية، وبأن هناك توجهاً لدى البعض داخل فرنسا للاعتماد على الصين لإنتاج الطاقة النووية. ويذكر الكاتب أن مشروع المفاعل الأوروبي المضغوط (EPR) في إنجلترا هو في البداية مشروع فرنسي–صيني، قبل أن يقرر الإنجليز إزاحة الصينيين من المشروع، كما يسرد الكاتب معطيات تشير إلى أن فرنسا تعمل على إلزام الشركات الصينية بإدارة مشكلة تقادم محطات الطاقة النووية لديها. ويذكر مارك أندويلد مسألة بيع الفرقاطات الفرنسية إلى تايوان، موضحاً أنه إذا سمحت الصين بحدوث ذلك، فلأنها تعلم بوجود فساد في الصفقة؛ ما قد يُمكِّنها بعد ذلك من ابتزاز السياسيين الفرنسيين المتورطين الذين سيجدون أنفسهم في أيدي الصينيين، طال الزمان بهم أم قصر.

تحركات واشنطن

عدَّد الكتاب الأدوات الأمريكية الممنهجة للتأثير سلباً على المصالح الفرنسية؛ وذلك على النحو التالي:

1- استهداف واشنطن المصالح الاقتصادية الفرنسية: يسلط جزء مهم من الكتاب الضوء على دور الولايات المتحدة في زعزعة استقرار أكبر المجموعات الصناعية الاستراتيجية الفرنسية، مثل إيرباص Airbus، وألستوم Alstom، وألكاتيل Alcatel؛ حيث استخدم الأمريكيون على مدى الثلاثين سنة الماضية، وخصوصاً بعد الأزمة المالية 2008، السلاح القانوني من خلال ما يسمى "تجاوز الحدود الإقليمية" l’extraterritorialité لقانون مكافحة الفساد، كما ظفوا قدراً كبيراً من مواردهم الاستخباراتية، لا سيما التجسس الإلكتروني، لاستهداف المصالح الاقتصادية الفرنسية.

2- هدف أمريكي بوضع "إيرباص" تحت وصاية بوينج: يصف الكاتب رئيس شركة إيرباص السابق توم إندرز بأنه صديق للأمريكيين، وبأنه حليف للولايات المتحدة، وكان حلمه أن يصبح رئيساً لشركة بوينج. ولقد قام إندرز في عام 2014، بتدقيق مالي كبير عن الوكلاء التجاريين الذين يتعاملون مع شركة إيرباص عبر مكتب محاماة موجود في نيويورك وبمحامين أمريكيين؛ من أجل الاستجابة والخضوع للقواعد الأمريكية الصارمة لمكافحة الفساد؛ حيث أدى هذا التدقيق إلى زعزعة استقرار الشركة بشكل دائم. ويعتبر أندويلد أنه كان من الممكن أن تسقط شركة إيرباص في أيدي شركة بوينج، إلا أن تعرض الأخيرة لمشاكل في تصنيع الطائرات الأمريكية أبعد هذا المصير عن الشركة الأوروبية.

يشير الكاتب إلى أن الهدف الأمريكي يتلخص في وضع شركة إيرباص تحت وصاية بوينج وتحويلها إلى مقاول تحت جناحها. ولقد تم تغريم الشركة الأوروبية 3.6 مليار يورو في السنوات الأخيرة، ومن الممكن أن تفرض العدالة الأمريكية غرامات أقسى على إيرباص في السنوات القادمة؛ حيث بات من الواضح أن الأمريكيين لن يتركوا فريستهم تنجو بسهولة، كما أن مسؤوليها وكوادرها من الإداريين أصبحوا يخشون ورود أسمائهم على لوائح العقوبات الأمريكية الخاصة بالفساد.

3- دور لأمريكا في "نزع السلاح الصناعي" الفرنسي: تلخص قضية ألستوم Alstom – وهي شركة متعددة الجنسيات، أغلب اهتمامها في قطاعيّ المواصلات وتوليد الطاقة – عملية نزع السلاح الصناعي الذي تتعرض له فرنسا. ويُحمِّل مؤلف الكتاب النخب الاقتصادية والسياسية التي كانت تروج خلال الثلاثين عاماً الماضية لمبدأ "شركات بلا مصانع، مسؤولية هذا التراجع الاستراتيجي. فالأمريكيون ليسوا الوحيدين الذين يجب أن يُلَاموا على فقدان فرنسا شركاتها الاستراتيجية الكبرى، بل أيضاً القادة الفرنسيون الذين خلطوا بين المصالح الخاصة والمصالح الاستراتيجية والطاقوية والاقتصادية للدولة الفرنسية، ومن دون أي اعتبار لرأي الشعب الفرنسي.

4- عمليات تجسس أمريكية في الموانئ الفرنسية: يرى الكاتب أن فرنسا تمثل مركزاً حقيقياً لتقاطع الكابلات البحرية التي تشكل البنية التحتية الأساسية للإنترنت، وامتلكت فرنسا خبرة فريدة في هذا المجال من خلال شركة ألكاتيل Alcatel التي لعبت دوراً رئيسياً في تطوير الاتصالات في فرنسا وحول العالم. ولا تزال فرنسا تتمتع بموقع جغرافي يسمح لها بأن تكون مركزاࣧ للإنترنت، وهو ما يجعلها موضع اهتمام من جميع أجهزة الاستخبارات في العالم، بما في ذلك وكالة الأمن القومي الأمريكي NSA. ويكشف الكاتب أن هذه الوكالة لديها عقود سرية مع وكالة الاستخبارات الخارجية الفرنسية DGSE لتسهيل عمليات التجسس على الكابلات البحرية التي تتصل بالأرض في العديد من الموانئ الفرنسية.

ويعتبر الكاتب أن من أهم نقاط ضعف الجانب الفرنسي أمام الأمريكيين في هذا المجال، يتمثل في توقف DGSE عن التجسس على المصالح الاقتصادية الأمريكية؛ حيث إن المحاولات الأخيرة لذلك جرت في الثمانينيات، وانتهت بفشل ذريع. وبعد ذلك الوقت، تم اكتشاف عملاء فرنسا السريين في الشركات الأمريكية من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي. ووفقاً لمسؤول استخباراتي فرنسي كبير، لم تعد الأجهزة الفرنسية تجرؤ على التجسس على نشاط الأمريكيين؛ خوفاً من اكتشاف أنشطتها ومن الانتقام الأمريكي من فرنسا من جراء ذلك. ويتعرض إيمانويل ماكرون في الكتاب لسيل من الانتقادات؛ لكونه عندما كان وزيراً للاقتصاد في عهد فرنسوا هولاند، أشرف على ملفات كل من ألستوم وألكاتيل وإيرباص ولافارج، التي عَرفت جميعها عمليات استحواذ خارجية غير مسبوقة لم تشهدها فرنسا من قبل.

وختاماً، فإن الكاتب أشار إلى أننا نشهد حرباً باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين. وبحسب الكاتب، يكمن الاختلاف الكبير مع الحرب الباردة السابقة ضد الاتحاد السوفييتي في أن الولايات المتحدة كانت سابقاً بحاجة إلى أوروبا قوية لتشكيل كتلة صلبة معها. أما اليوم في هذه الحرب الباردة الجديدة ضد الصين، فإن أوروبا القوية تعد كابحاً للولايات المتحدة أكثر من كونها أحد مقومات الدعم، مذكراً بأن ترامب أعلن لقناة سي بي إس CBS في يوليو 2018 أن "الاتحاد الأوروبي عدو".

المصدر:

Marc Endeweld, L`Emprise: Macron pris au piège d une nouvelle guerre froide économique, Points Documents, Paris, 2023

كيف تواجه فرنسا الحرب الباردة الاقتصادية؟