خلال الفترة بين عامي 2000 و2020، زاد الدين الخارجي لأفريقيا لأكثر من خمسة أضعاف؛ ما شكَّل قرابة 65% من ناتجها المحلي الإجمالي في عام 2022. وبعد مرور نحو ثلاث سنوات على تفشي جائحة كوفيد–19، فإن أزمة الديون في دول أفريقيا جنوب الصحراء لا تزال في تفاقم وتصاعد مستمر، رغم الجهود المحلية الدولية المبذولة؛ حيث أصبحت المالية العامة في كثير من الدول الأفريقية، تُكابِد تداعيات الصدمات العالمية، في ظل ارتفاع تكاليف فوائد الديون، وزيادة تكلفة واردات الغذاء والطاقة، وانخفاض قيمة العملة. ومع ارتفاع الدين العام الناتج عن انخفاض عائدات الضرائب وارتفاع أسعار الفائدة، تقف التنمية في دول أفريقيا جنوب الصحراء أمام عائق رئيسي؛ حيث تَحُد الأوضاع المالية المتعثرة من قدرة الحكومات على الاستثمار في الخدمات الأساسية، كالرعاية الصحية والتعليم. ويُذكَر في هذا الصدد أن أفريقيا تُنفق حالياً على تكاليف خدمة الدين أكثر مما تنفق على الرعاية الصحية؛ ما يزيد مخاطر تفاقم الديون على مستقبل التنمية في القارة السمراء.

مؤشرات رئيسية

ثمَّة مؤشرات رئيسية توضح حالة الديون الأفريقية في الوقت الراهن، وهو ما يمكن الوقوف على أبرزه من خلال ما يأتي:

1– استمرار ارتفاع متوسط نسبة الدين إلى الناتج المحلي: أدت محدودية تعبئة الإيرادات الحكومية إلى التسبب في زيادة الدين بالعملة المحلية بشكل كبير من 35% من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط في عام 2019 إلى 42% في عام 2021. وبحسب الاتحاد الأفريقي، نقلاً عن تحليل بحثي حديث، فإن متوسط نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في أفريقيا، من المتوقع أن تظل مرتفعة عند 65% في عام 2024، وهو ما يرجع إلى تزايد احتياجات التمويل المرتبطة بارتفاع فواتير واردات الغذاء والطاقة، وارتفاع تكاليف خدمة الدين، وانخفاض أسعار الصرف؛ حيث تواجه العديد من الدول الأفريقية صعوبات في الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية بسبب التصنيفات الائتمانية غير المواتية وعدم كفاءة البنية المالية العالمية.

2– تضاعف نسبة مدفوعات فوائد الديون إلى الإيرادات الحكومية: وفقاً لصندوق النقد الدولي، فإن نسبة مدفوعات فوائد الديون إلى الإيرادات الحكومية في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، التي تبلغ نحو 10.5%، قد تضاعفت خلال العقد الماضي، حتى أصبحت نحو ثلاثة أضعاف مثيلتها في الدول المتقدمة.

وفي هذا الصدد، تتوقع وكالة التصنيف الائتماني فيتش أن تصل النسبة إلى 40% في نيجيريا، و28% في كينيا، على سبيل المثال، في عام 2024. ووفقاً لتوقعات منظمة أوكسفام الدولية – وهي منظمة غير حكومية لمكافحة الفقر – فإن الإنفاق العام بالقيمة الحقيقية سينخفض على مدى السنوات الخمس المقبلة في 26 دولة بمنطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا.

3– تراجع السيولة النقدية في معظم الاقتصادات الأفريقية: بحسب صندوق النقد الدولي، فإن السيولة النقدية قد جفت بالنسبة إلى معظم الاقتصادات الأفريقية، من جراء الصدمات العالمية خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، بما في ذلك تفشي جائحة كورونا، والحرب في أوكرانيا، والإنفاق الحكومي المدفوع بمزيد من الديون، الذي غالباً ما يكون بعوائد ضعيفة، وهو ما نجم عنه تراكم تركة ثقيلة من الديون في كثير من البلدان الأفريقية، مثل غانا وزامبيا اللتين تعانيان بالفعل من أزمة التخلف عن السداد.

4– تداعيات ارتفاع أسعار الفائدة على فرص الاقتراض والاستثمار: أدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى حرمان معظم البلدان في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا من أسواق الديون العالمية؛ حيث لم يصدر أي منها سندات نموذجية مقومة بالدولار منذ أوائل عام 2022. وهو ما يمثل مؤشراً سلبياً؛ إذ يعني أنه إذا تمكنت تلك البلدان من الاقتراض تجارياً، فإن أي مشاريع ممولة بالديون ستحتاج إلى تحقيق عوائد أعلى، وهو ما يعني تحدياً آخر كبيراً وسط تباطؤ النمو الاقتصادي والتنمية في المنطقة.

5– انخفاض المدفوعات من القروض الصينية: في السابق، كانت القروض الصينية أحد البدائل لأفريقيا، غير أنه مع اتجاه الصين لتجفيف تلك القروض، وانخفاض المدفوعات من القروض الصينية في عام 2022 إلى ما يقرب من 10% من إجمالي القروض الصينية إلى أفريقيا جنوب الصحراء في عام 2016، ومع معاناة الاقتصاد الصيني؛ فإن فرص انتعاش تلك القروض تظل ضعيفة، وهو ما يقيد بدوره البدائل أمام كثير من البلدان الأفريقية.

6– تأزم الاقتصاد الكلي في كثير من الدول الأفريقية: تعيش كثير من الدول الأفريقية في مأزق اقتصادي كبير؛ فبينما تعاني جنوب أفريقيا من أزمة انقطاع التيار الكهربائي وإدارة الحكم غير ذات الكفاءة؛ حيث يتوقع صندوق النقد الدولي نمواً بنسبة 1.8% فقط في عام 2024. وفيما لا تزال نيجيريا تعاني من مخاطر تصاعد الجماعات المسلحة وانتشار الاختطاف؛ فإن الدين العام يشكل مأزقاً كبيراً بالنسبة إلى حكومتها؛ حيث أنفقت نيجيريا نحو 96% من عائدات الضرائب على خدمة الديون، ومن المتوقع أن تستمر في إنفاق أكثر من 60% من الإيرادات على خدمة الديون حتى عام 2026.

7– التأثيرات السلبية لعدم الاستقرار السياسي: مثَّل 2023 عاماً شديد الصعوبة بالنسبة إلى كثير من البلدان الأفريقية، وسط انتشار أعمال العنف في منطقة الساحل؛ حيث هزَّت الانقلابات وسوء الحكم المدني الثقة بالديمقراطية، وهو العام الذي اختتم بانتشار الحرب الأهلية الكارثية في السودان، واجتياح القتال، في 15 ديسمبر من عام 2023، مدينة ود مدني التي تقع على بعد 200 كيلومتر جنوب العاصمة الخرطوم التي مزقتها الحرب.

وهكذا يمكن أن يزيد استمرار حالات عدم الاستقرار السياسي والأمني في أجزاء مختلفة من المنطقة من مخاطر التعثر عن سداد الديون في عام 2024.

8– انخفاض حصة أفريقيا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي: في جميع أنحاء المنطقة، وصلت مستويات الدين الحكومي إلى أعلى مستوياتها منذ عام 2001. وعلى خلفية ذلك، انخفضت حصة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى من الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى 1.9% فقط، مقارنةً بحصتها البالغة 18% من سكان العالم.

9– التعثر عن سداد الديون: وفقاً للبنك الدولي، تعاني تسع دول أفريقية في الوقت الراهن من ضائقة الديون، فيما تقف نحو 15 دولة أخرى عرضةً "لخطر كبير"؛ لعدم قدرتها على الوفاء بمتطلبات السداد.

وعلى سبيل المثال، أدى فشل إثيوبيا في سداد قسط بقيمة 33 مليون دولار، في انضمام الدولة إلى زامبيا وغانا، ضمن القائمة المتزايدة للمتخلفين عن سداد سندات اليورو، فيما حاولت السنغال ترتيب بعض احتياجاتها التمويلية لعام 2024 في وقت مبكر من أجل تجنب المخاطر المحتملة التي يعاني منها معظم المقترضين الأفارقة منذ سنوات. وبحسب وزير المالية والميزانية السنغالي "مامادو مصطفى با"، فإن السنغال قد اقترضت نحو 604.8 مليار فرنك أفريقي؛ ما يعادل 976 مليون دولار إضافية في عام 2023، لتغطية متطلبات خدمة الديون في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2024.

10– تقشف ميزانية بعض الدول الأفريقية: ثمَّة اتجاه واضح في بعض الدول الأفريقية، يتمثل في انتهاج بعض الحكومات سياسة التقشف في ميزانيتها؛ ففي أكتوبر من عام 2023، على سبيل المثال، أمر مجلس الوزراء الكيني الإدارات والوزارات الحكومية بخفض 10% من ميزانياتها التشغيلية للسنة المالية المنتهية في يونيو 2024. وفي أنجولا المعتمدة على النفط، بحسب وزيرة المالية الأنجولية فيرا ديفيس دي سوزا، انخفض إنتاج الخام فيها أقل من المتوقع، فيما تمر الدولة بتقشف شديد، يظهر جلياً في ضوء تجميد الدولة جزءاً من الإنفاق غير الاجتماعي خلال عام 2023، كالإنفاق الرأسمالي على المشاريع التي لم يكتمل إنجازها إلا بنسبة أقل من 80%؛ من أجل أن تصبح الدولة فقط قادرةً على الاستمرار في خدمة الدين ودفع الرواتب.

سيناريوهات متوقعة

تتجه السيناريوهات المستقبلية حول مستقبل الديون الأفريقية إلى مسارين رئيسيين يمكن استعراضهما على النحو التالي:

1– إمكانية تحسن حال الديون الأفريقية في 2024: ثمة اتجاه إيجابي يذهب إلى القول باحتمال تحسن حال الديون الأفريقية خلال عام 2024، ولكن شريطة أن يرتبط بذلك انخفاض أسعار الفائدة الأمريكية وضعف الدولار الأمريكي. ويدلل على ذلك ما أشار إليه رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، فيما يخص اعتزام الاحتياطي الفيدرالي خفض أسعار الفائدة بما يصل إلى 75 نقطة أساس في عام 2024، وهو الإعلان الذي غذَّى التفاؤل في الأسواق الناشئة والحدودية في أفريقيا. ولعل العلاقة الارتباطية بين الديون الأفريقية وأسعار الفائدة الأمريكية، يمكن تفسيرها في إطار دور الارتفاع في أسعار الفائدة في الولايات المتحدة في تعزيز قوة الدولار الأمريكي، وبالتبعية تسجيل العملات الأفريقية انخفاضات حادة أمام الدولار؛ ما يسفر عن ارتفاع تكلفة الواردات والسلع بالقيمة المحلية، ومن ثم ارتفاع مستويات التضخم، كما من شأن ارتفاع تكلفة خدمة الديون المقومة بالدولار على البلدان الأفريقية، أن تدفع القارة نحو ضائقة ديون كمحصلة نهائية,

من هذا المنطلق، يتجه ذلك السيناريو نحو توقع العديد من الإيجابيات المحتملة والمرتبطة بانخفاض أسعار الفائدة وضعف الدولار، يأتي على رأسها دور ذلك في انخفاض العائدات على الأصول الدولارية، الذي بدوره يمكن أن يشجع مستثمري المَحافظ على البحث عن كثب في الفرص المتاحة في الأسواق الأفريقية على أمل تأمين عوائد أعلى، كذلك انخفاض تكاليف خدمة الدين الأفريقية، بما يخفف أعباء الديون على دول المنطقة.

2– توقعات سلبية بشأن مستقبل الديون الأفريقية: يستند ذلك الاتجاه إلى عدد من التوقعات السلبية بخصوص مستقبل الديون الأفريقية في عام 2024، ويمكن الوقوف على أبرزها فيما يأتي:

أ– آفاق نمو متواضعة في أفريقيا جنوب الصحراء: انخفض الناتج المحلي الإجمالي لأفريقيا جنوب الصحراء من 4% في عام 2022 إلى 3.3% في عام 2023. ويتوقع البنك الدولي أن يصل الناتج المحلي الإجمالي إلى 4%، وهو الأمر الذي إذا تحقق فسيظل معدل النمو الاقتصادي في المنطقة شديد التواضع، مقارنةً بالنمو السكاني البالغ نحو 2.6%.

ومع افتقار غالبية الاقتصادات الأفريقية إلى ما تحتاجه من أجل تحقيق النمو الاقتصادي التحويلي، المتمثل في قوة عمل جيدة التعليم، وطرق موثوقة وكهرباء، وحكومة قوية تتمتع بموارد جيدة، وفي ظل محدودية الموارد والتمويل في أفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث لا يتوافر سوى عدد قليل من محركات النمو، فإن مقدرة كثير من دول أفريقيا جنوب الصحراء ستكون محدودة للغاية.

ب– إنفاق جزء كبير من الإيرادات على خدمة الديون الخارجية: من المتوقع أن تنفق نحو 19 دولة في أفريقيا أكثر من خمس إيراداتها في عام 2024 لصالح خدمة الديون الخارجية، ومن بينها إثيوبيا وساحل العاج وكينيا. وفي المتوسط، تذهب التوقعات إلى أن يتم إنفاق نحو 17% من الإيرادات في جميع أنحاء أفريقيا على خدمة الدين الخارجي في عام 2024.

ج– الاستمرار المتوقع في ارتفاع أسعار الفائدة: يتوقع ذلك السيناريو أن يكون النمو العالمي أضعف في عام 2024، وإن كانت هناك توقعات بأن يبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي في خفض أسعار الفائدة في عام 2024، إلا أن أسعار الفائدة من المرجح أن تظل مرتفعة مقارنةً بسنوات ما قبل جائحة كوفيد–19، وهو ما يعني ضمناً أن شروط تمويل السوق لدول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ستظل مكلفة ومقيدة بشدة. أما بالنسبة إلى الجهات السيادية التي تواجه تحديات السيولة الخارجية، فإن ذلك قد يدفع نحو زيادة الضغوط على أسعار الصرف، بما يفاقم التضخم ويجعل خدمة الدين الحكومي أكثر عبئاً.

د– احتمالية إعادة هيكلة الديون في عدة دول أفريقية: من المرجح أن تذهب بعض الدول الأفريقية إلى إعادة هيكلة الديون في عام 2024؛ وذلك على اعتبار أن إعادة هيكلة الديون أضحت ضرورة لإعادة أعباء الديون إلى مستويات يمكن تحملها، خاصة بالنسبة إلى البلدان الأفريقية المُثقلة بالديون، ومن ثم الحد من التأثير السلبي لزيادة خدمة الديون على البيئة الاجتماعية والاقتصادية الهشة فعلياً في كثير من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء. وبالتبعية فإن إعادة الهيكلة الوقائية للديون من شأنها أن تساعد على تجنب أزمة ديون ذات تداعيات اجتماعية واقتصادية كارثية، كما توفر حيزاً مالياً إضافياً مع تعافي البلدان من الصدمات المتداخلة السابقة والحالية وبناء قدرتها على الصمود والمواجهة.

ه– توقعات باستمرار تحديات التمويل: بحسب وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في تقريرها الصادر في 11 ديسمبر 2023، فإن من المتوقع أن تستمر تحديات التمويل أمام غالبية دول أفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث لن يكون لدى تلك البلدان قدرة أو إمكانية للوصول بأسعار معقولة إلى أسواق رأس المال الدولية دون تعزيزات الائتمان، في ضوء المعطيات السالفة الذكر فيما يخص آفاق النمو الاقتصادي في المنطقة في عام 2024، والمؤشرات الراهنة حول وضع الديون الأفريقية.

إجمالاً، يتوقف مستقبل الديون الأفريقية في عام 2024 على عدة معطيات؛ من بينها مقدار النمو الاقتصادي للمنطقة، ومدى قدرة الحكومات على التعامل مع التحديات الأمنية والسياسية في بلدانها، وكذلك الوضع الاقتصادي العالمي، ومقدار الاستقرار الجيوسياسي عالمياً، الذي يؤثر بشكل كبير على أسعار الفائدة الأمريكية وقيمة الدولار الأمريكي، فيما تظل بلدان أفريقيا جنوب الصحراء أمام تحدٍّ رئيسي يتمثل في الالتزام بجهود الإصلاح المالي، الذي يرتبط في كثير من الحالات ببرامج صندوق النقد الدولي، من أجل التخفيف من القيود التمويلية عليها.

الاتجاهات المتوقعة لمستقبل الديون الأفريقية في 2024