تعدد الفاعلين:

اختتم الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" يوم 2 نوفمبر 2023 جولته الأولى بآسيا الوسطى التي يبحث فيها عن تعزيز نفوذ بلاده بالمنطقة، وزار خلالها دولتي كازاخستان وأوزبكستان، وأكد رغبته في تعزيز الشراكة معهما، كما ثمن موقف الدولتين المتوازن من الحرب الأوكرانية في ظل علاقاتهما المتميزة بروسيا. وجولة "ماكرون" تضع فرنسا على خريطة القوى الإقليمية والدولية بالمنطقة التي تشهد زخماً من حيث التطورات الجيوستراتيجية، واهتماماً أوروبياً متصاعداً وسط احتدام التنافس بين روسيا والصين وتركيا على بسط النفوذ وتنفيذ مشروعات ممرات النقل الإقليمية لربط دول المنطقة الحبيسة بالقارة العجوز.


أبعاد استراتيجية

تصاعدت أهمية آسيا الوسطى بعد الحرب الأوكرانية نظراً إلى موقعها بالجوار الروسي وما تملكه من احتياطيات نفط وغاز طبيعي تعد بديلاً مناسباً للوقود الروسي الخاضع لعقوبات أوروبية، وقد بدأت فرنسا الاهتمام بدول المنطقة عام 2019؛ حين قام وزير الخارجية آنذاك بجولة على كافة دولها. وتنشط في تركمانستان بعثة أثرية فرنسية. وفي طاجيكستان قامت باريس ببناء برج القيادة بمطار دوشنبه، وفي قيرغيزستان أقامت باريس "المعهد الفرنسي لدراسات آسيا الوسطى" والمدرسة الأوروبية "الفرنسية-الألمانية". وتعد زيارة "ماكرون" التي رافقه فيها وفد كبير من رجال الأعمال ورؤساء شركات الطاقة الفرنسية الكبرى لكازاخستان هي الأولى لرئيس فرنسي منذ عام 2014، بينما هي الأولى لأوزبكستان منذ عام 1994، وشملت عدداً من الأبعاد الاستراتيجية والنتائج؛ وذلك كما يلي:


1- مساعي باريس لتعزيز مصالحها الاقتصادية: أعلنت الرئاسة الفرنسية في بيان لها قبل جولة "ماكرون" أن "باريس تسعى لدعم كازاخستان وأوزبكستان في جهودهما للإصلاح والتحديث، وستعمل على تعزيز التعاون الاقتصادي، لا سيما في مجال الطاقة، ودعم المنطقة لمواجهة التغيرات المناخية"، كما تعمل فرنسا على الانخراط بمشاريع النقل الإقليمية لنقل موارد الطاقة من آسيا الوسطى إلى الدول الأوروبية؛ حيث أكد "ماكرون" غير مرة "أنه ينبغي للصين وأوروبا العمل معاً بشأن مبادرة الحزام والطريق، ولا يمكن أن يكون اتجاهاً واحداً". والمشروع يخص مبادرة "الحزام والطريق" الصينية التي تعمل على ربط المنطقة بخطوط برية وسكك حديدية متعددة.


2- محاولة تعويض تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا: هناك عدد آخر من الدوافع يسعى "ماكرون" إلى تحقيقها خلال تلك الجولة، ومنها فتح آفاق جديدة لتعزيز النفوذ الفرنسي على الصعيد الدولي لتعويض ما فقدته فرنسا من نفوذ بدول الساحل الأفريقي التي شهدت تغيرات داخلية كان آخرها الانقلاب العسكري في النيجر في يوليو 2023 الذي أسفر عن انسحاب القوات الفرنسية من المنطقة، وتعزيز الوجود الفرنسي بآسيا الوسطى والقوقاز القريبة من أوكرانيا؛ حيث تتخذ باريس موقفاً مؤيداً للأخيرة ضد الحرب الروسية عليها، سيؤدي إلى تعزيز الدعم الفرنسي لأوكرانيا، كما تهتم باريس بتطورات الوضع الأمني والإنساني بأفغانستان وسيساهم وجودها بآسيا الوسطى في تعزيز تعاونها مع كابول في ذلك.


3- حرص مشترك على تطوير التعاون: استهل "ماكرون" جولته بزيارة كازاخستان يوم 1 نوفمبر 2023، وعقد اجتماعاً مع رئيسها "قاسم جومارت توكاييف" وأكد حيوية العلاقة مع الأستانة وضرورة استكمال وتسريع "الشراكة الاستراتيجية" معها، وجدد دعوته للالتزام "بميثاق الأمم المتحدة ومبادئها ووحدة الأراضي، والسيادة الوطنية"، وأبدى تفهمه "للصعوبات الجيوسياسية والضغوط التي قد تتعرض لها الأستانة"، في إشارة إلى الحرب الأوكرانية والمطالبات الأمريكية الأوروبية لدول المنطقة بالالتزام بالعقوبات المفروضة على روسيا ومنع الالتفاف عليها، في ظل العلاقات الاستراتيجية بين كازاخستان وأوزبكستان وموسكو.


بدوره، أوضح "توكاييف" أن "زيارة ماكرون تاريخية، وأن فرنسا شريك رئيسي وموثوق في الاتحاد الأوروبي"، ودعا باريس للمساهمة في تطوير "ممر وسط بحر قزوين" لنقل موارد الطاقة من دول المنطقة إلى الدول الأوروبية.


4- توقيع فرنسا وكازاخستان إعلاناً للتعاون بمجال المعادن النادرة: وقعت كازاخستان وفرنسا "إعلان نوايا للتعاون بمجال المعادن الاستراتيجية" وتم إبرام اتفاقيات مع شركات الطاقة الفرنسية (توتال، ألستوم) لضخ المزيد من الاستثمارات في كازاخستان بمشروعات التنقيب عن الغاز واستخراج اليورانيوم، الذي تواجه باريس نقصاً في مخزونه المستخدم في توليد 80% من الكهرباء لديها؛ وذلك بعد توقف النيجر عن توريد اليورانيوم إلى باريس الذي كان يمثل 24% من احتياجاتها السنوية، بينما تستورد من كازاخستان 23% من المعدن النادر سنوياً، وهي النسبة التي تعتزم زيادتها، وكذلك تستورد باريس نسبة من اليورانيوم الأوزبكي؛ حيث تحتاج فرنسا 10 أطنان يورانيوم سنوياً لخدمة المفاعلات النووية التابعة لشركة الكهرباء لديها، وتعمل على تعويض نقص إمدادات اليورانيوم من النيجر لديها عن طريق كازاخستان وأوزبكستان.


5- تطوير التعاون الاقتصادي والثقافي: بحث "ماكرون" و"توكاييف" تنفيذ مشاريع جديدة بين فرنسا وكازاخستان في قطاعات المواد الخام والزراعة والنقل والخدمات اللوجستية والصناعات الخفيفة والرعاية الصحية، كما تم توقيع اتفاقية بين حكومتي باريس والأستانة لإنشاء وتشغيل مجموعة وكالة التنمية الفرنسية، كما تعتزم باريس إنشاء مدارس دولية فرنسية بكازاخستان سيتم افتتاحها عام 2024، كما وقعتا اتفاقية مشتركة لمشروع إنشاء محطات لطاقة الرياح بقدرة إجمالية (1 جيجاواط). وتعد فرنسا خامس مستثمر أجنبي في كازاخستان بفضل شركة "توتال إنرجي" التي تستثمر بحقل "كاشاغان" في بحر قزوين، وبلغ حجم المبادلات التجارية بين الدولتين (5,3) مليار دولار عام 2022، واتفقت كازاخستان وفرنسا على خريطة طريق للتعاون الاقتصادي بينهما حتى عام 2030.


واختتم "ماكرون" جولته بزيارة أوزبكستان، واجتمع مع رئيسها "شوكت ميرضيائيف"، وتركزت مباحثاتهما على توسيع التعاون الاقتصادي والابتكاري والثقافي، وشارك الرئيسان في منتدى الأعمال "الفرنسي الأوزبكي"، وتم توقيع عدد من اتفاقيات التعاون الاقتصادي بينهما بقيمة 6 مليارات دولار معظمها في قطاع الطاقة. وجدير بالذكر أن "الوكالة الفرنسية للتنمية" تمول مشروعاً لمعالجة النفايات الحضرية ومشروعاً لتأهيل موقع "جبل بوستانليك" السياحي في أوزبكستان.


6- تعزيز التعاون الأمني والعسكري: أعلنت باريس تزويد كازاخستان برادارات عسكرية من طراز (جي إم 40)، وسيتم تركيب أجزائها بواسطة شركة "تاليس" الفرنسية في كازاخستان، التي ترتبط بحدود مشتركة مع روسيا بطول (7500)، كما أعلنت فرنسا تعزيز التعاون الأمني مع أوزبكستان وكازاخستان لمواجهة التهديدات الإرهابية وتهريب المخدرات، التي تعد أفغانستان مصدراً لهما حالياً، وقد حضرت فرنسا عسكرياً بالمنطقة خلال عامي (2001-2014)؛ حيث استضافت طاجيكستان وحدة جوية فرنسية في إطار العمليات العسكرية لحلف شمال الأطلسي في أفغانستان.


تداعيات مرتقبة

نجحت جولة "ماكرون" بآسيا الوسطى في تحقيق أهدافها الاقتصادية عبر توقيع عدد من الاتفاقيات، وهو ما سيكون له بعض التداعيات على العلاقات الخارجية الفرنسية، ومع ذلك ربما تنطوي الزيارة على بعض التحديات بالنسبة إلى باريس التي ربما تعرقل تحقيق هدفها الاستراتيجي المتمثل في تمركز النفوذ الفرنسي بالمنطقة كقوى أوروبية مؤثرة، ومنها ما يلي:


1- تزايد حدة التنافس الأوروبي في آسيا الوسطى: سبق جولة "ماكرون" في آسيا الوسطى، عقد القمة الأولى بين ألمانيا مع دول آسيا الوسطى وفق صيغة (C5+1)؛ حيث استقبل المستشار الألماني "أولاف شولتس" رؤساء دول آسيا الوسطى الخمس يوم 23 سبتمبر 2023 ببرلين، وبحثت القمة تقريباً الموضوعات التي كانت محل التعاون بين فرنسا وبين تلك الدول، ومنها التعاون الاقتصادي واستغلال موارد الطاقة بالمنطقة بدلاً من الغاز الروسي.


كما شهد عام 2023 زخماً في تطوير التعاون بين إيطاليا ودول المنطقة، وعُقدت قمتان بين الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى في 2022 وفي مايو 2023 وقام رئيس المجلس الأوروبي "شارل ميشال" بجولتين بالمنطقة؛ ما يبرز تنافساً أوروبياً على مد النفوذ إلى آسيا الوسطى، وربما تقوم فرنسا قريباً بعقد قمة مشتركة مع دول المنطقة بصيغة (C5+1) لوضع إطار مؤسسي لعلاقاتها مع دول المنقطة؛ ما يتطلب تنسيقاً أوروبياً فرنسياً ألمانياً لمنع حدوث تقاطع مصالح أو تنافس بين شركات الطاقة الألمانية والفرنسية العاملة بالمنطقة، وهو التقاطع الذي إن حدث فسيعرقل جهود الدول الأوروبية المتعددة لتكريس نفوذها بآسيا الوسطى.


2- وجود قوى إقليمية ضاغطة على التحركات الفرنسية: غداة انتهاء جولة "ماكرون" بالمنطقة، قام الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" بزيارة العاصمة الكازاخية الأستانة ليرأس القمة العاشرة لمنظمة "الدول التركية" التي عقدت يوم 3 نوفمبر الحالي تحت شعار "العصر التركي"، وشارك فيها رؤساء دول المنظمة كلهت، وهي (تركيا، وأذربيجان، وكازاخستان، وقرغيزستان، وأوزبكستان، والمجر، وتركمانستان، وجمهورية شمال قبرص التركية التي تحظى بصفة "عضو مراقب" في المنظمة)؛ ما يعزز التنافس الفرنسي التركي الذي نشط مؤخراً في مناطق مختلفة مثل سوريا وليبيا وشرق المتوسط؛ حيث تعتبر أنقرة آسيا الوسطى منطقة نفوذ لها، وعززت وجودها بالمنطقة بشتى المجالات، وسيمثل هذا تحدياً لباريس لتعزيز نفوذها بالمنطقة.


كما تشهد المنطقة تصاعداً للقوة الإقليمية لأذربيجان التي حققت انتصاراً على أرمينيا واستعادت إقليم "كاراباخ" منها؛ ولذا فقد توترت العلاقات بين فرنسا وأذربيجان، ورفضت الأخيرة عرض باريس التوسط كطرف محايد في الأزمة، بينما انتقدت فرنسا اضطهاد الأرمن "بكاراباخ"؛ ما ينذر باستمرار التوتر الفرنسي الأذري وانعكاس ذلك سلبياً على الوجود الفرنسي بآسيا الوسطى. وليس بعيداً عن ذلك مخاطر استهداف المصالح الفرنسية بالمنطقة من قبل التنظيمات الإرهابية المتمركزة بأفغانستان مثل (داعش، القاعدة)؛ ما يهدد وجودها واستثماراتها بالمنطقة، لا سيما خطوط النقل البري لموارد الطاقة التي يمكن أن تتعرض لأي عمل تخريبي يعرقل إمدادها لفرنسا.


3- تأجيج الخلاف مع روسيا: علق المتحدث باسم الكرملين الروسي "دميتري بيسكوف" على زيارة "ماكرون" إلى كازاخستان "بأنها قضية تخص دولة كازاخستان ذات السيادة التي تقوم بتطوير علاقاتها مع دول أخرى وفقاً لتقديرها الخاص"، وأكد أن الأستانة وموسكو تربطهما "شراكة استراتيجية وحلف"، ورغم هذا التصريح فإنه يعكس القلق الروسي من تصاعد الاهتمام الأوروبي الفرنسي بالمنطقة، وتعدد صور حضوره بها؛ بحيث يمثل منافساً للوجود الروسي، ويؤجج الخلافات مع موسكو التي تخوض "حرباً بالوكالة" على حد وصفها ضد حلف "الناتو" في أوكرانيا، وتعد فرنسا عضواً بارزاً بالحلف، وقدمت العديد من المساعدات العسكرية لكييف رغم حرص "ماكرون" على التواصل خلال فترة الحرب مع موسكو.


وقد برز الخلاف الروسي الفرنسي على بسط النفوذ بالمنطقة، في التنافس حول بناء محطات الطاقة النووية بكازاخستان وأوزبكستان؛ حيث أوضحت الأستانة أن شركة (أو دي إف) الفرنسية من الشركات المرشحة لمشروع بناء أول محطة نووية بكازاخستان، بيد أن استطلاعات الرأي الشعبية والميل الحكومي الكازاخي يؤكد قيام شركة روسية بتنفيذ المشروع بعد إجراء استفتاء عام بشأنه نهاية العام الحالي، بينما أكدت أوزبكستان مباشرة (أنه لا بديل لروسيا لبناء محطة نووية بها). ورغم هذا قد تلجأ باريس إلى الحوار مع موسكو لضمان وصول إمدادات الغاز الطبيعي واليورانيوم من منطقة آسيا الوسطى إليها؛ لأنه يُنقل حالياً عبر روسيا أو "الممر الأوسط" الذي تتحكم به موسكو أيضاً؛ ولذا فإن الوجود الفرنسي بالمنطقة ربما يؤدي إلى تأجيج الخلافات مع روسيا إلا إذا رغب "ماكرون" في معالجتها لتحقيق مصالح بلاده.


مما سبق، نجد أن "ماكرون" يعمل على تعزيز نفوذ فرنسا الدولي عبر تمدده في أقاليم جديدة، ومنها آسيا الوسطى، ووضع باريس على خريطة النفوذ الإقليمي والدولي بالمنطقة، وهذا سيحقق مصالح باريس ودول المنطقة عبر تكثيف الفرص الاقتصادية لها وتنويع سياستها الخارجية، بيد أنه ربما يؤجج الخلافات في العلاقات الفرنسية الخارجية مع القوى الإقليمية بالمنطقة.