د. حمدي بشير

حظيت الوساطة المغربية في حل الأزمات بمنطقة الساحل الأفريقي باهتمام متزايد من وسائل الإعلام في المنطقة؛ حيث سلّط موقع "Niger diaspora" في 4 يناير 2025، الضوء على الدور المحتمل للمخابرات المغربية في التوسط لإطلاق سراح الرئيس النيجري السابق "محمد بازوم". وقد بدأ المغرب منذ سبتمبر 2024 وساطته لدى المجلس العسكري الحاكم في النيجر من أجل إطلاق سراح "بازوم"، بعد نجاح وساطة مماثلة في بوركينا فاسو بإطلاق 4 ضباط فرنسيين. ويتزامن ذلك مع تراجع اهتمام فرنسا والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس" بالقضية، بجانب انسحاب توجو من الملف.عوامل محفزةيمكن القول إن تزايد دور الوساطة المغربية في منطقة الساحل الأفريقي يعود إلى جملة من العوامل والأسباب، ومن أهمها:1– الخبرة المتراكمة للمغرب كوسيط دبلوماسي: يمتلك المغرب خبرة كبيرة في الوساطة، بعد نجاحه في الماضي في تأمين إطلاق سراح رهائن غربيين؛ حيث نجح المغرب في أغسطس 2023، في التوسط لإطلاق سراح ضابط روماني كان محتجزاً منذ عام 2015 على يد جماعة مرتبطة بتنظيم القاعدة في بوركينا فاسو، كما ساهم المغرب في تحرير مهندس ألماني اختُطف في النيجر عام 2018 واحتُجز لمدة أربع سنوات؛ حيث تم إطلاق سراحه في نوفمبر 2022.وفي هذا السياق، فإن المغرب يعزز هذا الدور من خلال علاقات تاريخية وثقافية مع دول الساحل الأفريقي، تشمل الروابط الدينية عبر الزوايا المغربية، والعلاقات الاقتصادية مع العائلات التجارية الكبرى في دول مثل غينيا وساحل العاج ومالي.2– التقارب المتنامي بين المغرب ودول الساحل: على النقيض من فرنسا، لم يُدِن المغرب الانقلابات الأخيرة، بل سعى بدلاً من ذلك إلى التعامل مع الأنظمة الجديدة. وقد سمح هذا النهج للمغرب بالحفاظ على قنوات الاتصال المفتوحة وتنمية النفوذ مع هذه الجهات الفاعلة القوية. وبعيداً عن المناورات الدبلوماسية، عمل المغرب بنشاط على توسيع حضوره الاقتصادي في منطقة الساحل؛ حيث يعزز الاستثمارات في مجالات الاتصالات، والخدمات المصرفية، والبنية الأساسية؛ ما يخلق علاقات اقتصادية مفيدة للطرفين مع المنطقة.كما عرض المغرب مبادرة مبتكرة تهدف إلى تسهيل وصول دول الساحل إلى الموانئ الأطلسية المغربية؛ ما وفر لهذه الدول فرصاً جديدة للتكامل مع الاقتصاد العالمي. وقد عززت هذه الخطوات دور المغرب كفاعل اقتصادي واستراتيجي موثوق، قادر على تقديم حلول عملية للتحديات التي تواجه المنطقة. ونتيجةً لذلك، أصبح المغرب نموذجاً للتعاون المثمر؛ حيث تنظر إليه دول الساحل كشريك محايد يمكن الاعتماد عليه في بناء مستقبل أفضل للمنطقة.3– تعزيز العلاقات الثنائية بين فرنسا والمغرب: شهدت العلاقات الفرنسية–المغربية تطوراً ملحوظاً مع عودة الدفء إليها بعد ثلاث سنوات من التوتر، وهو ما تجسد في زيارة الرئيس الفرنسي إلى المغرب في نهاية أكتوبر 2024. وقد كانت هذه الزيارة بمنزلة نقطة تحول في مسار العلاقات بين البلدين؛ حيث عكست رغبة مشتركة في تجاوز الخلافات السابقة وتعزيز التعاون الثنائي.وتسعى فرنسا من خلال هذه الديناميكية الجديدة إلى تعزيز شراكتها مع المغرب؛ ليس فقط كحليف إقليمي، بل كشريك استراتيجي قادر على لعب دور محوري في القضايا الأفريقية. وقد استفاد المغرب، من جانبه، من هذا التحول لتعزيز موقعه كفاعل رئيسي في الدبلوماسية الإقليمية، مستفيداً من دعم باريس لجهوده الدبلوماسية، بما في ذلك وساطاته في منطقة الساحل.4– التوترات الدبلوماسية بين فرنسا ودول الساحل: واجهت فرنسا، التي لطالما اعتُبرت القوة المهيمنة في منطقة الساحل، نقطة تحول دبلوماسية حاسمة في السنوات الأخيرة؛ فقد تراجع نفوذها بوضوح في ظل تصاعد الانتقادات لدورها الاستعماري السابق وعجزها عن التعامل بفاعلية مع التحديات الأمنية والسياسية المتزايدة في المنطقة. ومن العوامل التي زادت تعقيد الوضع، اعتماد فرنسا لفترة طويلة على النظام العسكري الجزائري لضمان نفوذها في الساحل. ومع تراجع قدرة الجزائر على لعب دور إقليمي مؤثر، اضطرت باريس إلى البحث عن شركاء جدد.وفي هذا السياق، برز المغرب كخيار استراتيجي لفرنسا؛ نظراً إلى قدرة الرباط على بناء قنوات تواصل فعالة مع الأنظمة العسكرية الجديدة في دول مثل بوركينا فاسو ومالي والنيجر. ويُنظر إلى المغرب على أنه وسيط محايد وقادر على لعب دور توافقي في منطقة أصبحت أكثر وعياً بالقضايا الجيوسياسية، وتسعى إلى تحرير نفسها من النفوذ الأجنبي، وخاصةً النفوذ الفرنسي.5– نجاح وساطة المغرب بين فرنسا وبوركينا فاسو: تمكَّن المغرب من تعزيز مكانته كوسيط أساسي في منطقة الساحل الأفريقي من خلال دوره الفاعل في تأمين إطلاق سراح 4 من عملاء الاستخبارات الفرنسية المحتجزين في بوركينا فاسو، في 19 ديسمبر 2024. وجاء هذا النجاح بعد فترة طويلة من الجمود الذي عرقل جهود القوى الدولية، ليُظهر المغرب قدرته على التعامل مع التعقيدات السياسية والأمنية في المنطقة. وقاد هذه الوساطة العاهل المغربي "محمد السادس"، مستنداً إلى قنوات دبلوماسية سرية ومباشرة بين السلطات المغربية ونظيرتها البوركينية.ويُعتبر هذا الإنجاز دليلاً واضحاً على تنامي النفوذ المغربي في الساحل؛ حيث أثبتت الرباط قدرتها على ملء الفراغ الدبلوماسي الذي خلفته توترات العلاقات بين فرنسا والمجالس العسكرية الحاكمة في دول المنطقة. ويعزز نجاح هذه الوساطة صورة المغرب كطرف موثوق وقادر على التوسط في القضايا الحساسة، خصوصاً في ظل تعقيد الأوضاع الإقليمية وصعوبة التعامل مع الأزمات التي تشمل احتجاز الرهائن.6– تراجع الحضور الجزائري في منطقة الساحل: يشير مراقبون إلى التراجع الواضح في الدور الجزائري بمنطقة الساحل الأفريقي، وهو تراجع يعكس عدم قدرة الجزائر على التكيف مع التحولات الجيوسياسية التي شهدتها المنطقة. ومن هذه التحولات الانقلابات العسكرية التي جرت في دول مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر، والتي أدت إلى تدهور علاقات الجزائر مع هذه الدول؛ ففي حالة مالي، وصلت التوترات إلى مستويات غير مسبوقة، نتيجة اتهام السلطات المالية الجزائر بدعم جماعات وُصفت بالانفصالية. وفي النيجر، زادت التوترات بعد طرد السلطات الجزائرية مواطنين نيجريين؛ ما أثار استياء المجلس العسكري هناك.ورغم المحاولات الجزائرية لتهدئة الأوضاع، كما تجلَّى في زيارة رئيس وزراء النيجر "علي الأمين زين" إلى الجزائر في أغسطس 2024، ولقائه الرئيس "عبد المجيد تبون"، فإن المؤشرات تشير إلى احتمال تصاعد التوتر مجدداً. ويتزامن هذا التدهور في العلاقات مع التحديات الأمنية المتزايدة في النيجر؛ حيث تصاعدت الهجمات التي تشنها جماعات مرتبطة بتنظيمي داعش والقاعدة، كما تواجه الجزائر موجات جديدة من الهجرة غير الشرعية؛ ما يضيف عبئاً أمنياً واقتصادياً إضافياً.بالإضافة إلى ذلك، تعجز الجزائر عن تحديد دور فعال لها وسط التحولات الاستراتيجية التي تشهدها المنطقة، بما في ذلك التناقضات بين المصالح الأمريكية والروسية في الساحل. ويضع هذا الوضع المعقد الجزائر أمام خيارات صعبة؛ حيث تجد نفسها عالقة بين ضرورة تأمين حدودها والحفاظ على مصالحها الإقليمية، وبين تراجع نفوذها في بيئة جيوسياسية متغيرة.نافذة فرصوختاماً، يواجه المغرب تحديات معقدة في ترسيخ دوره كوسيط في تسوية الأزمات بمنطقة الساحل الأفريقي، خاصةً فيما يتعلق بالقضايا الحساسة، مثل المفاوضات مع الجماعات الجهادية؛ إذ يعكس النهج المتحفظ الذي يتبناه المغرب في الإعلان عن دوره في مثل هذه المفاوضات، حرصه على تجنب إثارة حساسيات إقليمية ودولية، لكنه قد يحد في الوقت نفسه من قدرته على تعزيز صورته كوسيط فاعل في الأزمات الكبرى.ورغم صعوبة ملف "بازوم" مقارنةً بقضية الضباط الفرنسيين الذين نجح المغرب في الإفراج عنهم، قد تكون الظروف الراهنة مواتية لنجاح وساطة يتخلص خلالها المجلس العسكري في النيجر من ثقل وجود رئيس منتخب لا يزال يطالب بالسلطة. وعلى أي حال، فإن تراجع دور العديد من القوى الدولية والإقليمية، علاوةً على التقارب المتنامي بين المغرب ودول الساحل، يمثل فرصاً ملائمة يمكن للمغرب استثمارها في تعزيز حضوره الدبلوماسي المدعوم غربياً في المنطقة.

لماذا يتزايد دور المغرب في الوساطة الدبلوماسية في الساحل الأفريقي؟