د. حمدي بشير

أجرى رئيس أرض الصومال عبد الرحمن محمد عبد الله "عرو"، في 29 مايو 2025، زيارة رسمية إلى كينيا، التقى خلالها الرئيس الكيني وليام روتو في العاصمة نيروبي. وبحث الجانبان سبل تعزيز العلاقات الثنائية، مع التركيز على ملفات التجارة، والأمن، والتعاون الإقليمي. وفي اليوم التالي، 30 مايو 2025، افتتح عرو مكتباً للاتصال الدبلوماسي لأرض الصومال في نيروبي، في خطوة تُعَد علامة فارقة في تعزيز الحضور الدولي لأرض الصومال؛ إذ شدد عرو خلال حفل الافتتاح على الأبعاد الرمزية والاستراتيجية لهذه الخطوة، معتبراً إياها محطة رئيسية في مسار تعزيز التواصل الدبلوماسي لأرض الصومال.وتُعد هذه الزيارة – وهي الأولى لعرو إلى كينيا منذ توليه منصبه – تطوراً مهماً في مسار العلاقات بين الطرفين، اللذين تجمعهما روابط تاريخية من التعاون غير الرسمي. وقد ركزت المباحثات التي عُقِدَت في قصر الرئاسة بنيروبي على دعم الاستقرار الإقليمي، وتعزيز التعاون الاقتصادي، وتعميق الشراكة الثنائية. ووصف عرو المحادثات بأنها "مثمرة"، مؤكداً توصُّل الجانبين إلى "تفاهم جيد" بشأن المصالح المشتركة. دلالات عديدةثمة دلالات عديدة يمكن قراءتها من زيارة رئيس أرض الصومال إلى كينيا في هذا التوقيت، ومن أبرزها:1– سعي هرجيسا إلى الحصول على الاعتراف الكيني بأرض الصومال: تشير زيارة عرو إلى كينيا في هذا التوقيت إلى دلالة هامة، وهي رغبة أرض الصومال في الحصول على اعتراف كينيا بها كدولة مستقلة، وخاصةً أن السياسة الخارجية تعطي قضية الاعتراف بأرض الصومال كدولة أولوية خاصة، وكذلك الضغط بشكل نشط على الاتحاد الأفريقي والمجتمع الدولي لإعادة تقييم اتحادها التاريخي مع الصومال. وتكشف التحركات الأخيرة، مثل افتتاح مكتب دبلوماسي في نيروبي، جهود أرض الصومال والعقبات الدبلوماسية الكبيرة التي لا تزال تواجهها.&nbsp;وقد أكد مسؤولون في أرض الصومال بالفعل أن عرو قدَّم رسالة رسمية إلى الرئيس الكيني وليام روتو طلب فيها الاعتراف بأرض الصومال كدولة مستقلة. وفي هذا السياق، افتتحت أرض الصومال مكتب اتصال دبلوماسياً في نيروبي بمباركة خافتة من الرئيس ويليام روتو. وبرغم نفي وزارة الخارجية الكينية صحة هذه الأخبار، احتفت هرجيسا بهذه الخطوة باعتبارها خطوة تاريخية في حملتها المعلنة والمستمرة للحصول على الاعتراف الدولي. وقد أشاد عرو بافتتاح المكتب الدبلوماسي في 30 مايو 2025، واصفاً إياه بأنه "سفارة لشعبنا ومصالحنا في المنطقة".وحضر الحفل نواب كينيون موالون لروتو، منهم حاكم ولاية أوسين جيشو "جوناثان بي"، وعضو مجلس الشيوخ عن ولاية مارسابيت محمد سعيد شوت، في حين غاب أيُّ ممثلين رفيعي المستوى عن وزارة الخارجية الكينية. وبرغم نفي الخارجية الكينية، يبدو أن عرو قد تلقى الضوء الأخضر من روتو نفسه؛ حيث أجريا محادثات في قصر الرئاسة بنيروبي.2– رهان هرجيسا على نيروبي كنافذة نحو الشرعية الدولية: يمثل افتتاح مكتب الاتصال الدبلوماسي لأرض الصومال في نيروبي موطئ قدم حيوياً، وبداية فصل جديد يحمل آمالاً متجددة لأرض الصومال، التي تنظر إلى كينيا باعتبارها بوابة نحو الشرعية الدولية، لا سيما في ظل موقع كينيا كدولة محورية متحالفة مع الولايات المتحدة في المنطقة.وفي الوقت ذاته، يمكن القول إن أرض الصومال تسعى إلى استثمار حالة عدم الاستقرار التي تشوب العلاقات السياسية بين مقديشو ونيروبي، لا سيما في ظل الخلافات المتكررة بشأن ترسيم الحدود البحرية، واتهامات مقديشو المتكررة لنيروبي بالتدخل في شؤونها الداخلية. ويعزز هذا السياق الإقليمي المتشابك من فرص هرجيسا في تعميق تحالفاتها مع نيروبي، كجزء من مسعى استراتيجي إلى تطويق نفوذ مقديشو في منطقة القرن الأفريقي.3– موازنة أرض الصومال التحركات الإقليمية لمقديشو: جاءت هذه الزيارة في وقت تعمل فيه مقديشو على تعزيز تقاربها مع إثيوبيا، بهدف التوصل إلى تفاهمات وصفقات تجارية تُقنع أديس أبابا بالتراجع عن صفقتها مع هرجيسا، التي تتعلق بمنح الأخيرة اعترافاً سياسياً ودبلوماسياً. وتأتي هذه التحركات في ظل تصاعد التوترات بين أرض الصومال والحكومة الفيدرالية في مقديشو، خصوصاً عقب توقيع اتفاقية بين أرض الصومال وإثيوبيا، تتيح لأديس أبابا استخدام ميناء بربرة، مقابل اعتراف باستقلال أرض الصومال. وقد أثارت هذه الاتفاقية ردود فعل غاضبة من الحكومة الصومالية، التي اعتبرتها انتهاكاً لسيادتها. 4– توظيف المصالح الاقتصادية لتعزيز التحالف مع كينيا: تسعى أرض الصومال إلى استثمار المصالح الاقتصادية المشتركة مع كينيا كأداة لتعزيز التحالف السياسي بين الطرفين. ويُعد ميناء بربرة ورقة استراتيجية في هذا السياق؛ إذ يُوفر لكينيا ممراً تجارياً واعداً نحو أسواق منطقة الخليج العربي وما وراءها، بما يُسهم في تخفيف الضغط عن ميناء مومباسا، وخفض تكاليف الشحن، وتوسيع فرص التصدير الكينية. وفي المقابل، تُعوِّل أرض الصومال على أن تُترجم هذه المصالح الاقتصادية إلى دعم سياسي أقوى من كينيا لموقفها الإقليمي والدولي. وبجانب البُعد التجاري، تُعزز الروابط الشعبية بين البلدين هذا المسعى؛ فهناك جالية كينية كبيرة في أرض الصومال، تُقدَّر بأكثر من 15 ألف شخص، بينهم نحو 8 آلاف معلم ومهني يعملون في قطاعات التعليم والصحة والتقنية، ويشكلون رافعة اقتصادية واجتماعية مهمة في الإقليم. وفي المقابل، تستضيف كينيا عدداً متزايداً من الطلاب ورجال الأعمال من أرض الصومال؛ ما يُسهم في بناء شبكة من المصالح المتبادلة. ويمنح هذا التداخل الاقتصادي والاجتماعي أرض الصومال أدوات إضافية في تعزيز علاقاتها مع كينيا، ويدعم استراتيجيتها في كسب شركاء إقليميين فاعلين، يُسهمون في توسيع حضورها الدبلوماسي.سيناريوهات محتملةفي ضوء هذه الزيارة الهامة لرئيس أرض الصومال إلى كينيا، يمكن توقع ثلاثة سيناريوهات لمستقبل العلاقات بين الجانبين؛ وذلك على النحو التالي:1–اعتراف كينيا باستقلال أرض الصومال: ثمة احتمال أن تُقدم كينيا على الاعتراف الرسمي باستقلال أرض الصومال، استناداً إلى تحركاتها الأخيرة، التي تُظهر استعداداً أكبر للانخراط في ملفات الاعترافات المثيرة للجدل؛ ففي 26 مارس 2025، وقَّع الرئيس الكيني ويليام روتو رسمياً على خطاب الاعتراف بجمهورية كوسوفو كدولة مستقلة، لتصبح كينيا أول دولة تعترف بها خلال السنوات الخمس الماضية، على الرغم من التحفظات التي أبدتها بعض القوى الدولية.وانطلاقاً من هذا السياق، يُرجح اتجاه في بعض التحليلات أن كينيا قد تسير في مسار مماثل تجاه أرض الصومال. ويستند هذا الطرح إلى عدد من المؤشرات، في مقدمتها افتتاح هرجيسا مكتب اتصال دبلوماسي في نيروبي، وهو الأمر الذي اعتُبر خطوة أولى نحو ترسيخ العلاقات الرسمية بين الجانبين، رغم محاولات الخارجية الكينية تقديمه كخطوة "تجارية"، كما يعزز هذا الاتجاه استمرار حالة التوتر في العلاقات بين كينيا والحكومة الفيدرالية في مقديشو، ورغبة نيروبي في تعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي داخل الساحة الصومالية.وفي السياق الدولي، يُضاف إلى هذه المعطيات التغير الحاصل في الموقف الأمريكي؛ حيث تُشير تقارير عدة إلى وجود ضغوط متزايدة داخل الكونجرس الأمريكي لدفع إدارة ترامب نحو الاعتراف الرسمي بأرض الصومال، ضمن توجه أوسع لإعادة صياغة السياسة الأمريكية في القرن الأفريقي. ومع ذلك، تبقى أمام هذا السيناريو عقبات محتملة، أبرزها تخوف كينيا من انعكاسات سلبية على علاقاتها مع قوى كبرى مثل الصين، التي تُعارض بشدة أي تحرك نحو الاعتراف باستقلال أرض الصومال، في ظل موقفها الداعم لوحدة وسيادة الصومال. وقد أظهر مثال اعتراف كينيا بكوسوفو كيف يمكن لمثل هذه القرارات أن تُثير توترات دبلوماسية؛ حيث أدى الاعتراف إلى خلافات مع صربيا، وهي حليفة لروسيا والصين في الأمم المتحدة. علاوةً على ذلك، تُدرك كينيا أن أي اعتراف رسمي قد يُفجر أزمة مباشرة مع الحكومة الفيدرالية في مقديشو، التي تعتبر هذا الملف خطاً أحمر. وقد سبق أن قطعت الصومال علاقاتها الدبلوماسية مع كينيا في عام 2020 مؤقتاً، عقب استقبال الرئيس الكيني آنذاك أوهورو كينياتا لرئيس أرض الصومال في نيروبي. ومن المرجح أن تُكرر مقديشو مثل هذه الإجراءات إذا أقدمت نيروبي على أي خطوة أكثر وضوحاً في اتجاه الاعتراف باستقلال أرض الصومال.2– تأجيل كينيا الاعتراف بأرض الصومال: هذا السيناريو لا يعني بالضرورة أن كينيا تعتزم الاعتراف بأرض الصومال برغم سماح الأولى للثانية بافتتاح مكتب دبلوماسي (أو تجاري) فيها، ولكن قد تكون هذه استراتيجية ممنهجة من جانب نيروبي لمساومة هرجيسا والضغط على مقديشو. ومن ثم فإن من مصلحة نيروبي تأجيل قضية الاعتراف بأرض الصومال؛ حتى تستطيع الاستفادة من الصراع بين مقديشو وهرجيسا، واستعمال أرض الصومال كورقة ضغط على مقديشو أو العكس. ومع ذلك، فإنه ثمة مخاطرة كبيرة أمام نيروبي للاستمرار في هذا المسار، وهي المخاطرة بالعلاقات مع الجانبين؛ فقد تدفع هذه السياسة إلى توتر علاقاتها السياسية مع الطرفين المتنافسين على حد الواء، فتؤثر على سمعة كينيا ودورها الإقليمي في دعم الأمن والاستقرار في منطقة القرن الأفريقي. 3– استبعاد اعتراف كينيا بأرض الصومال: يفترض هذا السيناريو أن كينيا سوف تحافظ على نوع من التوازن والحياد في علاقاتها مع الصومال وأرض الصومال؛ فبرغم سماح كينيا بافتتاح مكتب دبلوماسي لأرض الصومال، فإن الخارجية الكينية أكدت التزامها واعترافها بسيادة الصومال، مشيرةً إلى أن الحدث لم يُعتمد رسمياً، وأن الوضع الدبلوماسي لأرض الصومال لا يزال غير معترف به. وتجد كينيا نفسها الآن أمام مهمة دبلوماسية دقيقة، تسعى من خلالها إلى الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية مع أرض الصومال مع الحفاظ على التزاماتها الرسمية تجاه سلامة أراضي الصومال.ومن منظور السياسة الخارجية، تلتزم كينيا رسمياً باعترافها بالحكومة الفيدرالية الصومالية كسلطة شرعية، بما يتماشى مع موقف الاتحاد الأفريقي الداعم لوحدة وسيادة الصومال. وفي هذا السياق، ورغم سماحها لأرض الصومال بتشغيل مكتب اتصال لأغراض تجارية وقنصلية في نيروبي، فإن منح هذا المكتب صفة دبلوماسية كاملة سيُعد بمنزلة اعتراف فعلي بسيادة أرض الصومال، وهي خطوة تتجنبها كينيا لتفادي تأزيم علاقاتها مع مقديشو، والخروج عن موقف الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية "إيجاد"، إضافةً إلى تجنب خلق سابقة قد تُحفز حركات انفصالية أخرى داخل القارة.برجماتية نيروبيوإجمالاً، يُرجَّح أن تسلك كينيا السيناريو الثالث، القائم على انتهاج سياسة برجماتية ومتوازنة تجاه الصراع بين الصومال وأرض الصومال؛ إذ إن حرص نيروبي يتركز على الحفاظ على نفوذها وعلاقاتها مع كلا الطرفين، مع تبني نهج تحوطي في ظل العلاقات الدبلوماسية المتقلبة، لا سيما في سياق النزاع القائم حول ترسيم الحدود البحرية. ويعزز هذا الاتجاه التحرك الأخير الذي اتخذته كينيا لمنع ترقية مكتب الاتصال التابع لأرض الصومال إلى بعثة دبلوماسية كاملة، وهي خطوة تؤكد حرصها على الحفاظ على التوازن القائم، من حيث طمأنة مقديشو، والالتزام بالمعايير الدولية المتعلقة بوحدة الأراضي الصومالية، مع الاستمرار في تنمية علاقات اقتصادية وأمنية عملية مع أرض الصومال.

ما أبعاد زيارة رئيس أرض الصومال إلى كينيا؟