د.إيمان أحمد عبد الحليم

تواجدت القوات الجنوب أفريقية في الكونغو الديمقراطية منذ ديسمبر 2023م، كجزء من بعثة "مهمة سادك في جمهورية الكونغو الديمقراطية" (SAMIDRC) التابعة لمجموعة تنمية الجنوب أفريقي (SADC) التي انتشرت شرق البلاد لدعم الجيش الكونغولي في مواجهته ضد حركة "23 مارس" المتمردة، التي استأنفت عملياتها القتالية حتى أضحت تسيطر على مساحات شاسعة في المنطقة الاستراتيجية الغنية بالمعادن. ولكن رغم قرار قادة دول المجموعة، في نوفمبر 2024م، بتمديد مهمة البعثة لمدة عام إضافي، بهدف مواصلة مكافحة الجماعات المتمردة وإحلال السلام في المنطقة، ما لبثت البعثة أن أعلنت في مارس 2025م عن إنهاء انتشار بعثتها العسكرية شرق الكونغو الديمقراطية، وجاء ذلك بعد مقتل 19 من جنودها، كان معظمهم من جنوب أفريقيا، في هجمات شنها المتمردون عند استيلائهم على مدينة "ساكي" ومدينة "جوما" التي تمثل أكبر مدن شرق الكونغو.وكان التوقيع على "اتفاق المبادئ" بين الكونغو ورواندا في أبريل 2025م فرصة لتعلن القوات العسكرية لجنوب أفريقيا عن بدء استعداداتها للانسحاب التدريجي من الكونغو الديمقراطية، في خطوة اعتبرتها وزيرة الدفاع والمحاربون القدامى "أنجي موتشيكجا" بداية فصل جديد لجهود حفظ السلام الإقليمية، موضحة أن قرار سحب القوات جاء في أعقاب مشاركات دبلوماسية مكثفة وتقدم ملحوظ في تحقيق الاستقرار شرق الكونغو، وخاصة حول مدينة "جوما" والأراضي المحيطة بمنطقة "ساكي".فيما أعلنت رئاسة أركان الجيش في جنوب أفريقيا، عن بدء تجمع القوات الوطنية في تنزانيا، موضحة أن قرار البِدء بالانسحاب التدريجي للقوات، الذي بدأ في 29 أبريل 2025، ينص على مغادرتها الكونغو الديمقراطية عبر رواندا براً قبل دخول تنزانيا، التي تعود منها بحراً وجواً، بحيث يكون انتقال القوات من تنزانيا إلى جنوب أفريقيا عن طريق الجو للأفراد وعن طريق البحر للمعدات، في إطار مخطط وزارة الدفاع لعودة معظم القوات الوطنية إلى البلاد بحلول نهاية مايو 2025م، باستثناء عدد من المشرفين على نقل بعض المعدات بحراً. انتقادات عدةلم تَحُلْ تصريحات مسؤولي الدفاع عن بدء الانسحاب التدريجي للقوات الوطنية دون انتهاء الجدل الداخلي حول أداء القوات الوطنية في الكونغو الديمقراطية، وفي إطار عملها ضمن بعثة (SAMIDRC)، وسط حديث عن "فوضى" في عملية الانسحاب التي جاءت إثر مقتل عدد من الجنود على الساحة الكونغولية، وصعوبات لوجستية في إتمام عملية الانسحاب، يصعب معها الالتزام بالجدول الزمني الموضوع لعودة كامل القوات، وضعاً في الاعتبار الملاحظات الآتية:1- الغضب الشعبي لمقتل الجنود: إذ تعرضت عملية نشر القوات الوطنية في الكونغو الديمقراطية لانتقادات شديدة من قِبل الرأي العام والمعارضة على السواء، بعد مقتل جنود جنوب أفريقيا، التي كانت قد أرسلت ما لا يقل عن ألف جندي لمنطقة النزاع، وتحملت معظم قتلى بعثة (SAMIDRC)، بفقدها 12 جندياً من جنودها العاملين في إطار البعثة خلال تصعيد متمردي حركة "23 مارس" عملياتهم القتالية من أجل السيطرة على مدينة "جوما" في شهر يناير، مع مقتل اثنين آخرين من الجنود الوطنيين العاملين ضمن بعثة "مونوسكو" لحفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، فضلاً عن إصابة العديد من الجنود الوطنيين في معارك شرق الكونغو.2- رفض قوى سياسية ترويج المؤسسة العسكرية لنجاح المهمة: رفض حزب "التحالف الديمقراطي" على نحو خاص، والشريك في حكومة الوحدة الوطنية، ادعاءات قوات الدفاع الوطني بنجاح مشاركتها في إطار بعثة (SAMIDRC) بالكونغو الديمقراطية، مشيرة إلى مقتل جنودها على أيدي متمردي "23 مارس" هناك، قبل اتخاذ القرار بإنهاء ولاية البعثة، لينتقد أعضاء في الحزب إرسال الجنود الوطنيين إلى منطقة صراع غير مستقرة دون دعم جوي أو معدات كافية أو تفويض عملياتي متماسك، وهو ما اعتبروه "مأساة وطنية" لا تمثل أي قصة نجاح، وذلك ما كان سبباً ليُثير الحزب تساؤلات حول "الادعاءات العامة المضللة" بشأن نجاح مهمة قوات الدفاع الوطني في الكونغو الديمقراطية، مستنكراً تهميش البرلمان والرأي العام، وعدم اطلاعهما على نتائج هذه المهمة ومجرياتها.كما رفضت المعارضة في جنوب أفريقيا، على نحو عام، تصريحات مسؤولي الدفاع بنجاح القوات الوطنية في المساهمة بإرساء الاستقرار في الكونغو الديمقراطية، مشيرة في هذا الصدد إلى أن مدينتي "جوما" و"ساكي" ومدناً أخرى في مقاطعتي شمال وجنوب كيفو لا تزال واقعة تحت سيطرة المتمردين، الذين يواصلون عملياتهم القتالية بالرغم من محادثات السلام القائمة، التي ترعاها واشنطن والدوحة، بين الحكومة الكونغولية والمتمردين من جهة، وبين الكونغو الديمقراطية ورواندا التي توجه إليها اتهامات بدعم التمرد في شرق الكونغو من جهة أخرى. إذ لم تنجح التفاهمات الدبلوماسية القائمة في دفع المتمردين -حتى الآن- للانسحاب من المناطق التي خضعت لسيطرتهم، بل ويواصلون الاستيلاء على المزيد من الأراضي شرق الكونغو الديمقراطية.3- إثارة الحديث عن فوضى الانسحاب للقوات: أثار كذلك حزب "التحالف الديمقراطي" مخاوف جدية بشأن طريقة انسحاب قوات الدفاع الوطني من الكونغو الديمقراطية، ووصفها بأنها "فوضوية وسيئة التنسيق"، وبحسب عضو الجمعية الوطنية عن "التحالف الديمقراطي" "كريس هاتينج"، فإن "ما كان ينبغي أن يكون خروجاً منسقاً واستراتيجياً أصبح بدلاً من ذلك عملية مربكة وخطيرة.. تعرض سلامة جنودنا للخطر، وتثير المزيد من الأسئلة أكثر من الإجابات". وذلك إلى جانب إبداء "التحالف الديمقراطي" قلقه إزاء التقارير التي تشير لأن متمردي "23 مارس"، الذين يُعتقد على نطاق واسع أنهم مدعومون من رواندا، يقومون بتفتيش المعدات العسكرية أثناء مرور القوافل وانسحابها براً عبر رواندا إلى تنزانيا، حيث يُفترض تجمعها هناك قبل نقلها جواً إلى جنوب أفريقيا، وأضاف الحزب أنه لم يكن هناك أي اتصال رسمي من وزارة الدفاع أو قوات الدفاع الوطني لجنوب أفريقيا أو مجموعة (SADC) بشأن كيفية تنظيم عملية الانسحاب.4- إشارة تقارير إلى تفاقم الصعوبات في نقل القوات: في حين أعلنت قوات الدفاع الوطني مواصلة انسحاب قواتها العاملة ضمن بعثة مجموعة (SADC) من الكونغو الديمقراطية، وأكدت في بيان صادر عنها أن "كل شيء يسير وفقاً للخطة التي تم إبلاغها مسبقاً لوزارة الدفاع"، لكن في مقابل ذلك كانت هناك مزاعم بأن مجموعة من القوات الوطنية لا تزال عالقة في شرق الكونغو الديمقراطية، وزعم تقرير لصحيفة "سيتي برس" الجنوب أفريقية، أن الجنود على الأرض تقطعت بهم السبل ولم يُسمح لهم بحمل أسلحة شخصية أو أسلحة نارية إلى رواندا. وخلال ذلك، يواصل الجنود الإبلاغ عن إخفاقات لوجستية وضعف بالاتصالات مع وجود مخاوف بشأن وضع المركبات العسكرية والأسلحة الثقيلة خلال عملية انتقالهم عبر منطقة الحدود بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، والخاضعة لسيطرة المتمردين، مما ترك العديد من الجنود غير متأكدين من سلامتهم خلال محاولات إخراجهم من الكونغو الديمقراطية.5- الدعوات لمساءلة وزيرة الدفاع: إزاء الانتقادات المشار إليها، فقد دعا بعض أعضاء الجمعية الوطنية إلى تشكيل لجنة تحقيق في انسحاب قوات الدفاع الوطني من الكونغو الديمقراطية، فيما كشف "التحالف الديمقراطي" تحديداً عن نيته مساءلة وزيرة الدفاع والمحاربين القدامى "أنجي موتشيكجا" بشأن ما وصفه بنشر وانسحاب "فوضوي وسيئ التخطيط" للقوات. وأوضح النائب عن الحزب في اللجنة المشتركة الدائمة للدفاع "كريس هاتينج"، أن "التحالف الديمقراطي" يخطط لطرح العديد من الأسئلة العاجلة على "موتشيكجا"، حول "ما هي الشروط المحددة ونطاق نشر قوات الدفاع الوطني لجنوب أفريقيا بالكونغو الديمقراطية في إطار اتفاقها مع مجموعة (SADC)؟ ولماذا لم يتم إطلاع البرلمان بشكل كامل على تلك الشروط ونطاق نشر القوات؟ وما هي الإخفاقات العملياتية التي أسهمت في الانسحاب غير المنظم؟ وكيف تعمل وزارة الدفاع والمحاربون القدامى على ضمان سلامة القوات والمعدات التي لا تزال متواجدة في الكونغو الديمقراطية؟ وما هو الوضع الحالي لأصول قوات الدفاع الوطني في الكونغو الديمقراطية، بما في ذلك أي معدات مفقودة أو تالفة أو معرضة للخطر؟".تداعيات الانسحاببجانب الجدل المصاحب لانسحاب قوات جنوب أفريقيا من الكونغو الديمقراطية، والانتقادات بشأن تنظيم الانسحاب، فإن تلك العملية تثير تبعات واسعة على الساحة الداخلية، يمكن إبرازها في النقاط الآتية: 1- تفاقم خلافات حكومة الوحدة الوطنية: مما يجدر الإشارة إليه أن الخلاف بين القطبين الرئيسيين في حكومة الوحدة الوطنية ("المؤتمر الوطني الأفريقي" الذي يمثل حزب الرئيس "سيريل رامافوزا"، و"التحالف الديمقراطي" ثاني أكبر حزب في الحكومة)، بشأن تقييم مهمة القوات الوطنية في الكونغو الديمقراطية، يأتي في سياق خلافات أوسع تشهدها حكومة الوحدة الوطنية، كان أكثرها حدة هو الخلاف بشأن زيادة ضريبة القيمة المضافة التي اضطرت الحكومة إلى التراجع عنها في محاولة لمعالجة الخلافات مع "التحالف الديمقراطي"، الذي واصل تصعيده ضد شريكه بالحكومة من خلال إعلان رفضه للتعديلات المقترحة بـ"قانون المساواة في التوظيف"، الذي يراه غير دستوري وضاراً اقتصادياً، في مقابل رؤية المؤيدين أنه ضروري لعملية التحول الاجتماعي في البلاد.2- تزايد التباينات داخل الجمعية الوطنية: رغم وجود مطالبات بالتحقيق في مهمة القوات الوطنية، فقد أبدت "اللجنة الدائمة المشتركة للدفاع" في الجمعية الوطنية، ترحيبها بتأكيدات كبار القادة العسكريين بأن الانسحاب الثابت والآمن للقوات العاملة ضمن بعثة مجموعة (SADC) في الكونغو الديمقراطية قد بدأت، وأن قافلتين وصلتا بالفعل إلى معسكر العبور، وهو ما اعتبرته اللجنة دليلاً على فاعلية التخطيط، وسط تأكيدات على اتخاذ جميع التدابير اللازمة لضمان سلامة وأمن حركة الأفراد والمعدات حتى وصولهم إلى جنوب أفريقيا.3- التأثير في مشاركات جنوب أفريقيا في عمليات حفظ السلام: يتوقع أن يؤثر الجدل المصاحب لأداء قوات جنوب أفريقيا في الكونغو الديمقراطية على مشاركتها مستقبلاً في عمليات حفظ السلام، حتى مع وجود دعوات في البلاد تؤكد على أهمية توفير الدعم الكافي لقوات الدفاع الوطني من أجل النهوض بالدور الذي تؤديه في بعثات حفظ السلام التي تضيف دعماً إلى دور جنوب أفريقيا المنشود على الصعيدين الإقليمي والدولي.4- تأجيل التحقيق في أداء القوات لتطويق التصعيد: رغم وجود دعوات بمساءلة وزيرة الدفاع، فقد أعلنت "اللجنة الدائمة المشتركة للدفاع" أنه "من السابق لأوانه" إجراء تحقيق بشأن عمل بعثة "قوات الدفاع الوطني" في الكونغو الديمقراطية، موضحة أنها لا تزال تنتظر التقرير الخاص بعودة البعثة العاملة ضمن مجموعة (SADC) من وزارة الدفاع. في حين أشار نائب وزير الدفاع "بانتو هولوميسا"، إلى أن مجلس التحقيق العسكري في الخسائر التي تكبدتها قوات الدفاع الوطني في الكونغو الديمقراطية سيبدأ العمل بمجرد اكتمال عودة الجنود، موضحاً أن السلطة التنفيذية تتوقع أن تكون هناك إحاطة شاملة حول مهمة المجموعة بأكملها في الكونغو الديمقراطية.وعند سؤاله عن الخطوات التي تم اتخاذها لإنشاء مجلس تحقيق عسكري أو لجنة تحقيق قضائية فيما يتعلق بضحايا قوة الدفاع الوطني في الكونغو الديمقراطية، أوضح "هولوميسا" أنه "فيما يتعلق بإمكانية تشكيل لجنة تحقيق قضائية، فإن الوزارة ستدرس هذا الأمر وتقدم المشورة للأمة بشأنه في الوقت المناسب"، مضيفاً أنه سيتم الإعلان عن الجداول الزمنية للتحقيق بعد اتباع الإجراءات القانونية الواجبة داخل وزارة الدفاع، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن البرلمان أعرب عن اهتمامه الشديد بإجراء تحقيق شامل وشفاف في خسائر القوات الوطنية بالكونغو الديمقراطية.ختاماً، في ضوء ما سبق يتضح تواصل الجدل على الساحة الداخلية بجنوب أفريقيا حول أداء القوات الوطنية في الكونغو الديمقراطية، في ضوء الإشكاليات المحيطة بعمل القوات هناك من جهة، وإشكاليات العودة من جهة أخرى، الأمر الذي قد يؤثر على مشاركاتها مستقبلاً في عمليات حفظ السلام.

لماذا يتواصل الجدل حول انسحاب قوات جنوب أفريقيا من الكونغو الديمقراطية؟