إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

تحركت الدبلوماسية التركية خلال الأيام الأخيرة للقيام بدور الوسيط في الأزمة بين إثيوبيا والصومال من خلال استضافة أنقرة جولة جديدة من المحادثات، في 11 ديسمبر 2024، انتهت بحسب إعلان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في 12 ديسمبر 2024، إلى اتفاق "تاريخي" ينهي التوترات بين البلدين، يتضمن العمل باتجاه إقرار إبرام اتفاقيات تجارية وثنائية من شأنها أن تضمن لإثيوبيا وصولاً إلى البحر "موثوقاً به وآمناً ومستداماً تحت السلطة السيادية لجمهورية الصومال الفيدرالية". كما وافق البلدان برعاية تركية على بدء محادثات فنية تبدأ في فبراير 2025 ولمدة 4 أشهر لحسم الملفات الخلافية فيما بينهما. وتأتي هذه الوساطة كحلقة جديدة في سلسلة الجهود التركية المتزايدة لتعزيز الانخراط في القرن الأفريقي، وهو ما يثير العديد من التساؤلات بشأن فرص هذه الوساطة ودوافعها.سياقات محفزة جاءت الوساطة التركية لحسم الخلاف بين أديس أبابا ومقديشيو في ظل مجموعة من السياقات المحفزة، والتي يمكن بيانها على النحو التالي: 1- قبول طرفي الأزمة بالوساطة التركية: كشفت تصريحات آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي، والرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، عشية اللقاء مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 11 ديسمبر 2024، عن أن الوساطة التركية تلقى قدراً معتبراً من الترحيب من كلا الجانبين. وبينما أكد الرئيس الصومالي أنّ اتفاق أنقرة "وضع حداً للخلاف" بين مقديشيو وأديس أبابا، ثمّن آبي أحمد جهود تركيا في حل الملفات الخلافية بين بلاده والصومال. وتجدر الإشارة إلى اتفاق الصومال وإثيوبيا على بدء مفاوضات فنية بمساعدة تركية لحل خلافاتهما في موعد أقصاه نهاية فبراير 2025.2- خبرة تركيا بملفات الصراع الإثيوبي الصومالي: لا تعتبر جهود الوساطة التركية وليدة اللحظة، حيث سبق لتركيا القيام بأدوار الوساطة في هذه الأزمة، حيث استضافت أنقرة في يناير وأغسطس 2024 جولتي مفاوضات بين البلدين، وهو الأمر الذي تعول عليه في سعيها للوصول إلى حل للقضايا الخلافية بين طرفي الأزمة. ووفر الانخراط التركي طوال الأشهر الماضية في الأزمة بين إثيوبيا والصومال مساحة أكبر لأنقرة لفهم الجوانب المستترة للصراع، وبالتالي تسهيل الوصول إلى حلول متوازنة بين البلدين، وتحقيق تقدم بشأن حسم القضايا الفنية، وفتح آفاق جديدة للتعاون بين أديس أبابا ومقديشيو.3- استباق تنصيب المعارضة في أرض الصومال: تأتي المفاوضات بين الصومال وإثيوبيا برعاية تركية قبل تنصيب رئيس أرض الصومال الجديد عبد الرحمن سيرو وشهرته "عرو" المعارض لمقديشيو، والذي فاز بنتائج الاقتراع الرئاسي الذي أُجري في نوفمبر 2024. وثمة ترقب للسياسات التي سيتبناها "عرو" وموقفه من العلاقات مع إثيوبيا وكذلك مقديشو، فخلال حملاته الانتخابية، ذكر "عرو" إن حزبه سيراجع "مذكرة التفاهم" مع إثيوبيا، من دون أن يرفضها. كما نقلت "هيئة الإذاعة البريطانية"، بحسب تقرير صحيفة الشرق الأوسط، عن محمود آدم، الناطق باسم حزب "وداني" الذي يتزعمه "عرو" ، أن "الاتفاقية لم تُعرض على الحزب أثناء عملية التفاوض بشأنها، وأن الحزب لم يراجعها منذ ذلك الحين». وأضاف: "بشكل عام، نرحب بأي تعاون عادل ومفيد مع جيراننا. ولقد كانت إثيوبيا على وجه الخصوص صديقاً عظيماً على مرّ السنين. وعندما نتولّى السلطة، سنقيّم ما فعلته الحكومة السابقة".&nbsp;أبعاد حاكمةثمة العديد من الدوافع التي تقف وراء نجاح التحركات التركية الأخيرة في تعزيز عملية التقارب بين أديس أبابا والصومال، وفتح آفاق أوسع لحلحلة القضايا الخلافية بين البلدين، ويتمثل أبرزها فيما يلي: 1- ضبط توجهات النخب الصومالية تجاه أنقرة: على الرغم من العلاقات الاستراتيجية التي تربط أنقرة ومقديشيو، إلا أن ثمة تقديرات محلية كشفت عن تحول لافت في المقاربة التركية تجاه الصومال، وكشف عن ذلك تحذير "أردوغان" للرئيس الصومالي شيخ محمود من أن إفشال الوساطة وعدم إبداء المرونة سيقابلان بموقف تركي حازم. ويبدو أن التحذير التركي مبعثه القلق من استمرار تنامي التوترات المحلية في الداخل الصومالي، وهو ما قد يحمل في طياته ارتدادات سلبية على المصالح التركية سواء في الصومال ومنطقة القرن الأفريقي.وفي ضوء ذلك، فإن أنقرة ربما أرادت إنجاح جولة المفاوضات الحالية لإيصال عدة رسائل إلى الرئيس الصومالي، من بينها التأكيد على أن الدعم التركي العسكري والاستثماري والخدماتي والإنساني في الصومال لا يرتبط بشخص الرئيس أو رغبة أنقرة في تأمين سلطته، وإنما مرتبط بالأساس باستراتيجية تركيا لتعظيم نفوذها في العمق الأفريقي، وثانيها أن التعنت الصومالي في حسم النزاع مع إثيوبيا قد يدفع تركيا للانفتاح بصورة أكبر على أديس أبابا وأرض الصومال.2- تأمين عمليات التنقيب عن الطاقة قرب سواحل الصومال: تتزامن الوساطة التركية في النزاع الصومالي الإثيوبي مع تحركات أنقرة لبدء عمليات التنقيب عن مكامن الطاقة قبالة السواحل الصومالية، حيث بدأت سفينة الأبحاث السيزمية التركية "عروج ريس" عملها في 25 أكتوبر 2024 بتنفيذ مسح سيزمي ثلاثي الأبعاد للغاز والنفط في السواحل الصومالية، وهي مهمة من المقرر أن تستمر 7 أشهر. وفي ضوء ذلك، فإن أنقرة ربما تريد توفير أجواء آمنة وأكثر استقراراً لحماية وتأمين نشاطها المسحي في الصومال.3- تحييد احتجاجات ولاية جوبا لاند ضد مقديشيو: لا تنفصل التحركات لإنجاح جولة المفاوضات الحالية بين إثيوبيا والصومال عن مخاوف أنقرة من الارتدادات العكسية للاحتجاجات التي تشهدها ولاية "جوبا لاند" التي قطعت علاقاتها مع الحكومة الاتحادية في مقديشيو، بعد أن أعادت في نوفمبر 2024 انتخاب رئيسها أحمد محمد إسلام مدوبي. ووصلت الأزمة في جوبا لاند إلى ذروتها في 11 ديسمبر 2024، بعد انسحاب القوات الاتحادية من الولاية، بعد هزيمة عناصر في منطقة رأس كمبوني، وهو ما دفع الحكومة الاتحادية لإصدار توجيهات للقوات المسلحة الوطنية بالانسحاب من مواقعها في إقليم جوبا السفلي. وفي الرؤية التركية فإن اضطرابات جوبا لاند يمكن أن تنذر بتفكك الصومال، وتفتح الباب لسيناريو تقسيم البلاد، ولذلك ربما سعت أنقرة لتفكيك الصراع بين أديس أبابا وإثيوبيا، وخفض التوترات بين البلدين، باعتبار أن ذلك من شأنه أن يوفر مساحة أكبر لحكومة الاتحاد لمواجهة خصومها المحليين، ودعم حالة الاستقرار في البلاد.4- مواجهة التأثيرات المحتملة لانسحاب "أتميس": كذلك لا ينفصل نجاح تركيا في دفع عملية التقارب بين إثيوبيا والصومال في التوقيت الحالي عن اختتام بعثة الاتحاد الأفريقي الانتقالية في الصومال، في 16 نوفمبر 2024 رسمياً المرحلة الثالثة من تقليص حجم قواتها داخل الأراضي الصومالية. وهذا التخفيض هو جزء من استراتيجية خروج بعثة الاتحاد الأفريقي نهائياً في 31 ديسمبر 2024. ويثير هذا الانسحاب مخاوف أنقرة بشأن قدرة الحكومة الاتحادية في الصومال على تحييد المخاطر المحتملة، وفي الصدارة منها عودة عمليات القرصنة قبالة سواحل الصومال، والتي شهدتها هذه المنطقة قبل أكثر من عقد، بالإضافة إلى تزايد الانتكاسات المحتملة في جهود الحكومة الصومالية لتقويض نفوذ حركة الشباب الجهادية، والتي تمكنت خلال الآونة الأخيرة من إعادة تموضعها، وتكثيف نشاطها العملياتي ضد أهداف تابعة للحكومة الاتحادية.5- الدعم الغربي للوساطة التركية بين البلدين: تعكس كافة المؤشرات وجود دعم أمريكي وأوروبي للتطلعات التركية في الوصول إلى تفاهمات جديدة بين أديس أبابا ومقديشيو بشأن الملفات الخلافية بينهما، باعتبار أن تعزيز التعاون بين البلدين بدعم تركيا التي لديها ارتباطات مصلحية واسعة مع القوى الغربية، يمكن أن يساعد في دعم الترتيبات الأمنية والمصالح الغربية المتضررة حالياً في أفريقيا بعد انسحاب فرنسا من غرب القارة مقابل صعود لافت لأدوار صينية روسية وإيرانية في أفريقيا.وفي هذا الإطار، يمكن فهم الدعم الغربي للسياسة التركية تجاه الصراع الإثيوبي الصومالي. بالتوازي، ووفقاً للرؤية الغربية، فإن دعم الوساطة التركية يعني توحيد الجهود المشتركة لمواجهة التهديدات المتزايدة في منطقة البحر الأحمر ومضيق باب المندب، في ظل تصاعد العمليات الحوثية ضد السفن التجارية، ومحاولتها تعطيل الملاحة البحرية في إطار استراتيجيها الرامية إلى دعم غزة في مواجهة إسرائيل.ختاماً، يمكن القول إن أنقرة بما تملكه من حضور لافت في القرن الأفريقي بجانب قبول حضورها لدى الصومال وإثيوبيا قد تلعب دوراً مهماً في كسر التوترات بين أديس أبابا ومقديشيو عشية المشاورات التي استضافتها في 11 ديسمبر 2024 بحضور رئيسي البلدين، والتي أسفرت عن صياغة تفاهمات جديدة لحلحلة الخلافات القائمة، وبلورة صيغة جديدة للتعاون والتنسيق الإقليمي في منطقة القرن الأفريقي، بدعم من بعض القوى الدولية والإقليمية، لتجنب تفاقم التوترات بين إثيوبيا والصومال.

لماذا نجحت الوساطة التركية في خفض التوتر بين الصومال وإثيوبيا؟