أعلنت الإدارة الأمريكية موافقتها على تزويد أوكرانيا بذخائر عنقودية في هجومها المضاد ضد روسيا، ضمن حزمة مساعدات عسكرية جديدة تصل قيمتها إلى 800 مليون دولار، وهو تحول لافت عن الموقف السابق للولايات المتحدة الذي عبرت عنه من قبل، والذي تلخَّص في وجود مخاوف أمريكية بشأن إرسال تلك الأسلحة، في حين أن العديد من التقارير تشير إلى استخدام الطرفين الروسي والأوكراني الذخائر العنقودية في الحرب الأوكرانية.

دلالات متعددة

ثمة عدد من الدلالات والملاحظات المحيطة بالقرار الأمريكي بدعم القوات الأوكرانية بقنابل وذخائر عنقودية، ومن أبرز تلك الدلالات ما يلي:

1– صعوبة اتخاذ البيت الأبيض للقرار: اتسم قرار الولايات المتحدة تسليم القوات الأوكرانية ذخائر عنقودية بالصعوية، وكثرة التشاور، وطول التفكير؛ حيث يؤكد مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، أن القرار الأمريكي لم يكن سهلاً على الإطلاق، بل جاء بعد شهور من النقاش داخل إدارة بايدن حول إذا ما كان يجب تزويد كييف بالذخائر العنقودية أم لا، وأجَّلت الإدارة الأمريكية هذا القرار عدة مرات، خاصةً بسبب الأضرار المحتملة للمدنيين، وهو ما يؤكده رئيس هيئة الأركان في الجيش الأمريكي الجنرال مارك ميلي، الذي أشار إلى أن بلاده تفكر منذ فترة طويلة في إرسال ذخائر عنقودية إلى أوكرانيا. وقد عبَّر الرئيس الأمريكي جو بايدن صراحةً عن صعوبة اتخاذ قرار دعم كييف بالذخائر العنقودية، رغم حاجة أوكرانيا إليها من وجهة النظر الأمريكية.

2– اعتبار الذخائر العنقودية بديلاً مؤقتاً للتقليدية: برر الرئيس الأمريكي جو بايدن، موافقته على إمداد أوكرانيا بالذخائر العنقودية، بأن ذلك القرار لا يعدو أن يكون إجراءً مؤقتاً لحين زيادة الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين إنتاجَ الذخيرة والقذائف التقليدية التي تحتاجها القوات الأوكرانية، في ظل نفاد المخزون الأوكراني من تلك القذائف، وحاجة كييف إلى المزيد من الذخيرة لمواصلة الهجوم المضاد، مُرجِعاً ذلك إلى توصية من وزارة الدفاع الأمريكية بتوفير الذخائر العنقودية لأوكرانيا باعتبار ذلك حلاً مؤقتاً حتى إعادة تزويد أوكرانيا بالقدر اللازم من الذخيرة التقليدية، في الوقت الذي أثرت فيه الحرب الأوكرانية على المخزون الغربي من الذخيرة.

3– تخطي الحظر الأمريكي على صادرات الذخائر العنقودية: يحظر القانون الأمريكي الصادر عام 2009 إنتاج أو استخدام أو نقل الذخائر العنقودية التي تتسم بمعدل فشل يزيد عن 1%، وهو القانون الذي يكاد يغطي معظم المخزونات العسكرية الأمريكية من تلك الذخائر أو جميعها، وفق ما تذكر التقارير. وفيما يصل معدل الفشل للذخائر العنقودية التي سترسلها الولايات المتحدة إلى أوكرانيا إلى 2.35%، فإن ذلك يعني أن الرئيس الأمريكي جو بايدن، استخدم صلاحياته الرئاسية لتجاوز تلك المتطلبات، على نحو مماثل لقيام الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بالسماح بتصدير تكنولوجيا الذخائر العنقودية إلى كوريا الجنوبية. وحرصت الولايات المتحدة في هذا السياق على المقارنة بين معدل الفشل للذخائر العنقودية التي ستسلمها واشنطن لكييف وبين معدل الفشل للذخائر التي تستخدمها روسيا بالفعل؛ حيث أشار المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية باتريك رايدر، إلى أن الروس يستخدمون الذخائر العنقودية بمعدل فشل يصل إلى 40%.

4– تقليل موسكو من جدوى القرار الأمريكي: حاولت موسكو التقليل من جدوى القرار الأمريكي، واعتبرته غير مؤثر على مسار الحرب؛ إذ وصفت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، في بيان، أن نقل الذخائر العنقودية هو عمل يائس، ودليل على فشل "الهجوم المضاد" الأوكراني الذي حظي بتغطية إعلامية كبيرة، مضيفةً أنه "لن يؤثر على مسار العملية العسكرية الخاصة، والأهداف سوف تتحقق بالكامل". ووصفت زاخاروفا القرار الأمريكي بأنه "مظهر صارخ آخر للمسار العدواني المناهض لروسيا الذي اتخذته الولايات المتحدة، والذي يهدف إلى إطالة أمد الصراع في أوكرانيا إلى أقصى حد".

5– رفض دول غربية تقديم ذخائر عنقودية لأوكرانيا: تثير قرارات الدعم التسليحي الأمريكي أو الأوروبي لأوكرانيا، فيما يتعلق بالأسلحة النوعية، الجدل حول قيام بقية الحلفاء بتقديم تلك الأسلحة لكييف. ومع إعلان الولايات المتحدة عن تسليم ذخائر عنقودية لأوكرانيا، فإن ثمَّة تساؤلات طُرحت حول مدى استعداد بقية الدول الحليفة المالكة لتلك الذخائر لمد أوكرانيا بكميات منها، وهو الأمر الذي سرعان ما حسمته بعض الدول الغربية بالنفي القاطع، مؤكدةً التزامها بالحد من انتشار تلك الأسلحة.

فعلى سبيل المثال، أشار رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إلى أن بلاده من الدول الموقعة على اتفاقية حظر إنتاج الذخائر العنقودية واستخدامها، وتحث على عدم استخدامها. ومن ثم ستستمر بريطانيا في دعم أوكرانيا ضد روسيا من خلال توفير معدات وأسلحة عسكرية، لكن ليس من بينها الذخائر العنقودية. وأكدت وزيرة الدفاع الإسبانية أنه لا يمكن تسليم بعض الأسلحة والقنابل تحت أي ظرف من الظروف، وأن الدفاع المشروع عن أوكرانيا لا يكون عبر القنابل العنقودية، فيما اعتبر وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، أن توفير الذخائر العنقودية لأوكرانيا ليس من الخيارات الألمانية المطروحة.

6– تأثيرات محدودة لمعارضة حلفاء الناتو للقرار الأمريكي: كانت الخشية من رفض حلفاء الناتو القرار الأمريكي، وإحداث انقسام في المعسكر الغربي الداعم لأوكرانيا، من الأمور التي دار حولها نقاش داخل دوائر صناعة القرار الأمريكية، ومن النقاط التي استند إليها معارضو القرار في مراحل التشاور. إلا أنه رغم معارضة حلفاء الناتو للقرار الأمريكي، فإن تلك المعارضة وقفت عند حد التزام تلك الدول بتعهُّداتها بعدم تسليم أوكرانيا أسلحة خطرة مثل الذخائر العنقودية، دون أن يمتد ذلك إلى إدانة الموقف الأمريكي بشدة، وهو ما يشير إلى نجاح التنسيق الأمريكي الغربي الذي جرى قبيل إعلان هذا القرار؛ حيث نشرت تقارير صحفية تصريحات على لسان مسؤول في وزارة الدفاع الأمريكية، أعلن فيها أنه قبل الموافقة على تزويد كييف بتلك الذخائر، أُجرِيت محادثات رفيعة المستوى مع القادة الأوروبيين بشأن هذا القرار.

وعلى مستوى حلف الناتو، حرص الأمين العام للحلف على إبراز التباين بين أعضاء الحلف في هذا الملف بالشكل الذي لا يجعل للحلف موقفاً معيناً مُلزِماً لأعضائه. ومن ثم لا يُعَد القرار الأمريكي خروجاً على التزام جماعي لدول حلف شمال الأطلسي. ففي 7 يوليو الجاري، أكد "ينس ستولتنبرج" أن الناتو بوصفه تحالفاً ليس لديه موقف فيما يتعلق باتفاقية حظر الذخائر العنقودية؛ لأن عدداً من الحلفاء قد وقَّعوا عليها، فلم يوقع عليها آخرون. ومن ثم، يحق لدول الناتو اتخاذ قراراتهم المستقلة بشكل فردي بشأن تقديم الأسلحة والمعدات العسكرية إلى أوكرانيا، ومنها الذخائر العنقودية.

ورغم أن برلين اعتبرت أن تسليم ذخائر عنقودية لكييف ليس خياراً مطروحاً بالنسبة إليها، فإنها حرصت على الدفاع عن الموقف الأمريكي وعدم إدانته؛ حيث أشار المتحدث باسم الحكومة الألمانية ستيفن هيبيستريت، إلى أن حكومة بلاده على يقين بأن الحكومة الأمريكية لم تتخذ هذا القرار بسهولة، مشيراً في الوقت نفسه إلى استخدام روسيا تلك الذخائر في حربها ضد أوكرانيا، كمحاولة لتبرير الموقف الأمريكي كرد فعل.

7– قدرة الضغوط الأوكرانية على تغيير القرارات الأمريكية: منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، تضغط كييف على حلفائها الغربيين لتزويدها بأسلحة نوعية تعتبرها ضرورة لمواجهة القوات الروسية المتغولة داخل الأراضي الأوكرانية، وضرورة لتمكين القوات الأوكرانية من صد الهجوم الروسي واستعادة الأراضي التي سيطرت عليها موسكو. ونجحت أوكرانيا طوال الفترة الماضية في الضغط على الولايات المتحدة والحلفاء الأوربيين للموافقة على الحصول على أسلحة نوعية سبق أن تحفظت تلك الدول على إمداد كييف بها، مثل الدبابات وأنظمة الصواريخ.

ومثَّل قرار إرسال الذخائر العنقودية تحدياً آخر للإدارة الأمريكية تجاه الضغوط الأوكرانية التي تُصوِّر أي رفض غربي لإمدادها بأنواع معينة من الأسلحة على أنه تخاذل يُساعِد الروس على التقدم؛ حيث طالب المسؤولون الأوكرانيون الولايات المتحدة منذ العام الماضي بتوفير الذخائر العنقودية بمبررات مختلفة؛ منها الحاجة إلى توفير المزيد من الذخيرة، ونقص إمدادات الذخيرة الغربية لأوكرانيا، وأن القنابل العنقودية ستساعد على تحجيم تفوق المدفعية الروسية، وستمثل قدرة هجومية نوعية تساعد على تنفيذ الهجوم المضاد بنجاح.

انتقادات حقوقية

أثار قرار الولايات المتحدة تزويد أوكرانيا بالذخائر العنقودية جدلاً في الأوساط الحقوقية، مع توجيه انتقادات للإدارة الأمريكية بشأن تأثيرات هذا القرار على المدنيين، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1– إدانة منظمات حقوقية للقرار الأمريكي: جلبت موافقة الرئيس الأمريكي جو بايدن، على إمداد أوكرانيا بالقنابل العنقودية، العديد من الانتقادات من منظمات حقوق الإنسان للإدارة الأمريكية. ودعت منظمات حقوقية روسيا وأوكرانيا إلى التوقف عن استخدام الذخائر العنقودية، وحثَّت الولايات المتحدة على عدم تزويد كييف بتلك الأسلحة، وتستند إلى أن استخدام القنابل العنقودية في المناطق المأهولة يعد بمنزلة انتهاك للقانون الإنساني الدولي؛ لأنها تسبب تدميراً عشوائياً، وتصيب المدنيين العزل غير المذنبين؛ فعلى سبيل المثال، حذرت "هيومن رايتس ووتش"، في تقرير لها، من أن نقل الولايات المتحدة هذه الذخائر العنقودية إلى ساحة الحرب الأوكرانية سيؤدي حتماً إلى معاناة طويلة الأجل للمدنيين، وتقويض الالتزامات الدولية بالحد من استخدام تلك الأسلحة.

2– إعطاء الأولوية لمواجهة التقدم الروسي: تدرك الولايات المتحدة التأثيرات الإنسانية السلبية لاستخدام القنابل العنقودية، لكنها في الوقت نفسه، تُولِي قدراً أكبر من الأهمية لوقف التقدم الروسي داخل أوكرانيا ومساعدة القوات الأوكرانية على استعادة المزيد من الأراضي التي استولت عليها القوات الروسية. ومن المُلاحَظ في هذا السياق، أن الولايات المتحدة عقدت مقارنةً ضمنية بين تكلفة اتخاذ قرار بدعم أوكرانيا بالذخيرة العنقودية وبين تكلفة عدم اتخاذ ذلك القرار، ورأت أنه رغم مخاطر تعرُّض مدنيين للأذى بسبب الذخائر العنقودية غير المتفجرة، فإن هناك أيضاً خطراً كبيراً إذا استولت روسيا على المزيد من الأراضي الأوكرانية، في ظل نقص الذخيرة لدى القوات الأوكرانية.

3– تقديم تطمينات أوكرانية بشأن الضحايا المدنيين: لمواجهة الضغوط الحقوقية والسياسية الداخلية والخارجية بشأن التداعيات الإنسانية لقرار تسليم كييف قنابل عنقودية، أكد المسؤولون الأمريكيون أن أوكرانيا قدَّمت تأكيدات وتعهُّدات مكتوبة لتقليل الخسائر المدنية من استخدام القنابل العنقودية إلى الحد الأدنى، وأن أوكرانيا وافقت رسمياً على استخدامها بعناية، بما يشمل عدم استخدام تلك الأسلحة في المناطق الحضرية التي يسكنها مدنيون، وسيجري استخدام تلك الذخائر لاختراق دفاعات العدو فقط، كما أكد وزير الدفاع الأوكراني أولكسي ريزنيكوف أن بلاده ستلتزم بشكل صارم بتسجيل استخدامها الذخائر العنقودية وتبادلها المعلومات مع شركائها.

4– تعهُّد كييف بعدم استخدام القنابل داخل الأراضي الروسية: حرصت أوكرانيا على إظهار القنابل العنقودية الأمريكية وسيلةً جديدةً للدفاع ضد العدوان الروسي على أراضيها، وأنها تأتي في إطار حقها في استخدام مختلف الأسلحة لصد القوات الروسية، وشن هجوم مضاد يستعيد الأراضي الأوكرانية التي سيطرت عليها موسكو؛ لذلك تعهد وزير الدفاع الأوكراني أولكسي ريزنيكوف بعدم استخدام تلك الذخائر في الأراضي الروسية المعترف بها رسمياً، وبأن القوات الأوكرانية ستستخدم الذخائر العنقودية لتحرير أراضيها المعترف بها دولياً فقط.

على الجانب الآخر، اعتبرت وزارة الخارجية الروسية أن قرار تزويد القوات الأوكرانية بالذخائر العنقودية "مظهر صارخ من مظاهر المسار العدواني الأمريكي المعادي لروسيا"، متهمةً واشنطن بأنها من خلال تزويد كييف بالذخائر العنقودية، "ستكون متواطئة في تلغيم المنطقة، وستتقاسم المسؤولية الكاملة عن ضحايا الانفجارات، بما في ذلك الأطفال الروس والأوكرانيون"، مقللةً من واقعية التزام أوكرانيا بالاستخدام الحذر للأسلحة العنقودية.

تباينات داخلية

ختاماً، لم يكن القرار الأمريكي قراراً سهلاً بالنسبة إلى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ ليس فقط لأن واشنطن كانت متخوفة من ذلك القرار قبل شهور، بل لوجود بعض الخلافات داخل الولايات المتحدة بشأن إمداد أوكرانيا بتلك الأنواع من الأسلحة، التي في حين يعتبرها البنتاجون ضرورةً مؤقتةً تفرضها تطوُّرات الحرب الأوكرانية، فإن وزارة الخارجية حرصت على إبراز المخاوف من التداعيات الإنسانية لهذا القرار، والانتقادات الحقوقية التي سيجلبها، فضلاً عن تأثيره على واقع التنسيق المشترك مع الحلفاء الغربيين المُوقِّعين على اتفاقية حظر استخدام ونشر القنابل العنقودية. وفي حين أن بعض الآراء داخل الحزب الديمقراطي تتخوَّف من التداعيات الإنسانية والأخلاقية لهذا القرار وتأثيراته على المدنيين والفئات الهشة، وكذلك التداعيات السياسية على التحالف الغربي المناهض لروسيا، فإن أعضاء الحزب الجمهوري بالكونجرس كانوا أكثر تأييداً ودفعاً نحو تزويد أوكرانيا بتلك الأنواع من الأسلحة.

وفي التحليل الأخير، يظل التساؤل الرئيسي حول إذا ما كان القرار الأمريكي سيكون له تأثير راديكالي على مسار الحرب الأوكرانية، وخاصةً أن الهجوم المضاد الذي كانت تروج له كييف خلال الشهور الماضية، بدا غير قادر على تحقيق مكاسب جوهرية؛ وذلك بالرغم من الصعوبات التي يواجهها الجيش الروسي والمجموعات المسلحة التابعة له على غرار مجموعة فاجنر.

دلالات موافقة واشنطن على إمداد أوكرانيا بالذخائر العنقودية