كرم سعيد

أعلنت الولايات المتحدة، في 12 أكتوبر 2024، عن استهداف معسكرات تابعة لتنظيم "داعش" في الداخل السوري، وذلك في إطار الرد على تزايد هجمات التنظيم خلال الآونة الأخيرة على مناطق الإدارة الذاتية الكردية بشمال سوريا، وكذلك في منطقة سيطرة الحكومة السورية. وتزامنت هذه الضربات مع كثافة الاستهداف الإسرائيلي للعمق السوري، وهو ما وفر بيئة خصبة لعودة نشاط الجماعات الإرهابية، من خلال توظيف التأزم الحادث في صراعات المنطقة، والتطور الحادث في المواجهات بين إسرائيل وإيران والأذرع المسلحة الموالية لها في لبنان واليمن والعراق، بالإضافة إلى استمرار الحرب على قطاع غزة.دلالات متعددةتكشف الضربات الأمريكية الأخيرة على مراكز "داعش" في سوريا عن دلالات عدة، يمكن بيانها على النحو التالي:1- زيادة النشاط العملياتي لتنظيم داعش: تمكن تنظيم "داعش" خلال الأشهر الأخيرة من استعادة جانب معتبر من نشاطه وتحركاته على الساحة السورية، مستغلاً الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان والضربات المتقطعة على سوريا، بالإضافة إلى نجاحاته في توظيف المساحات الشاسعة والوعرة في الصحراء السورية لإعادة بناء تشكيلاته، وهو ما ظهر في استعادة جزء من سيطرته المكانية في الداخل السوري. ويؤشر على ذلك إعلان القيادة المركزية الأمريكية في 17 يوليو 2024 عن تنفيذ "داعش" نحو 153 هجوماً في سوريا والعراق خلال النصف الأول من عام 2024. وفي أغسطس 2024، كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان عن تنفيذ التنظيم 18 عملية في مناطق قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، ونحو 9 عمليات مسلحة ضد قوات الحكومة السورية في منطقة البادية.2- توجيه رسائل داعمة لإسرائيل: في ضوء استمرار الدعم الأمريكي للعمليات العسكرية الإسرائيلية الراهنة، خاصة بعد الهجمات الإيرانية في مطلع أكتوبر 2024 على إسرائيل؛ فإن الاستهداف الأمريكي لجيوب "داعش" في سوريا يحمل رسالة دعم وتأييد للهجمات الإسرائيلية الأخيرة على الداخل السوري، ويؤكد على استمرار المواجهات الأمريكية ضد الكيانات المسلحة المختلفة. ووفقاً لبعض التقديرات، فإن واشنطن ترى أن المسار الأكثر فاعلية في التوقيت الحالي لدعم إسرائيل، هو مشاركتها في استهداف الكيانات التي تصنفها إرهابية، والتي يمكن أن تمثل خطراً على العمليات العسكرية الإسرائيلية في المنطقة، وفي ضوء ذلك يمكن تفسير استهداف الولايات المتحدة مقرات تابعة لـ"داعش" في الداخل السوري.3- دعم قوات سوريا الديمقراطية: لا تنفصل الضربات الأمريكية على قواعد "داعش" في الشمال السوري عن حرص واشنطن على دعم قوات سوريا الديمقراطية "قسد" الحليف المحلي للتحالف الدولي لمكافحة الإرهاب في سوريا والعراق، خاصة بعد فرار عدد من العناصر الأجنبية التابعة لــ"داعش" في مطلع سبتمبر 2024 من "سجن المطاحن" في مدينة الرقة، الواقعة تحت سيطرة "قسد"، فضلاً عن تحذير الأخيرة، في 25 فبراير 2024، من توجه "داعش" لتجميع صفوفه بــ10 آلاف مقاتل متخفٍ.بالتوازي مع ذلك، فإن الضربات الأمريكية الأخيرة لمراكز "داعش" ترتبط في جانب منها بمحاولة تطمين "قسد"، خاصة بعد رفض واشنطن إجراء انتخابات محلية في مناطق الإدارة الذاتية، وتأكيد الخارجية الأمريكية مجدداً، في 15 سبتمبر 2024، أن "شروط الانتخابات الحرة والنزيهة في شمال وشرق سوريا غير متوفرة"، ولذلك ربما تريد واشنطن من خلال هذه الهجمات التأكيد على استمرار دعمها لقوات "قسد".4- قطع الأوصال الجغرافية لتنظيم داعش: ترتبط هذه الهجمات بمساعي الولايات المتحدة الأمريكية لمنع التنظيمات المتطرفة، وخاصة "داعش"، من العودة إلى التوسع الجغرافي، واستعادة الهيمنة المكانية في الداخل السوري، ولا سيما شمال شرق سوريا، حيث نفوذ حلفاء واشنطن. ويتوازى ذلك مع حرص واشنطن على فرض السيطرة الأمنية لمنع انتقال العناصر المسلحة من الداخل السوري إلى مناطق العمليات العسكرية الإسرائيلية في دول الإقليم.كما تستهدف واشنطن في التوقيت الحالي إضعاف تنظيم "داعش"، ومنع خلايا التنظيم النائمة من توظيف الصراعات المشتعلة في الإقليم لتعزيز مركزيته، وذلك من خلال توجيه ضربات استباقية للتنظيم تمنعه من محاولة تصعيد نشاطه من جديد في جغرافيته التقليدية، وخاصة في سوريا والعراق. وهنا، يمكن تفسير العملية المشتركة والأكبر من نوعها في السنوات الأخيرة، التي نفذتها القوات الأمريكية بدعم عراقي ضد "داعش"، في 31 أغسطس 2024، وأسفرت عن مقتل 15 من عناصر التنظيم الإرهابي غربي العراق. كما أن ثمة رغبة أمريكية في تفكيك قدرات "داعش"، وفك ارتباطه مع قواعده الأيديولوجية في الإقليم وخارجه، خاصة بعد دعوته إلى شن هجمات على أي أهداف إسرائيلية.مسارات محتملةتُشير الهجمات الأمريكية ضد تنظيم "داعش" إلى أن ثمة مسارات محتملة بشأن الخطط الأمريكية حيال التنظيم خلال المرحلة المقبلة:1- تصعيد العمليات ضد التنظيم: حيث يرجح أن تستمر الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة المقبلة في تنفيذ المزيد من الهجمات على تنظيم "داعش" في سوريا والعراق، خاصة مع استمرار التأزم في الإقليم، واحتمال توسع مساحات الحرب في المنطقة، وبالتالي إمكانية توجه التنظيم لهذه الاضطرابات الإقليمية لاستعادة تمدده الجغرافي. كما أن ثمة قلقاً أمريكياً من استعادة التنظيم جانباً من نشاطه، وعودته لتنفيذ عمليات مسلحة ضد حلفاء الولايات المتحدة في سوريا والعراق، وهو ما ظهر في تعرض قوات "قسد" في شمال شرق سوريا لعدد واسع من هجمات "داعش" خلال الآونة الأخيرة.2- اعتماد استراتيجية الضربات المتقطعة: فعلى الرغم من النجاح النسبي للعمليات العسكرية للتحالف الدولي ضد التنظيم في سوريا والعراق، إلا أن ثمة قناعة أمريكية بأن جانباً من هذه الضربات يحتاج إلى جهد استخباراتي ودعم أمني كبير، فضلاً عن أن بعض الهجمات قد لا تنجح في تحقيق أهدافها، وتجلى ذلك، على سبيل المثال، في تأكيد القيادة المركزية الأمريكية بعد الهجوم الأخير في 12 أكتوبر 2024 على "داعش" في شمال سوريا والبادية أنها "تعكف على تقييم نتائج الضربات".وفي ضوء ذلك، فإن خيار الضربات المتقطعة يبدو هو الأرجح، خاصة أن ثمة قناعة أمريكية بأن التنظيم لا يزال يملك القدرة على المواجهة والرد، بفضل حاضنة اجتماعية وشعبية داعمة له في مناطق البادية السورية، بالإضافة إلى قدرته على الاستقطاب والتجنيد.3- دعم القدرات التسليحية للحلفاء: فمع كشف النقاب عن الترتيبات الأمنية بين بغداد وواشنطن لإنهاء مهمة قوات التحالف الدولي، فربما تتجه واشنطن إلى تعزيز القدرات التسليحية والأمنية لحلفائها المحليين في الداخل السوري، وخاصة "قسد"، بالإضافة إلى تخفيف العقوبات عن النظام السوري، بما يمنحه فرصة أكبر لاستعادة جانب من عافيته في مواجهة التنظيم.التصدي للعودةختاماً، يمكن القول إن الهجمات الأمريكية الأخيرة على "داعش" في شمال سوريا ومنطقة البادية تؤشر إلى أن تنظيم "داعش" ما زالت لديه بعض الإمكانيات التي تساعده على الاستمرار داخل سوريا، على الرغم من الخسائر التي تعرّض لها بسبب الضربات الأمنية للتحالف الدولي. ويبدو أن هذا التهديد المستمر لداعش كان أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت واشنطن إلى القيام بضربة مفاجئة واستباقية ضد التنظيم في الداخل السوري، فضلاً عن حرص الولايات المتحدة الأمريكية على تحييد قدرات خصوم إسرائيل من الفاعلين من غير الدول، وذلك في إطار رغبتها في إظهار دعمها لإسرائيل.

أبعاد الضربات الأمريكية ضد تنظيم "داعش" في سوريا