د. محمد عباس ناجي

في خضم تصاعد حدة التوتر بين إيران وإسرائيل، خاصةً بعد أن بدأت الأولى في توجيه تهديدات بأنها سوف تقوم بالرد عسكرياً من جديد على الضربة التي شنتها الثانية في 26 أكتوبر 2024، كان لافتاً بروز دعوات، سياسية وإعلامية، على الساحة الداخلية الإيرانية إلى ضرورة تغيير النهج الحالي الذي تتبناه إيران إزاء القضية الفلسطينية بشكل عام.إذ قال وزير الخارجية الأسبق "علي أكبر صالحي" في حواره بصحيفة "انتخاب"، في أول نوفمبر 2024، إن على إيران أن تفعل شيئاً من أجل منع القضية الفلسطينية من أن تتحول إلى صراع إيراني- إسرائيلي في الرأي العام العالمي. والمفارقة أن الدعوة نفسها تبنتها صحيفة "اعتماد" في مقال للكاتب "علي آهنگر"، نُشر في اليوم نفسه، تحت عنوان "هل تمحو حرب إيران وإسرائيل اسم فلسطين؟". وقد استند كل من "صالحي" و"آهنگر" إلى عامل رئيسي في تبرير تلك الدعوة وإضفاء وجاهة خاصة عليها، ويتمثل في أن التصعيد العسكري الحالي بين إيران وإسرائيل قد أدى إلى صرف النظر عن القضية الأساسية التي كانت السبب الرئيسي فيما يحدث في المنطقة منذ 7 أكتوبر 2023 عندما شنت حركة حماس عملية "طوفان الأقصى" داخل مستوطنات غلاف غزة، على نحو دفع إسرائيل إلى شن حرب واسعة ضد حماس في غزة وحزب الله في لبنان، وقد تمتد تلك الحرب لتشمل سوريا وإيران واليمن والعراق في مرحلة لاحقة.أسباب مُفسرة لكن رغم ذلك، يمكن القول إن هذا المبرر ليس هو الوحيد للاتجاه الجديد الذي بدأ يظهر في إيران ويكتسب أرضية تدريجياً داخل مؤسسات النظام وعلى مستوى الشارع الإيراني أيضاً، حيث إن ثمة أسباباً أخرى يستند إليها هذا الاتجاه في تبني تلك الدعوة، يتمثل أبرزها في:1- ضغوط الدعم الإيراني للفصائل الفلسطينية: حرصت إيران على تقديم الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي للفصائل الفلسطينية على مدى عقود عديدة، أولاً من أجل امتلاك ورقة ضغط في إدارة الصراع مع إسرائيل، وثانياً من أجل نفي صفة "التطييف" عن سياستها الخارجية، حيث وجهت دول وقوى عديدة اتهامات لطهران باتباع سياسة تقوم على دعم التشيع في المنطقة بشكل عام. لكن هذا الدعم فرض، في رؤية هذا الاتجاه الجديد، تكلفة عالية على إيران، يتمثل أبرزها في الضغوط الاقتصادية التي تتعرض لها.إذ يمكن القول إن العقوبات التي تتعرض لها إيران من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول الغربية، ترتبط -في قسم منها- بالنفوذ الإيراني في المنطقة، ولا سيما في المناطق القريبة من إسرائيل، والدعم الذي تقدمه إيران للفصائل الفلسطينية، وحزب الله اللبناني، والمليشيات التي قامت بتكوينها وتدريبها في سوريا للمشاركة في الصراع العسكري إلى جانب قوات الجيش السوري. 2- وقوع مواجهات مباشرة بين إيران وإسرائيل: كان من بين تداعيات الدعم الإيراني للفصائل أن ذلك ساهم في وصول التصعيد بين إيران وإسرائيل إلى مرحلة المواجهة المباشرة. فقد عمدت إيران على مدى أكثر من أربعة عقود إلى إدارة التصعيد مع إسرائيل بأدوات غير مباشرة، أو بمعنى أدق عبر ما يسمى بسياسة "الحرب بالوكالة"، من خلال تكليف المليشيات الموالية لها بالانخراط في هذا الصراع نيابةً عنها. إلا أن هذا النمط من الصراع (الحرب بالوكالة) توارى نسبياً بفعل التداعيات التي فرضتها عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة حماس في 7 أكتوبر 2023.إذ دفع ذلك إسرائيل إلى الانتقال من مرحلة الحرب بالوكالة مع إيران إلى المواجهة المباشرة مع الأخيرة. وقد بدأتها تل أبيب عندما تعمدت قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، في أول أبريل 2024، على نحو أدى إلى مقتل 7 من كوادر الحرس الثوري كان من بينهم قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان "محمد رضا زاهدي". ولم يوفر هذا التصعيد المباشر من جانب إسرائيل خيارات متعددة أمام إيران التي وجدت نفسها مضطرة لمجاراة إسرائيل في هذا التصعيد عبر شن هجمات مباشرة بواسطة الصواريخ الباليستية والطائرات من دون طيار ضد الأخيرة في 13 أبريل 2024، وهي الهجمات التي ردت عليها تل أبيب بهجوم مباشر ومحدود استهدف قاعدة هشتم شكاري في محافظة أصفهان بعد ذلك بستة أيام.وتوالت بعد ذلك المواجهات المباشرة على غرار ما حدث خلال الفترة من أول إلى 26 أكتوبر 2024، وهي المواجهات التي قد تتكرر من جديد، في ظل تصاعد التهديدات الإيرانية في الوقت الحالي بتوجيه رد عسكري قاسٍ ضد إسرائيل في الفترة القادمة رداً على الهجمات التي شنتها في 26 أكتوبر. وقد كانت هذه الهجمات هي الأولى من نوعها التي تتعرض لها سماء العاصمة طهران منذ انتهاء الحرب مع العراق التي اندلعت في الفترة بين عامي 1980 و1988، على نحو فرض مزيداً من الضغوط على القيادة في إيران دفعها إلى تغيير موقفها من "التهوين" من نتائج الهجمات الإسرائيلية إلى التهديد بردٍ قاسٍ عليها.3- التحسب لتفاقم الخلافات مع الدول الأوروبية: يرى هذا الاتجاه أن استمرار التصعيد العسكري بهذه الوتيرة التي ربما تتزايد خلال المرحلة القادمة من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم حدة الخلافات مع الدول الأوروبية إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وهي خلافات تضاعف من تكلفة هذا الدعم الذي تقدمه إيران إلى وكلائها في المنطقة. فإلى جانب توتر العلاقات مع بعض هذه الدول، بل ومشاركة عدد منها، ولا سيما فرنسا وبريطانيا وألمانيا، في التصدي للهجمات التي شنتها إيران ضد إسرائيل في 13 أبريل 2024، فقد بدأ بعضها في فرض عقوبات على إيران، خاصةً في ظل إمعان الأخيرة في تقديم دعم عسكري ممثل في الطائرات من دون طيار والصواريخ الباليستية إلى روسيا لمساعدتها على إدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا. وربما تتجه دول أوروبية محددة، وفي مقدمتها ألمانيا، إلى تبني خطوات تصعيدية أكبر ضد إيران خلال المرحلة القادمة، خاصةً في ظل تفاقم الأزمة العالقة بين الطرفين حول ملف مزدوجي الجنسية، والذي عاد إلى الواجهة من جديد عقب تنفيذ حكم الإعدام بحق الألماني الإيراني الأصل "جمشيد شارمهد"، في 30 أكتوبر 2024، بتهمة الإفساد في الأرض وقيادة تنظيم إرهابي استهدف مسجداً في عام 2008.4- التخوف من إضعاف إيران أمام حلفائها: حرصت إسرائيل بعد الهجمات التي شنتها ضد إيران في 26 أكتوبر 2024، على الترويج لأن هذه الهجمات أسفرت عن خروج بطاريات منظومة الدفاع الجوي "إس- 300" عن الخدمة، وأن ذلك سوف يمنح سلاح الجو الإسرائيلي خلال المرحلة القادمة مزيداً من الحرية في العمل داخل الأجواء الإيرانية. هنا، وفي حالة ما إذا اكتسبت هذه التقديرات الإسرائيلية مصداقية، فإن ذلك معناه أن إيران سوف تبدو في أمسِّ الحاجة لدعم حلفائها، خاصةً روسيا والصين، من أجل إعادة بناء منظومة الدفاع التي تعرضت للتدمير بسبب الهجمات الإسرائيلية.لكن هذا المسار قد يؤدي، في رؤية هذا الاتجاه، إلى إضعاف موقع إيران حتى أمام حلفائها، على نحو قد يوفر لهم مزيداً من أوراق الضغط التي قد يستخدمونها ضد طهران في مرحلة لاحقة. وهنا، يمكن تفسير أسباب الحملة التي تشنها بعض وسائل الإعلام الإيرانية ضد روسيا بسبب الخلافات التي تتصاعد حدتها بينها وبين إيران، والتي تشير -وفقاً لهذا الاتجاه- إلى أن روسيا تستخدم تعاونها العسكري، وربما النووي، مع إيران كآلية لإدارة تصعيدها مع الدول الغربية، وأن دعمها لإيران سوف تكون له حدود مرتبطة بحساباتها لمسارات هذا التصعيد خلال المرحلة القادمة.كرة الثلجفي ضوء ذلك، يمكن القول إن هذا الاتجاه ربما يكتسب شعبية تدريجية داخل مؤسسات النظام وعلى مستوى الشارع خلال المرحلة القادمة، ولا سيما مع تفاقم الكُلفة التي يفرضها التصعيد العسكري المتواصل مع إسرائيل، والذي يأتي في ظل ظروف غير مواتية بالنسبة لإيران، لا على المستوى الداخلي ولا على الصعيد الإقليمي.

لماذا تزايدت الدعوات لتغيير النهج الإيراني إزاء القضية الفلسطينية؟