إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

يستغل الديمقراطيون مقاربات دونالد ترامب تجاه ملفات السياسة الخارجية الأمريكية خلال وجوده في البيت الأبيض، القائمة على شعار "أمريكا أولاً"، وضرورة الانكفاء على مشاكل الولايات المتحدة، لتخويف الناخبين من فكرة إعادة انتخابه؛ لتأثيراتها السلبية على القيادة الأمريكية للعالم.وبالرغم من عدم القدرة على التنبؤ بنتائج انتخابات نوفمبر القادم، فإن هناك احتمالات عالية لفوز ترامب، الذي لا يزال يتمتع بمستويات تأييد عالية بين المواطنين الأمريكيين، كما تفوق على الرئيس الحالي جو بايدن في بعض استطلاعات الرأي العام، بيد أن فوز ترامب رغماً عن القضايا الجنائية المتهم بها، والوعيد الذي يتوعد به معارضيه إذا فاز، تُنذر بأن الولايات المتحدة ستكون في خطر على المستويات الداخلية من حيث تقويضه مؤسسات الدولة الديمقراطية. أما على مستوى السياسة الخارجية، فإن نهجه السابق قد يكون دليلاً استرشادياً لما سيفعله ترامب إذا فاز من جديد.نهج ترامبهناك جملة من التوقعات المرتبطة بنهج الرئيس السابق دونالد ترامب في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية القادمة، ويمكن توضيح ذلك فيما يلي:1– تشكيك أمريكي في أهمية حلف الناتو: هدد ترامب، خلال رئاسته السابقة، الدول الأعضاء بحلف شمال الأطلنطي بتخلي الولايات المتحدة عن الدفاع عنها إذا لم تلتزم بالوفاء بالتزاماتها من حيث معدلات الإنفاق الدفاعي، مشيراً إلى أن واشنطن تتكبد تكلفة باهظة من جراء الدفاع عن الحلفاء الأوروبيين، ويُتوقَّع في حال فوزه بفترة رئاسية جديدة، أن يهدد بانسحاب واشنطن من الحلف. لكن تلك الفكرة قد تواجه رفضاً واسعاً بين النخبة السياسية الأمريكية، خاصةً أن ذلك سيمنح موسكو قدرة أكبر على المناورة والتحرك داخل القارة الأوروبية وخارجها، بما سيهدد حلفاء الولايات المتحدة من جهة، والمصالح الأمريكية من جهة أخرى.2– تصعيد الصراع الصيني–الأمريكي: يرى الرئيس السابق ترامب أن الرئيس بايدن، الذي فرض قيوداً وضوابطَ جديدة على الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ووضع قيوداً على الصادرات الأمريكية التكنولوجية إلى بكين، لم يتبنَّ مواقف حازمة تجاه التهديدات التي تفرضها بكين على المصالح الاقتصادية الأمريكية، متوعداً بتبني نهج أكثر تشدداً تجاه الصين إذا وصل من جديد إلى البيت الأبيض، وهو ما يعني استئناف الحرب التجارية التي سبق أن شنها على بكين؛ علماً بأن هناك تحليلات تشير إلى أن السياسات التي سبق أن تبناها ترامب لم تحقق التوازن في الميزان التجاري بين البلدين. واتضح أن هناك اتفاقاً ضمنياً بين الجمهوريين والديمقراطيين بشأن صعوبة الصدام المباشر مع بكين؛ لأن ذلك سينعكس على الولايات المتحدة سلباً قبل بكين، ومع ذلك، فإن ترامب سيعود إلى تصريحاته الحادة تجاه الصين، كما أن العلاقات الأمريكية–الصينية قد تزداد توتراً؛ لأن واشنطن تُصنِّف بكين بوجه عام على أنها المنافس الاستراتيجي الأول لها.3– إنهاء الحرب الروسية–الأوكرانية: يُسلط الديمقراطيون الضوء على تصريحات ترامب المتعلقة بقدرته على إنهاء الحرب الروسية–الأوكرانية في يوم واحد، مشيرين إلى وجود علاقات قوية بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو ما يثير المخاوف من تأثير ذلك على الأمن القومي الأمريكي من ناحية، وعلى استمرار الدعم الأمريكي المقدم لأوكرانيا من ناحية خرى، خاصةً أن الجمهوريين داخل الكونجرس يرون أنه لا يمكن الاستمرار في تقديم الدعم لكييف إلى ما نهاية، مع عدم وجود سيناريو لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية.وهو ما يعني أن عودة ترامب قد تفضي إلى زيادة الضغط على كييف لإنهاء الحرب، وتبني حلول أكثر واقعيةً، وهو أمر قد يفعله بايدن أيضاً والديمقراطيون إذا فازوا من جديد، خاصةً أنه سيكون من الصعب الاستمرار في إقناع الرأي العام الأمريكي باستمرار باقتطاع جزء من الضرائب الأمريكية لمساعدة كييف.4– التخلي عن الحلفاء الآسيويين: قد يتجه الرئيس ترامب نحو التخلي عن حلفاء الولايات المتحدة داخل القارة الآسيوية، لا سيَّما أن لديه رؤية مفادها أن حلفاء واشنطن يعتمدون عليها بقدر مُفرِط، وأن عليهم الدفاع عن أنفسهم من التهديدات الصينية، وهو الأمر الذي إذا تحقَّق فسيمنح بكين ميزات إضافية للتحرك على مستوى أعمق لمد نفوذها دخل القارة الآسيوية، وزيادة التحكم في منطقة الهندو–باسيفيك، وتقييد حرية الملاحة البحرية.5– إهمال ملف التغيرات المناخية: لطالما عارض الرئيس السابق قضية التغير المناخي، واعترض على فكرة التوجه نحو الاقتصاد الأخضر، أو إلغاء المشاريع الاقتصادية التي تدرُّ أرباحاً بحجة الحفاظ على البيئة، كما انسحب من اتفاقية باريس للمناخ، وإذا فاز بالانتخابات الرئاسية القادمة، فإن تعاون الولايات المتحدة وتعهداتها العالمية بشأن التغير المناخي قد يتم التراجع عنها.6– سياسة أمريكية داعمة لإسرائيل: اتخذ الرئيس السابق العديد من السياسات تجاه أزمات منطقة الشرق الأوسط التي أدت إلى تفاقم الاضطرابات داخلها؛ بدءاً من انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، باعتبارها عاصمةً لإسرائيل، وإغفال حل الدولتين. ومن غير المتوقع، إذا فاز ترامب، أن يتغير نهجه تجاه المنطقة؛ لا سيَّما أن تصريحاته المختلفة تدعم استمرار الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وتحرض على اتباع نهج أكثر شدةً للقضاء على حركة حماس، كما يتوعد بطرد الفلسطينيين من الأراضي الأمريكية إذا كان في السلطة. ولا يُتوقع أن تنخرط إدارة ترامب في حلحلة الأزمات والصراعات التي تموج بها منطقة الشرق الأوسط.تبعات الفوزمن المتوقع أن يكون للسياسات التي سيتبعها ترامب تأثيرات واضحة على الدور الأمريكي خارجياً وعلاقاتها بحلفائها الاستراتيجيين، وهو ما يمكن الإشارة إليه فيما يلي:1– زيادة الإضرار بمصداقية الولايات المتحدة عالمياً: لا يهتم الرئيس السابق كثيراً بالأسس التقليدية التي أُسِّست عليها السياسة الخارجية الأمريكية، ولا بأهمية القيم والمبادئ باعتبارها محركاً للتوجهات الأمريكية الخارجية، ولا سيما حقوق الإنسان والقوانين المتعلقة بها، بما يعني أن الولايات المتحدة ستُخفِّف انتقاداتها لانتهاكات حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم، وهو الأمر الذي من شأنه أن يُقوِّض مصداقية الولايات المتحدة عالمياً، وقيادتها للنظام الدولي الليبرالي، الذي لعبت الدور الأساسي في تأسيسه، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية.2– تبني حلفاء واشنطن استراتيجية التحوط: إن فوز ترامب من جديد قد يدفع حلفاءها إلى التحوط الاستراتيجي، والبدء في البحث عن حليف بديل لها. وفي هذه الحالة، فإن واشنطن تعطي فرصة ذهبية لموسكو وبكين لملء الفراغ الذي قد تُخلِّفه واشنطن من جهة، وقد يدفع الحلفاء داخل القارة الأوروبية إلى التوجه نحو إنفاق المزيد على تعزيز القدرات الدفاعية ليكونوا أكثر استعداداً للذود عن أنفسهم بدلاً من الاعتماد على واشنطن، كما أنهم قد يتَّجهون نحو تعزيز التحالفات فيما بينهم، سواء كانت هذه التحالفات جماعية أو ثنائية.3– إمكانية استفادة الصين من عودة ترامب: بالرغم من حالة الصدام المتوقعة في حالة عودة ترامب إلى البيت الأبيض، فإن ذلك قد يمثل فرصة جيدة بالنسبة إلى الصين، وخاصةً مع النهج السلبي الذي قد يتبنَّاه ترامب تجاه حلفاء واشنطن. وفي هذا الصدد، يدفع البعض بأن بكين قد تستفيد من تواري الدور الأمريكي في عهد ترامب، الذي سيشجع الرئيس الصيني على الترويج لبلاده باعتبارها قوة عالمية أكثر مسؤوليةً، وخاصةً مع الفوضى التي تًثيرها رئاسة ترامب؛ الأمر الذي سيكون من شأنه كذلك التأثير في قضايا أخرى ذات أهمية، مثل السياسة تجاه تايوان.4– تزايد الشكوك حول الترتيبات الأمنية في أوروبا: ربما يؤدي وصول ترامب إلى البيت الأبيض إلى تزايد الشكوك حول الترتيبات الأمنية في أوروبا، لا سيما مع الموقف السلبي الذي يتبنَّاه ترامب تجاه حلف الناتو، وهو ما دلَّلت عليه تصريحاته الأخيرة حينما انتقد – خلال لقاء انتخابي في 10 فبراير 2024 بولاية ساوث كارولينا – دول الناتو التي لا تحترم التزاماتها بتخصيص أموال كافية للموازنات الدفاعية، وأكد أنه لن يحمي هذه الدول، بل سيذهب إلى حد تشجيع روسيا على فعل "كل ما تريد" ضدها.5– إمكانية إعطاء الدور الروسي المزيد من الزخم: من المرجح أن تؤدي رئاسة ترامب الجديدة إلى إعطاء الدور الروسي المزيد من الزخم؛ فترامب لا ينظر بدرجة كبيرة إلى روسيا بصفتها تهديداً محورياً لواشنطن، كما أن تصريحاته بأنه غير مستعد لمساعدة أي حليف قد يتعرض للهجوم، يرسل رسائل إلى موسكو أن الضغط الأمريكي عليها سيتراجع، ومن ثم ستواصل موسكو تنفيذ سياساتها في مناطق جوارها، وتعمل على تنفيذ سياساتها في أوكرانيا.6– تأجيج الصراعات داخل الشرق الأوسط: سواء فاز بايدن أو ترامب، فإن كليهما لن يتوانى في اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية الأمريكية؛ حيث استُخدمت في العراق أو سوريا أو في منطقة البحر الأحمر أو اليمن لحماية المصالح الأمريكية، وهو أمر إذا استمر، فإنه يُنذر بزيادة الاضطرابات العسكرية داخل منطقة الشرق الأوسط، خاصةً إذا نفذت إسرائيل وعودها بتنفيذ عملية عسكرية كبيرة على لبنان، واستمر النهج الأمريكي تجاه فلسطين؛ حيث التخلي عن فكرة تنفيذ حل الدولتين، أو إيران التي باتت على مقربة من امتلاك قنبلة نووية من شأنها قلب موازين القوى داخل الشرق الأوسط.انكفاء الداخلوختاماً، يمكن القول إن تركيز الرئيس السابق ترامب على حل المشكلات الداخلية الأمريكية، وفي مقدمتها المشكلات الاقتصادية، ومشكلة الحدود لإرضاء الناخبين الأمريكيين، ومشاكله القانونية، بجانب الثأر من خصومه، ستدفعه إلى اتباع نهج أكثر تمركزاً على الداخل الأمريكي، بما سيدفع نحو تراجع واشنطن عن بعض التزاماتها العالمية، وهو الأمر الذي بات أكثر بروزاً خلال السنوات الأخيرة، في ظل تراجع نفوذها في مناطق مختلفة حول العالم، مقابل تنامي نفوذ قوى أخرى على غرار روسيا والصين. وفي ضوء أن ترامب سيعمل على تقويض بيروقراطية مؤسسات السياسة الخارجية الأمريكية التي سبق أن حالت دون دفع ترامب لارتكاب أخطاء بارزة في بعض الملفات الخارجية، فإن ارتكاب أخطاء كارثية على المستوى الخارجي أمر متوقع الحدوث إذا فاز ترامب بالانتخابات الرئاسية القادمة.

كيف سيشكل فوز ترامب تحدياً للدور الأمريكي العالمي؟