إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

تتصاعد حدة الخلافات بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية في التوقيت الحالي بشأن تطورات الوضع في شمال وشرق سوريا، والموقف من القوات الكردية. فبينما أكد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في 12 ديسمبر 2024، على مضيّ بلاده قدماً لإنهاء وجود وحدات حماية الشعب الكردية، بالإضافة إلى تأكيد المسؤولين الأتراك خلال الأيام الماضية على تطهير الشمال السوري من التنظيمات الإرهابية الكردية. ففي المقابل، اتخذت واشنطن خطوات عديدة خلال الآونة الأخيرة حاولت من خلالها توجيه إشارات إلى أنقرة بأنها لا تدعم الترتيبات الأمنية التي تقوم بصياغتها في شمال سوريا، ومنها التأكيد على الدور المحوري لقوات "قسد" في مواجهة تنظيم "داعش". كما اجتمع&nbsp;قائد القيادة المركزية الأمريكية "سنتكوم" الجنرال مايكل إريك كوريلا سوريا، في 11 ديسمبر 2024، بقوات سوريا الديمقراطية "قسد".خلاف علنيتتباين رؤى كلتا الدولتين حول المشهد السوري، ووصل الخلاف بينهما للعلن بشأن دور ومستقبل قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:1- تباين التصريحات حول دور "قسد" في سوريا: في الوقت الذي أكد فيه الرئيس أردوغان عقب سقوط الأسد أن بلاده "ستسحق المنظمات الإرهابية في أقرب وقت ممكن"، كشف وزير الخارجية التركي في مقابلة تلفزيونية، في 12 ديسمبر 2024، أن هدف تركيا الاستراتيجي يتمثل في إنهاء وجود "قسد"، معتبراً أنها أمام خيارين، إما أن تحل نفسها أو تواجه القضاء عليها بالقوة. وأضاف أن الموقف التركي من التنظيمات الكردية في سوريا يمثل قضية "وجودية" تتعلق بالأمن القومي التركي.في المقابل، تبنّت واشنطن مقاربة داعمة لعناصر "قسد"، وكان بارزاً هنا تأكيد وزير الخارجية الأمريكي خلال زيارته للأردن في 12 ديسمبر 2024 على أهمية الدور الذي تلعبه "قسد" في منع عودة "داعش"، ووصف بلينكن هذا الدور بأنه "حيوي" لاستقرار سوريا بعد سنوات من الصراع مع التنظيم. كما أشار جون كيربي المتحدث باسم البيت الأبيض في وقت سابق إلى أن الولايات المتحدة تقدر مخاوف تركيا المشروعة بشأن مكافحة الإرهاب، لكنه أكد على شراكة بلاده مع قوات سوريا الديمقراطية.وبينما تركز رؤية تركيا على ضرورة تحييد الإدارة الذاتية الكردية من أية ترتيبات سياسية مستقبلية للمشهد السوري، باعتبارها امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا "إرهابياً"، ففي الرؤية الأمريكية يمثل التيار الكردي حجر زاوية في بناء مستقبل الدولة السورية بعد سقوط الأسد، واعتبار القوات الكردية نقطة استناد استراتيجية في مواجهة التنظيمات الإرهابية، بالإضافة إلى هيمنتها على ما يقرب من ثلث الجغرافيا السورية.2- إدانة الولايات المتحدة عملية "فجر الحرية": وجهت الولايات المتحدة انتقادات لعملية "فجر الحرية" التي أطلقتها الفصائل المدعومة من تركيا في 30 نوفمبر 2024 ضد قوات "قسد" في مناطق شرق الفرات. كما أعرب بعض المشرّعين الأمريكيين، في 14 ديسمبر 2024، عن مخاوفهم من احتمال توسيع نطاق الهجمات التركية على قوات "قسد"، وطالبوا بالعمل على تحجيم النفوذ التركي داخل سوريا في مرحلة ما بعد الأسد. ويشار إلى أن السيناتور الجمهوري من ولاية أوكلاهوما، "ماركواين مولين"، قد حذّر في تصريحات له في 13 ديسمبر 2024 من مخاطر تراجع دور "قسد". على الجانب الآخر، رفضت أنقرة الاتهامات الأمريكية بشأن عملية "فجر الحرية" ضد قوات سوريا الديمقراطية، مؤكدةً حقها في الدفاع عن حدودها وحماية شعبها وأمنها القومي.3- استمرار الدعم العسكري الأمريكي لأكراد سوريا: شكَّل استمرار الدعم العسكري الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردي في مرحلة ما بعد الأسد، نقطة خلاف كبيرة بين واشنطن وأنقرة، فبينما ترى الأخيرة أن الهدف الأساسي من هذا الدعم ليس محاربة تنظيم داعش بقدر كونه دعماً لإقامة دولة كردية في المنطقة ستكون هي المتضرر الأكبر منها، فإن ثمة تقديرات محلية أمريكية باتت تطالب بعد سقوط الأسد بضرورة مزيد من التدخل العسكري الأمريكي المباشر لــ"تقويض" الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا، كي يكون لواشنطن نفوذ وازن في "اليوم التالي" من الحكم في سوريا، بالإضافة إلى أن ثمة قناعة لدى تيار سياسي واسع في واشنطن بأن دعم "قسد" عسكرياً يحمل أهمية ملحة لحماية المصالح الأمريكية الأوسع في الشرق الأوسط.4- مخاوف أنقرة من استمرار توظيف واشنطن للأكراد: مع غياب رؤية مكتملة بشأن مستقبل الوضع في سوريا، والقلق من عدم قدرة فصائل المعارضة السورية على ضبط الأوضاع الأمنية وتعزيز حالة الاستقرار بعد سقوط الأسد، تدفع بعض النخب الأمريكية لجهة الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع قوات سوريا الديمقراطية "قسد" خلال المرحلة المقبلة. وفي ضوء ذلك، تظلّ هذه المقاربة الأمريكية مصدر قلق لتركيا ونافذة للاحتكاك التركي-الأمريكي، مما يعقد من مستقبل العلاقة بين البلدين.مسارات محتملةفي ظل التوتر التركي الأمريكي على خلفية تباين الرؤى بشأن الموقف من قوات سوريا الديمقراطية في الشمال السوري، فإن ثمة مسارات محتملة للعلاقة خلال المرحلة المقبلة، يمكن بيانها على النحو التالي:1- تحسين العلاقات الأمريكية التركية: مع تنصيب ترامب في 20 يناير 2025 رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، تتصاعد فرص التحسن في العلاقات التركية-الأمريكية، وبالتالي معالجة الخلافات المتعلقة بملف أكراد سوريا. ويبدو هذا السيناريو مرجحاً بصورة معتبرة لعدة أسباب، منها العلاقة الشخصية بين أردوغان وترامب، وقد سمحت هذه العلاقة التي تتسم بالود بين الرئيسين بتجاوز الأعراف الدبلوماسية للتحايل على بعض التوترات العارضة في علاقة البلدين.وبالتالي، من المرجح أن يستغل "أردوغان" علاقاته الشخصية مع "ترامب" لتحييد الملف الكردي، لا سيما وأن الأخير لا يُبدي اهتماماً بالعلاقة مع الأكراد، وتجلى ذلك بوضوح في تغريدة ترامب على منصة "تروث" في 14 ديسمبر 2024، والتي علق فيها على المشهد السوري، حيث قال: "سوريا في فوضى، لكنها ليست صديقتنا". وأضاف: "لا ينبغي للولايات المتحدة أن يكون لها أي علاقة بما يحدث، هذه ليست معركتنا، لندع الأمور تجري، دون أن نتدخل".2- تصاعد التوترات بين تركيا والولايات المتحدة: تشير بعض الاتجاهات إلى احتمال توتر العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة بسبب استمرار دعم الأخيرة للقوات الكردية في سوريا ما بعد الأسد. ويشير الرفض الأمريكي للعمليات العسكرية التي تنفذها الفصائل الموالية لتركيا في الوقت الحالي في مناطق شرق الفرات، إلى احتمال زيادة التصعيد بين البلدين، وعودة بعض القضايا الخلافية للواجهة مجدداً. ويُشار إلى أن ثمة قلقاً أمريكياً بعد سيطرة الفصائل الموالية لتركيا على مناطق النفوذ الكردي في تل رفعت ومنبج ودير الزور خلال الأيام الماضية.بيد أن هذا السيناريو يبدو مستبعداً في التوقيت الحالي، بالنظر إلى حاجة أنقرة للدعم الأمريكي للإدارة السورية الجديدة التي تجمعها علاقات استراتيجية مع تركيا. كذلك في رؤية أنقرة، فإن خفض التوترات مع واشنطن بشأن الملف الكردي يقطع الطريق على تدخل إسرائيلي محتمل، بعد دعوة قيادات من قوات سوريا الديمقراطية "قسد" للحصول على دعم إسرائيلي لمواجهة تركيا والفصائل الموالية لها. بالتوازي، تعي واشنطن الأهمية المركزية لتركيا لحماية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، خصوصاً في ظل استمرار الارتدادات السلبية التي أفرزتها الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان.3- ضبط حدة الخلافات بين الدولتين: يرجح أن تتجه الدولتان نحو ضبط الخلاف بينهما بشأن ملف أكراد سوريا، ومنع وصول العلاقة بينهما إلى حد القطيعة، وفي ضوء ذلك يرجح أن تستمر واشنطن في تطوير علاقاتها مع "قسد"، ولكن بطريقة لا تتعارض مع مصالح تركيا. بمعنى أن تعمل واشنطن على إعادة النظر في استراتيجية الحكم الذاتي الكردي مقابل إدماج التيار الكردي في عملية بناء مستقبل الدولة السورية، والتأكيد على حقوقهم اللغوية والثقافية، وتعزيز حضورهم السياسي في المعادلة السورية، وقد يوفر ذلك فرصة لتخفيف التوترات مع تركيا.وفي ضوء ذلك، يتوقع أن تعمل إدارة بايدن على إقناع أنقرة بالتخلي عن القوة الصلبة في مواجهة "قسد" مقابل الحد من الدعم الأمريكي للجماعات الكردية السورية، وتكريس حقوق الأقليات السورية في الدستور الجديد، باعتبار ذلك يمثل شرطاً أساسياً لبناء دولة سورية شاملة وديمقراطية. بيد أن هذا السيناريو برغم وجاهة أسبابه إلا أنه يواجه معضلتين، أولهما: احتمال عدم استجابة أنقرة لمطالب إدارة بايدن التي أوشكت على الرحيل. وثانيهما: ترتبط بإصرار "قسد" على الإدارة الذاتية، وهو ما ظهر في تصريحات "مظلوم عبدي" قائد "قسد" لصحيفة "وول ستريت جورنال" في 13 ديسمبر 2024، عندما أوضح أن قوات "قسد" تسعى لتطبيق نظام إداري لا مركزي يتيح لجميع المناطق السورية إدارة شؤونها بما يحقق العدالة والمساواة، وهو ما يتعارض مع رؤية تركيا لملف أكراد سوريا.ختاماً، يمكن القول إن ملف قوات "قسد" سيشكل تحدياً رئيسياً في العلاقات التركية الأمريكية خلال المرحلة المقبلة، خصوصاً مع تراجع الفرص في التوقيت الحالي للتوصل إلى تسوية بشأن هذا الملف، وهو ما قد يُلقي بتأثيره على ملفات خلافية أخرى بين البلدين. لكن مع وصول ترامب مجدداً للسلطة يرجح حدوث انفراجه في الملف الكردي الذي لا يحظى باهتمام الإدارة الجمهورية المنتخبة.

أبعاد الخلاف التركي الأمريكي حول قوات "قسد" الكردية