عرض: د. إيمان عبد الحليم

فيما يُنتظر إجراء انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو 2024، تكثر التحليلات بشأن النتائج المتوقعة لهذه الانتخابات، والتي لا يُستبعد أن تسفر عن تقدم الأحزاب اليمينية المتطرفة على نحو غير مسبوق، مما يثير المخاوف بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي، وذلك ما كان حافزاً لبعض الكتاب والمراكز البحثية لتقييم ودراسة الاستراتيجيات التي يمكن اتباعها لمعالجة مثل هذه المخاوف.

ومن هذا المنطلق، نشر "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"، تقريراً حمل عنوان "خريطة سياسية جديدة: إجراء انتخابات البرلمان الأوروبي بشكل صحيح"، في 21 مارس 2024، لكل من "إيفان كراستيف"، رئيس "مركز الاستراتيجيات الليبرالية" في صوفيا، وزميل دائم في "معهد العلوم الإنسانية" في فيينا، ومؤلف كتاب "هل غدا بعد؟: مفارقات الوباء"، و"مارك ليونارد"، المؤسس المشارك ومدير "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"، ومؤلف كتاب "عصر عدم السلام: كيف يسبب الاتصال الصراع". حيث يحاول التقرير استكشاف مشهد الانتخابات الأوروبية القادمة وخاصة في ضوء الصعود السياسي للقوى اليمينية في أكثر من دولة أوروبية.

النهج الخاطئ

بحسب ما يشير التقرير، وإزاء المخاوف المرتبطة بصعود اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي المقبلة، فإن العديد من الأحزاب المؤيدة لأوروبا، والتي تستعد هي الأخرى للانتخابات، تتبع نهجاً معيباً في مواجهة اليمين، الأمر الذي قد يعرضها للكثير من المخاطر، وهو ما عرضه التقرير في النقاط التالية:

1- تزايد النفوذ اليميني في العديد من الدول الأوروبية: وفقاً لتوقعات "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"، والتي نُشرت في يناير الماضي والخاصة بانتخابات البرلمان الأوروبي، فإن انتخابات 2024 يمكن أن تشهد تحولاً كبيراً نحو اليمين في العديد من الدول، مع حصول الأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة على الأصوات والمقاعد في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، وخسارة أحزاب يسار الوسط وأحزاب الخضر. وحيث تشير التوقعات إلى أن الشعبويين المناهضين لأوروبا من المرجح أن يفوزوا بأكبر عدد من الأصوات في تسع دول أعضاء (النمسا، وبلجيكا، وجمهورية التشيك، وفرنسا، والمجر، وإيطاليا، وهولندا، وبولندا، وسلوفاكيا)، وأن يأتوا في المركز الثاني أو الثالث في تسع دول أخرى (بلغاريا وإستونيا وفنلندا وألمانيا ولاتفيا والبرتغال ورومانيا وإسبانيا والسويد).

وتشير التوقعات أيضاً إلى أن ما يقرب من نصف المقاعد في البرلمان الأوروبي المقبل سيشغلها أعضاء من خارج "الائتلاف الكبير" الذي يضم مجموعات الوسط، وأن تحالف كل اليمين من الديمقراطيين المسيحيين، والمحافظين، وأعضاء البرلمان الأوروبي من اليمين المتطرف يمكن أن يظهر بأغلبية في البرلمان لأول مرة.

2- القصور في استراتيجيات الأحزاب الأوروبية لمواجهة اليمين: في محاولة للتصدي لتحدي صعود اليمين في الانتخابات الأوروبية المقبلة، يبدو أن الأحزاب الرئيسية والنخب السياسية الأوروبية تستقر على استراتيجية ذات شقين. أولاً، هي تحاول تحييد الهجرة كقضية سياسية من خلال تقليد السياسات اليمينية، وكان ميثاق الهجرة الجديد الذي أقره الاتحاد الأوروبي في ديسمبر مثالاً واضحاً لهذه الاستراتيجية، كما كان قانون الهجرة الذي تم تبنيه مؤخراً في فرنسا، والذي وضعه اليمين واليمين المتطرف إلى حد كبير. وثانياً، هي تأمل في تغيير السرد لصالحها من خلال الترويج لرؤية خاصة بنجاح استجابة الاتحاد الأوروبي للتحديات الخاصة بحرب روسيا على أوكرانيا، وأزمة المناخ، ووباء "كوفيد-19".

ولكن بالرغم من ذلك، فإن نتائج الاستطلاع الأخير الذي أجراه "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" - والذي أجري في يناير 2024 في 12 دولة من دول الاتحاد الأوروبي التي تمثل ثلاثة أرباع مقاعد البرلمان الأوروبي (النمسا، فرنسا، ألمانيا، اليونان، المجر، إيطاليا، هولندا، بولندا، البرتغال، رومانيا، أسبانيا والسويد)- يُظهِر أن كلاً من الاستراتيجيتين من المرجح أن تأتي بنتائج عكسية.

فالاستراتيجية الأولى تخاطر بالمبالغة في التأكيد على الدور الذي تلعبه سياسة الهجرة في تشكيل توجهات الناخبين، في حين أن الاستراتيجية الثانية قد تتسبب في تعبئة الناخبين من الأحزاب المناهضة لأوروبا عن غير قصد من خلال تسليط الضوء على وجه التحديد على تلك القضايا الجدلية، حيث من المرجح أن ينحاز الرأي العام إلى رؤى اليمين المتطرف بشأن مدى النجاح في إدارتها ومعالجتها.

3- توسع أجندة اليمين الأوروبي دون الاقتصار على قضية الهجرة: هناك شعور واسع النطاق بأن الهجرة يمكن أن تصبح القضية المركزية في السياسة الأوروبية في عام 2024، ولذا عندما يتعلق الأمر بمعالجة صعود اليمين الأوروبي المتطرف، حاولت العديد من الأحزاب الرئيسية تحييد قضية الهجرة من خلال تقليد السياسات المتشددة التي انتهجتها الأحزاب اليمينية المتطرفة، سواء في سياساتها الخاصة أو من خلال دعم الإجراءات الصارمة على مستوى الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، ورغم أن قضية الهجرة تتقدم بشكل بارز بالتأكيد، فإن استطلاع "المجلس الأوروبي" يُظهر أن الهجرة ليست أمراً مركزياً كما يعتقد العديد من صناع السياسات، بل ربما لا تأتي في مقدمة المشكلات الخاصة باهتمامات الناخبين.

فعلى مدى الأعوام الخمسة عشرة الماضية، تعرض الاتحاد الأوروبي لخمس أزمات كبرى -أزمة الهجرة، وحرب روسيا على أوكرانيا، والأزمة المالية العالمية، وأزمة المناخ، وجائحة كوفيد 19- وكلها تركت بصماتها على الاتحاد الأوروبي، بل وتأتي هذه المشكلات في المقدمة بالنسبة لاهتمامات الناخبين الأوروبيين، بحسب استطلاع "المجلس الأوروبي" في يناير الماضي، حيث كانت في مقدمة اهتمامات 15% من أفراد العينة، في مقابل 21% للقضايا الاقتصادية، و19% لأزمة "كوفيد-19"، و16% لقضايا المناخ، و16% للحرب في أوكرانيا.

وربما الأمر الأكثر أهمية، أنه حتى أولئك الأكثر اهتماماً بالهجرة من غير المرجح أن يصدقوا الأحزاب الرئيسية التي تتبنى سياسات اليمين المتطرف؛ فعندما يتعلق الأمر بزعماء الأحزاب المؤيدة لأوروبا، فإن عدداً كبيراً من الناخبين يتشككون في أنهم -وبالرغم من تصريحاتهم وأفعالهم العلنية- يريدون في الواقع فتح بلادهم أمام المهاجرين واللاجئين، ومن غير المستغرب أن يكون مثل هذا التفكير سائداً بين ناخبي الأحزاب المناهضة لأوروبا؛ حيث يقول 66% من ناخبي حزب "العدالة والقانون البولندي"، و57% من ناخبي حزب "البديل من أجل ألمانيا"، و53% من ناخبي حزب "فوكس" في اسبانيا، إن هذه أولوية بالنسبة لدونالد تاسك وأولاف شولتز وبيدرو سانشيز على التوالي.

ولذا من الصعب تصور أن أي ناخبين من حزب يميني متطرف يمكن أن ينجذبوا إلى التيار الأوروبي الرئيسي لمجرد أن الأخير يحاول تقليد اليمين المتطرف فيما يتعلق بالهجرة، وفيما يشير استطلاع "المجلس الأوروبي" إلى أن الأهمية السياسية لتلك القضية لا تنبع من حقيقة كونها الأزمة الأكثر حدة التي تواجهها أوروبا في نظر سكانها، بل من نجاح الأحزاب اليمينية في جعلها رمزاً لإخفاقات الاتحاد الأوروبي.

4- مغالطة القوى غير اليمينية في التركيز على نجاحات الاتحاد الأوروبي: عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الأزمات الأخرى التي واجهتها أوروبا في السنوات الأخيرة، فإن نتائج الاستطلاع تكشف أن الأحزاب الرئيسية تخاطر بالتركيز على ما تعتبره نجاحاً أوروبياً في معالجة بعض القضايا، من قِبل معالجة جائحة "كوفيد-19"، أو دعم أوكرانيا، أو الصفقة الخضراء الأوروبية، وحيث إن التركيز على مثل هذه القضايا قد يفيد من جانب آخر الأحزاب المناهضة لأوروبا، وبالنظر لأن العديد من المواطنين ينظرون إلى أداء الاتحاد الأوروبي في الاستجابة لتلك الأزمات من منظور سلبي في الغالب، بل إن الأشخاص الذين ربما نظروا في السابق إلى سياسة الاتحاد الأوروبي في هذه المجالات من منظور إيجابي كثيراً ما يعتبرونها الآن أمراً مفروغاً منه، في مقابل أن استياء المتشككين كثيراً ما يدوم لفترة أطول.

على سبيل المثال، وفيما يتعلق بجائحة "كوفيد-19"، فإن هناك فجوة كبيرة بين تصور الاتحاد الأوروبي الذاتي للنجاح وتصور قسم كبير من الجمهور الأوروبي، وتمتد هذه الفجوة في الإدراك إلى الأزمات الأخرى أيضاً، وخاصة الحرب الأوكرانية؛ إذ يرى الكثير من الأوروبيين أن رد فعل الاتحاد الأوروبي على الحرب الأوكرانية كان سلبياً وليس إيجابياً، وسط انقسام بين أولئك الذين يعتقدون أن أوروبا يجب أن تدعم أوكرانيا في تحرير جميع الأراضي المحتلة وأولئك الذين يفضلون دفع أوكرانيا نحو التفاوض على اتفاق سلام مع روسيا، وفيما لم يُنظر إلى دور الاتحاد الأوروبي في التعامل مع الأزمة المالية بشكل إيجابي في أي من الدول التي شملها الاستطلاع.

ومع الإشارة أيضاً في تلك الحالة، إلى أن تصورات الناخبين لتوجهات الساسة لا تعتمد على سياساتهم فحسب، بل على الدوافع التي ينسبها الناخبون إليهم؛ إذ يعتقد العديد من الأوروبيين أن زعماء الأحزاب المؤيدة لأوروبا قد يتآمرون لرفع أسعار الطاقة، كما يعتقد البعض أنهم يريدون نقل السلطة السياسية في بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي، والأمر الأكثر أهمية هو أن مثل هذه التصورات لا تنتشر على نطاق واسع بين الناخبين اليمينيين المتطرفين فحسب، ولكن أيضاً لا يمكن إهمالها بين الناخبين من التيار الرئيسي في العديد من الدول.

وكمثال، يعتقد 28% من ناخبي ائتلاف "الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي" في ألمانيا أن شولتز يريد، "قبل كل شيء"، زيادة أسعار البنزين والطاقة للمساعدة في مكافحة تغير المناخ، وفي البرتغال وإسبانيا، يعتقد 24% من ناخبي المعارضة من يمين الوسط الأمر نفسه بشأن توجهات قادة الحكومات اليسارية في بلادهم. وفيما يتعلق بدوافع الاتحاد الأوروبي، يعتقد 15% من ناخبي "الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي" أيضاً أن رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين، تسعى "قبل كل شيء" إلى نقل السلطة من برلين إلى بروكسل، بينما قالت نسبة 28% إنها تريد تحقيق ذلك ولكن ليس كأولوية.

5- إشكالية التعامل مع أحزاب اليمين كجبهة متحدة: بجانب ما سبق، فإن التركيز على صعود اليمين المتطرف يعني ضمناً بشكل خاطئ أن أحزاب اليمين الأوروبية تشكل جبهة موحدة، وفي حين أن هذه الأحزاب أظهرت حتى الآن مستويات منخفضة للغاية من التماسك وقدرة محدودة على التعاون، غير أن الأحزاب الأوروبية تتجاهل المسارات المختلفة للغاية التي تسلكها الأحزاب المناهضة لأوروبا، وبعد أن شهدت السنوات القليلة الماضية توجهاً متزامناً لمزيد من التطرف لدى بعض الأحزاب اليمينية الأوروبية، واجتثاث للتوجهات المتطرفة لدى أحزاب يمينية أخرى، الأمر الذي أدى إلى تعقيد الجهود الرامية إلى مواجهة صعود هذه الأحزاب.

على سبيل المثال، كان يُنظر إلى "حركة إخوان إيطاليا" في السابق باعتبارها حركة راديكالية ما بعد الفاشية، ولكنها تعتبر الآن التيار السائد في نظر كثيرين في أوروبا، بما في ذلك أغلب الناخبين الإيطاليين، وفيما تشير آخر البيانات إلى أن 15% فقط من ناخبي "إخوان إيطاليا" يعتقدون أن رئيسة الحزب، جورجيا ميلوني، تسعى لهندسة خروج إيطاليا من الاتحاد الأوروبي. وعلى نحو مماثل، لا يعتقد ناخبو الحزب ولا بقية الناخبين في إيطاليا، في أغلبيتهم، أنها تريد عرقلة عمل الاتحاد الأوروبي أو أنها تريد أن تترك إيطاليا منطقة اليورو. وعلى هذا فإن المعارضة الإيطالية لا تستطيع تعبئة ناخبيها بسهولة بالادعاء بأن "إخوان إيطاليا" يخاطرون بتعريض الاتحاد الأوروبي - ومكانة بلادهم داخله - للخطر، ويواجه المؤيدون لأوروبا في أسبانيا والبرتغال ورومانيا قيوداً مماثلة.

ومن ناحية أخرى، فقد قطع حزب "العدالة والقانون البولندي" شوطاً طويلاً بعيداً عن موقفه السابق باعتباره جزءً واقعياً من التيار الرئيسي في الاتحاد الأوروبي (إذ شارك قبل عقد من الزمن في قيادة تجمع المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين في البرلمان الأوروبي مع المحافظين في المملكة المتحدة)، ليصبح قوة مناهضة لأوروبا بشكل متزايد اليوم، ورغم أن قِلة من ناخبي الحزب يعتقدون أن زعيمه ياروسلاف كاتشينسكي يريد الخروج من الاتحاد الأوروبي، فإن أغلبية البولنديين يرون أن هذا هو هدفه، مما يمنح الأحزاب المؤيدة لأوروبا الفرصة للتأكيد على المخاطر التي يشكلها حزب "العدالة والقانون" بالنسبة لأوروبا.

ولكن على نحو عام، فإن التباين في نظرة الناخبين لتوجهات الأحزاب اليمينية لا يعني فقط أن الأحزاب الأوروبية الرئيسية لا يمكنها الاعتماد على استراتيجية مشتركة للتصدي لليمين المتطرف، بل يعني أنها يجب أن تكون حذرة للغاية بشأن الطريقة التي تتحدث بها عن أوروبا، وحيث تحتاج لتطوير استراتيجيات خاصة باستغلال الانقسامات بين قوى اليمين المتطرف، وفي سياقات وطنية مختلفة.

استراتيجيات بديلة

يشير التقرير إلى أن الزعماء الأوروبيين يجازفون بالتركيز أكثر مما ينبغي على القضايا السياسية فيما يبدون وكأنهم بعيدون عن الاهتمامات الأساسية لناخبيهم. ومن ثم، وفي حال ما كانت الأحزاب الأوروبية الرئيسية راغبة في التصدي لليمين المتطرف، فسيتعين عليها تبني استراتيجيات جديدة تعطي الأولوية للسياقات الوطنية، بدلاً من محاولة تقليد اليمين المتطرف فيما يتصل بالهجرة وتنظيم الحملات الانتخابية استناداً إلى سجل المفوضية الأوروبية، وهو ما عرضه التقرير بالتركيز على أربع استراتيجيات بديلة يمكن للأحزاب الرئيسية تبنيها، وذلك على النحو التالي:

1- التوظيف "الحذر" لنهج الاستقطاب تجاه الاتحاد الأوروبي: في انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2019، كانت قد وضعت الأحزاب المؤيدة لأوروبا فعلياً بقاء الاتحاد الأوروبي على أجندة التصويت وطرحها كقضية رئيسية، وقد تمكنوا خلال ذلك من إقناع الناخبين بأن الأحزاب اليمينية المتطرفة تسعى إلى مغادرة الاتحاد الأوروبي والسير على خطى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولكن تبني هذا النهج تلك المرة سيكون أصعب كثيراً، بل قد ينتهي به إلى مساعدة الأحزاب المتشككة في أوروبا في العديد من الدول، وبعد أن عملت في الفترة الماضية أحزاب اليمين المتطرف، خاصة في دول مثل فرنسا وإيطاليا، على تحسين صورتها والتخلي عن تعهداتها السابقة بالخروج من الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، لذا فإن المزاعم بشأن إنقاذ أوروبا تلك المرة لن تكون ذات مصداقية كافية.

ولكن مع ذلك، فإن هناك إمكانية لتوظيف استراتيجية استقطابية فعّالة في دول أخرى؛ حيث يُنظر إلى اليمين المتطرف على أنه متطرف بالفعل خارج قاعدته الانتخابية، وينطبق هذا بشكل خاص على ألمانيا، حيث يعتقد عدد كبير من الناخبين أن إحدى أولويات حزب "البديل من أجل ألمانيا" هي مغادرة ألمانيا منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يمكن استغلاله وتوظيفه للتأكيد على استمرار المخاطر التي يمثلها اليمين المتطرف على الاتحاد القائم بين الدول الأوروبية، وخاصة أن الاحتجاجات الحاشدة ضد اليمين المتطرف التي اندلعت في جميع أنحاء ألمانيا في وقت سابق من هذا العام تُظهِر أن التهديد المتمثل في صعود اليمين ينطوي على إمكانات تعبئة قوية للتيار الرئيسي.

وهناك أيضاً إمكانية لتبني مثل هذا النهج في بولندا والنمسا وفرنسا والسويد وهولندا، حيث تشعر قطاعات كبيرة من السكان بالقلق من رغبة الشعبويين في بلدانهم في مغادرة الاتحاد الأوروبي أو منطقة اليورو، أو رؤية الاتحاد الأوروبي يتفكك.

2- العمل على تحييد الناخبين المتشككين في الاتحاد الأوروبي: فيما ترى كتلة كبيرة من الناخبين أن استجابة الاتحاد الأوروبي لكل أزمة من الأزمات التي هزت القارة في الأعوام الخمسة عشر الماضية كانت سلبية، يشير العديد منهم حالياً إلى دعمهم للأحزاب المناهضة لأوروبا، لكن دون أن يعني ذلك أن العديد منهم سيصوتون بالضرورة؛ فالواقع أن نسبة كبيرة من الأفراد الذين يعربون عن تعاطفهم مع الأحزاب المناهضة لأوروبا ربما لم يتخلوا عن الأحزاب الرئيسية الداعمة لأوروبا فحسب، بل عن السياسة برمتها، فلماذا يزعجون أنفسهم بالتصويت في انتخابات تدور حول مؤسسة يفضل العديد منهم إلغاؤها؟.

وهو ما يمكن استغلاله من جانب الأحزاب المؤيدة للاتحاد، بعدم استفزاز هذه الطائفة بالتركيز على القضايا الجدلية التي قد تدفعهم للمشاركة للتصويت لصالح الأحزاب اليمينية. ففي حين أنه من غير المرجح أن يغير هؤلاء الناخبون معسكراتهم، إلا أنهم قد لا يصوتون على الإطلاق إذا لم يتم استفزازهم من خلال انتخابات تركز على الاستعارات التي تحشد اليمين المتطرف مثل الهجرة، أو تصوراتهم للسياسات السلبية بشأن "كوفيد-19"، والمناخ، والحرب الأوكرانية، وضعاً في الاعتبار أنه في بعض الدول (مثل هولندا وبولندا والسويد)، لايزال ناخبو الأحزاب المناهضة لأوروبا أقل تعبئة من ناخبي الأحزاب المؤيدة لأوروبا.

ولكن في بعض الدول الأكثر نفوذاً في الاتحاد الأوروبي (مثل النمسا وفرنسا وألمانيا)، أصبح الناخبون من الأحزاب المناهضة لأوروبا الآن يتمتعون بتعبئة عالية. لذلك، في هذه الدول الأخرى، سيتعين على الأحزاب المؤيدة لأوروبا أن تعمل على تعبئة ناخبيها، على سبيل المثال، من خلال التأكيد على مخاطر مقاطعة الانتخابات، والتأكيد على مخاطر التعبئة العالية غير المتكافئة بين مناهضي أوروبا في مجالات مختلفة (مثل القضايا البيئية والاجتماعية والقوانين الاقتصادية للاتحاد الأوروبي)، مع البحث أيضاً عن السبل اللازمة لثني الناخبين من الأحزاب المناهضة لأوروبا عن التصويت لصالحهم.

3- التركيز على الأزمات اللازمة لجذب الناخبين المترددين: في بعض الدول، سيكون على الأحزاب الداعمة لأوروبا التطلع إلى التصدي للهواجس الخاصة بالهجرة لدى أحزاب اليمين المتطرف لاستهداف الناخبين المترددين الذين لديهم مخاوف أوسع. على سبيل المثال، في فرنسا، يعتمد أداء حزب "الجمهورية إلى الأمام" الذي يتزعمه ايمانويل ماكرون، إلى حد كبير على ما إذا كان قادراً على النجاح في اجتذاب 24% من الناخبين الذين لا يعرفون بعد لمن سيصوتون في انتخابات البرلمان الأوروبي.

وأيضاً فإنه في معظم الدول، فإن الناخبين الذين لم يحسموا أمرهم يمثلون نسبة كبيرة من النساء، وهم يمثلون 75% من الذين لم يحسموا أمرهم في فرنسا، و73% في النمسا، و71% في أسبانيا، و69% في بولندا، و66% في ألمانيا. وقد تنجذب بعضهن إلى الأحزاب التي تثبت اهتمامها ومصداقيتها في معالجة المخاوف المشتركة بين النساء، على سبيل المثال قوانين الإجهاض، والمساواة في مكان العمل، وحقوق الأقليات. وقد ضربت بولندا مثالاً واعداً في هذا الصدد العام الماضي، عندما ساعدت التعبئة غير المسبوقة بين النساء في التصويت لإسقاط الحكومة المحافظة المتشككة في أوروبا.

4- تقديم حجة جيوسياسية جديدة للوحدة الأوروبية: ربما يكون التحدي الأكبر الذي تواجهه الأحزاب المؤيدة لأوروبا هو التوصل إلى نهج خاص بالأمور الجيوسياسية، وسيكون من بين القرارات الاستراتيجية الرئيسية التي سيتعين وضعها في الاعتبار عند الإعداد لحملاتهم هو مقدار الاهتمام الذي ينبغي تكريسه للحرب في أوكرانيا، واللغة التي يتعين عليهم استخدامها عند مناقشة هذه القضية.

فمن ناحية، لن يرغب أولئك الأكثر دعماً لكييف في أن تنتقل هذه الحرب إلى الدرجة الثانية، لأن هذا من شأنه أن يزيد من صعوبة ضمان استمرار الدعم المالي والعسكري، ولكن من الناحية السياسية، سيكون الأمر خطيراً بالنسبة للتيار الرئيسي إذا أصبحت الحرب في أوكرانيا ساحة معركة رئيسية في الانتخابات المقبلة؛ إذ قد تستغل العديد من الأحزاب المناهضة لأوروبا بعد ذلك إرهاق الحرب بين السكان الأوروبيين. وهناك أيضاً خطر يتمثل في أن تصنيف اليمين المتطرف باعتباره حليفاً أو مساعداً لفلاديمير بوتن قد يؤدي إلى تآكل الإجماع الواسع النطاق المناهض لبوتين، والذي نشأ منذ الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا.

ومن ناحية أخرى، فإن احتمال فوز دونالد ترامب يمكن أن يخلق فرصة لبعض القادة الأوروبيين للتركيز على أهمية السيادة الأوروبية، وللنأي عن الولايات المتحدة في حملاتهم الانتخابية، بدلاً من التركيز في المقام الأول على نجاح الاتحاد الأوروبي في دعم أوكرانيا؛ إذ يمكن للزعماء المؤيدين لأوروبا أن يقدموا المناقشة حول ضرورة أن يصبح الاتحاد الأوروبي أكثر استقلالية وجدية في الدفاع عن نفسه من التهديد الروسي.

فمن عجيب المفارقات بهذا الصدد، أن احتمال فوز ترامب برئاسة ثانية قد يوقظ الناخبين الأوروبيين لأهمية الحفاظ على الاتجاه المؤيد لأوروبا في البرلمان الأوروبي المقبل، وعندما يضع ترامب استقرار الضمانات الأمنية الأمريكية موضع الشك، سيكون على الأوروبيين إدراك أهمية الاعتماد على زملائهم من أعضاء الاتحاد الأوروبي وعلى هياكل الاتحاد الأوروبي لضمان الأمن. وذلك على عكس الحال في انتخابات البرلمان الأوروبي السابقة، حيث كانت العديد من الأحزاب المناهضة لأوروبا تأمل في الاستفادة من فوز ترامب الانتخابي، الذي يمكنه تلك المرة حشد المؤيدين لأوروبا حتى قبل ظهور نتيجة الانتخابات الأمريكية.

وما يمكن التأكيد عليه في الختام، أن أزمة الديمقراطية الأوروبية -واحتمال صعود اليمين المتطرف- هي أزمة حقيقية، ومع ذلك فإن الأحزاب المؤيدة لأوروبا لديها الفرصة لتحقيق وضع أفضل كثيراً مما يتوقع كثيرون، والحصول على الأغلبية المطلوبة في البرلمان الأوروبي. ولكن لكي يحدث هذا، سيتعين على الزعماء الأوروبيين اتخاذ زمام المبادرة في تحديد القضايا الرئيسية في الانتخابات، بعدم جعلها انتخابات تتعلق في المقام الأول بالهجرة أو بالنجاحات التي حققتها المفوضية الأوروبية الأخيرة، أو الاختيار بين استراتيجية الاستقطاب أو التجزئة على المستوى الأوروبي.

وبدلاً من ذلك، ينبغي لهم تبني مجموعة من الاستراتيجيات الوطنية المتمايزة لحشد مؤيديهم دون استفزاز الناخبين اليمينيين المتطرفين، ومع تقديم الحجة الجيوسياسية الجديدة والمناسبة للحفاظ على الوحدة الأوروبية، والتي تعمل لتحقيق الحشد، ليس من منطلق التضامن مع أوكرانيا، بل من منطلق الاهتمام بالسيادة والأمن الأوروبيين، وخاصة في مواجهة حالة عدم اليقين التي تحيط بالسياسة الأمريكية وعدوانية السياسات الروسية.

المصدر:

Ivan Krastev and Mark Leonard, "A new political map: Getting the European Parliament election right", European Council on Foreign Relations, March 21, 2024. https://ecfr.eu/publication/getting-the-european-parliament-election-right/

ما هي فرص تحييد اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي؟