منذ انتهاء حرب ناجورنو كاراباخ في عام 2020، شهدت العلاقات بين الهند وأرمينيا تطوراً ملحوظاً؛ إذ بدأت يريفان تبحث عن تنويع شراكاتها الدولية؛ وذلك نتيجةً لرغبتها في إعادة هيكلة سياستها الخارجية التقليدية، التي كانت تعتمد بشكل كبير على روسيا. وفي هذا السياق، ومع هذه التحولات في السياسة الخارجية الأرمينية، برزت الهند شريكاً محتملاً وواعداً للدولة الواقعة في منطقة جنوب القوقاز؛ حيث تُحقِّق هذه الشراكة منافع اقتصادية وأمنية متبادلة؛ ما يجعلها تعاوناً مثمراً للطرفين، حتى باتت الهند شريكاً قوياً في مجالات متعددة، على رأسها الدفاع، والاقتصاد، والتكنولوجيا، ناهيك عن المساندة السياسية دولياً في القضايا ذات الاهتمام المشترك.

تعاون متزايد

ثمة ملامح متعددة للتقارب الهندي–الأرميني؛ حيث يعمل البلَدان على تطوير العلاقات الثنائية التي تربطهما عبر مختلف المجالات المشتركة، ويمكن تناول أبرز هذه الملامح على النحو التالي:

1– الشراكة الدفاعية المتنامية: يُشكِّل التعاون الدفاعي بين الهند وأرمينيا إحدى الركائز الأساسية لهذا التقارب؛ حيث أصبحت نيودلهي المورد الرئيسي للأسلحة والمعدات العسكرية إلى يريفان خلال السنوات القليلة الماضية، وتحديداً منذ عام 2022، لتُنافِس بذلك دور روسيا التقليدي، التي كانت تُورِّد أكثر من 93% من إمدادات الأسلحة لأرمينيا خلال الفترة (2011–2020). ولكن في ظل العقوبات الغربية المفروضة على روسيا ونقص مواردها نتيجةَ التطورات الأخيرة، اتجهت أرمينيا نحو الهند باعتبارها شريكاً رئيسياً يوفر المعدات العسكرية اللازمة، ويقدم التدريب الذي يسهم في تعزيز أمنها واستقرارها.

وفي عام 2020، وقَّعت أرمينيا عدة عقود مع الهند لشراء أنظمة عسكرية متنوعة، وبلغت القيمة الإجمالية لهذه العقود نحو مليارَي دولار، وتشمل نظام صواريخ الدفاع الجوي "أكاش–1 إس"، الذي طلبت أرمينيا شراء 15 وحدة منه بقيمة 720 مليون دولار، ومن المتوقع أن تستلم هذه الأنظمة في وقت لاحق من العام الجاري. وأوضح تقرير لوزارة المالية الهندية، أن أرمينيا أصبحت أكبر مستورد للأسلحة الهندية؛ وذلك بعد إبرام صفقات لشراء أنظمة صواريخ "بيناكا" المتعددة الإطلاق، وأنظمة "أكاش" المضادة للطائرات؛ وذلك بقيمة نحو 600 مليون دولار، في بداية السنة المالية (2024–2025)، كما تعهدت نيودلهي، بموجب صفقات دفاعية بملايين الدولارات، بتزويد الجيش الأرميني بمدافع "هاوتزر"، وصواريخ مضادة للدبابات، ومعدات مضادة للطائرات بدون طيار؛ ما يعكس الجهود الاستراتيجية للبلدين لإعادة تشكيل العلاقات العسكرية بينهما، التي توجت بتعيين الهند أول ملحق دفاعي لها في يريفان هذا العام؛ ما يعزز دبلوماسيتها العسكرية مع أرمينيا.

2– دعم المواقف المتبادلة في قضايا البلدين: تتشارك الهند وأرمينيا في التوجه نحو خلق توازن إقليمي ضد التحالف الثلاثي بين باكستان وأذربيجان وتركيا؛ فبينما دعمت كل من أنقرة وباكو الموقف الباكستاني في قضية كشمير؛ ما أثار تحفظات نيودلهي، أبدت يريفان – في المقابل – دعمها الواضح للموقف الهندي في هذه القضية؛ ما عزز العلاقات بين البلدين، وجعلها ركيزة لمواجهة التحالفات الإقليمية المضادة.

وفيما يتصل بالصراع في ناجورنو كاراباخ، أيدت باكستان علانيةً القضية الأذربيجانية منذ حرب كاراباخ الأولى، ولم تُقِم علاقات دبلوماسية مع أرمينيا. أما الهند فقد اتخذت موقفاً أكثر حياداً، ودعمت الجهود الدبلوماسية الرامية إلى التوصل إلى حل طويل الأمد، وشجعت الدول على تحقيق السلام والأمن على المدى الطويل، وسط دعم عسكري واضح للقوات الأرمينية، خاصةً في ظل تراجع الدعم العسكري الروسي ليريفان.

3– توسيع التعاون التكنولوجي بين الدولتين: شهد التعاون التكنولوجي بين الهند وأرمينيا دفعة قوية؛ حيث عمل البلَدان على تعزيز الشراكات في مجالات التكنولوجيا الرقمية. وعلى سبيل المثال، وقَّع الجانبان مذكرة تفاهم في عام 2023، تهدف إلى تعزيز التحول الرقمي، وتبادل الحلول التقنية المبتكرة؛ وذلك في إطار تطوير البنية التحتية الرقمية في أرمينيا؛ ما يمهد الطريق لاستفادة يريفان من التجربة الهندية الرائدة في هذا المجال.

إضافةً إلى ذلك، تُظهِر أرمينيا اهتماماً متزايداً بالاستفادة من نظام المدفوعات الموحدة الهندية (UPI)، الذي يمكن أن يسهل المعاملات المالية بين الأفراد والشركات بشكل آمن وسريع. ويأتي هذا الاهتمام في ظل الوجود المتزايد للعمالة الهندية في أرمينيا، خاصةً في قطاعات مثل البناء وخدمات التوصيل؛ ما يعزز الروابط التجارية بين البلدين، ويدعم التبادلات الاقتصادية.

4– طرح خطط للربط التجاري بين البلدين: تعد الشراكة الاقتصادية بين الهند وأرمينيا ذات أهمية استراتيجية؛ حيث يسعى البلدان إلى تطوير ممر النقل الدولي الذي يربط الهند بالأسواق الأوروبية عبر إيران وأرمينيا، ومن ثم سيمثل هذا الممر فرصة هامة لتعزيز مكانة أرمينيا باعتبارها مركزاً لوجستياً للتجارة الدولية، كما سيساعد الهند في تجاوز التحديات اللوجستية التقليدية التي تواجهها في التجارة مع الاتحاد الأوروبي وأسواق الاتحاد الأوراسي؛ إذ يتيح هذا الممر للهند بديلاً استراتيجياً للتغلب على مشاكل الاتصال بالاتحاد الأوروبي عبر روسيا؛ نظراً إلى الصراع القائم في أوكرانيا، وعبر قناة السويس؛ نظراً إلى استمرار تهديدات الحوثيين في البحر الأحمر. ومن ثم، يعد التعاون الاقتصادي بين الهند وأرمينيا ركيزة مهمة لبناء شبكة تجارة متعددة الاتجاهات، تتجاوز العقبات الجيوسياسية والاقتصادية التقليدية.

5– الانخراط في شراكات متعددة الأطراف: يتضمن التقارب بين الهند وأرمينيا مشاركة البلدين في شراكات متعددة الأطراف، ومن أبرزها الشراكة الثلاثية (الهندية–الإيرانية–الأرمينية)، التي قد تسهم في تعزيز ممر النقل الدولي السالف ذكره؛ ما يعزز التواصل التجاري والاقتصادي بين الدول الثلاث؛ حيث يعد ميناء تشابهار الإيراني محوراً لهذه الشراكة؛ إذ حصلت أرمينيا على حق الوصول إليه في يناير 2024 لتسهيل عمليات التبادل التجاري بينها وبين الهند.

بالإضافة إلى الشراكة الثلاثية، توجد مناقشات جارية حول تشكيل تعاون رباعي يشمل أرمينيا واليونان وفرنسا والهند، وهي الشراكة التي تهدف إلى تعزيز التعاون الدفاعي والسياسي بين هذه الدول، وهو ما تم تأكيده وإبرازه بقوة أثناء محادثات وزيري دفاع اليونان وأرمينيا في مارس 2024.

6– تعزيز العلاقات الدبلوماسية بين البلدين: شهدت العلاقات الدبلوماسية بين الهند وأرمينيا نشاطاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة؛ حيث كثفت الدولتان الزيارات المتبادلة والمحادثات الدبلوماسية؛ الأمر الذي تجلى في زيارة وزير الشؤون الخارجية الهندي إس جايشانكار، إلى يريفان في أكتوبر 2021، التي كانت الأولى من نوعها لمسؤول هندي بارز منذ استقلال أرمينيا في عام 1991، والتي عكست رغبة نيودلهي في تعزيز علاقتها مع يريفان، ومواكبة التحولات الجيوسياسية في منطقة جنوب القوقاز.

وتواصلت بعد ذلك الزيارات المتبادلة بين مسؤولي الدولتين؛ ففي 2022 قام وزير الدفاع الأرميني آنذاك سورين بابيكيان بزيارة الهند، كما قام وزير الخارجية الأرميني آرارات ميرزويان في العام ذاته بزيارة الهند. وشارك وزير الاقتصاد الأرميني فاهان كيروبيان في قمة "جوجارات العالمية النابضة بالحياة" في يناير 2024. والتقى وزير الشؤون الخارجية الهندي وزير الخارجية الأرميني في 18 فبراير 2024 على هامش مؤتمر ميونخ للأمن.

محفزات مشتركة

تسعى الهند إلى تأسيس علاقات استراتيجية مع أرمينيا، بهدف محاولة جذبها إليها على نحو يحقق أهدافهما المشتركة بالمنطقة. ويمكن إيجاز أبرز محفزات التقارب بين الدولتين على النحو التالي:

1– مساعي يريفان للاستفادة من مكانة نيودلهي الدولية: يأتي هذا التقارب نتيجةً للتحولات الجيوسياسية في المنطقة، خصوصاً بعد الحرب الأخيرة في ناجورنو كاراباخ؛ حيث خسرت أرمينيا سيطرتها على الإقليم. في هذا السياق، ترى أرمينيا أن الهند يمكن أن تلعب دوراً في موازنة الوضع الجيوسياسي المضطرب في جنوب القوقاز، وخاصةً في ضوء انشغال موسكو في قضايا متعددة، بما في ذلك العقوبات الغربية الناتجة عن حربها مع أوكرانيا؛ ما يجعلها تولي اهتماماً أقل للنزاع بين أرمينيا وأذربيجان. بعبارة أخرى، وفي ظل هذا الفراغ الروسي، تعتبر الهند القوة القادرة على لعب دور محوري في المنطقة؛ نظراً إلى مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية؛ فثمة اعتقاد لدى البعض في أرمينيا بأن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يمكنه إقناع القوى الدولية والإقليمية المتنافسة على المنطقة، بعدم مساندة أذربيجان طويلاً، بل منح أرمينيا قدراً من الاهتمام للخروج من عقباتها العسكرية والاقتصادية؛ وذلك بفضل العلاقات الهندية الاستراتيجية بمختلف هذه القوى.

2– تحركات أرمينيا لتقليل الارتباط بروسيا: تعكس جهود أرمينيا لتعزيز علاقاتها مع الهند سعيها نحو تحقيق الاستقلالية النسبية عن روسيا، خصوصاً في المجال الأمني والدفاعي؛ وذلك نتيجة لاختفاء الدعم الروسي لأرمينيا خلال حرب سبتمبر 2023؛ حين استولت أذربيجان على ناجورنو كاراباخ بالكامل؛ ما أدى إلى فقدان الأرمن الثقة بموسكو كحليف موثوق، وهو ما قد ضغط على القيادة الأرمينية للتوجه نحو الغرب، والبحث عن بناء شراكات جديدة، خاصة مع الهند وإيران.

لقد كشف الصراع بين أرمينيا وأذربيجان عن تراجع الدعم الروسي، ولا سيما ضمانات موسكو الأمنية الفعالة لأرمينيا. ومن ثم، فإنه بعد هذه الخسارة، وإحجام روسيا عن تقديم المساعدة في تسوية النزاع مع أذربيجان، أعلنت أرمينيا عن إعادة توجيه سياستها الخارجية؛ إذ علق رئيس الوزراء نيكول باشينيان عضوية البلاد في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وبدأ بمراجعة العلاقات الاستراتيجية مع روسيا، وتعزيز العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، بيد أنه بالرغم من هذه التحركات، فإن الإجراءات المصاحبة كانت متحفظة؛ ما يثير الشكوك حول نوايا السلطات الأرمينية وقلقها من رد الفعل الروسي.

3– محاولة يريفان تأمين تحالفات أمنية جديدة: يمثل التقارب مع الهند جزءاً من هذا النهج الذي يهدف إلى تنويع الشراكات وتعزيز الوجود الأرمني على الساحة الدولية؛ فمع تصاعد التوترات الإقليمية، وخاصةً مع باكو، تسعى يريفان إلى تعزيز قدراتها الدفاعية من خلال التعاون مع نيودلهي، خاصةً بعدما أصبحت الأخيرة خياراً مفضلاً لتوفير المعدات العسكرية المتطورة، وهو ما ساعد أرمينيا في تنويع مصادر تسليحها، وتقليل اعتمادها على مورد واحد؛ ما يزيد من قوتها الاستراتيجية في المنطقة. ومع ذلك، لا تريد يريفان تكرار أخطائها الماضية بالاعتماد بشكل مفرط على حليف واحد. وهنا قد تبرز الشراكة الدفاعية الثلاثية بين أرمينيا والهند وفرنسا كخيار استراتيجي ليريفان.

4– رغبة الهند في تطوير نفوذها الاقتصادي الدولي: تتطلع الهند إلى تعزيز تجارتها الدولية، وخاصة عبر جنوب القوقاز، وتوفير ممرات تجارية جديدة نحو الأسواق الأوروبية. في هذا السياق، يُعد التعاون مع أرمينيا فرصة لتعزيز ممر النقل الدولي الذي يربط الهند بالأسواق الأوراسية والأوروبية عبر إيران وأرمينيا؛ حتى تتجاوز العوائق التقليدية، مثل الصراع في أوكرانيا والبحر الأحمر.

5– استهداف أرمينيا تنويع شراكاتها الاقتصادية: إذ تحتاج أرمينيا إلى تنويع شراكاتها الاقتصادية مع دول مؤثرة على الصعيد العالمي؛ حيث يعتبر التعاون مع الهند فرصة استراتيجية لتحقيق هذا الهدف، فضلاً عن المساهمة في زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين، الذي وصل إلى نحو 127 مليون دولار فقط عام 2023. وفي هذا السياق، تعمل الدولتان على استغلال إمكانيات التعاون في قطاعات اقتصادية عدة، مثل تكنولوجيا المعلومات، والزراعة، والصناعات الدوائية، بهدف رفع مستوى التبادل التجاري وتوسيع نطاقه.

6– بزوغ أرمينيا كسوق لصادرات السلاح الهندية: تنظر نيودلهي بدورها إلى أرمينيا لا كنقطة محورية لرؤيتها تجاه منطقة جنوب القوقاز، بل أيضاً كجزء من طموحها لتصبح مصدراً صافياً للدفاع، وكشريك استراتيجي ومحتمل لصناعتها الدفاعية الناشئة، خاصة أن صادرات الهند الدفاعية قد شهدت ارتفاعاً كبيراً بنسبة 334% خلال السنوات الخمس الماضية، وهناك نحو 75 دولة في جميع أنحاء العالم هي المستفيدة من ترسانة نيودلهي. ومن ثم، تشكل تحركات نيودلهي نحو يريفان، جزءاً من حملة رئيس الوزراء الهندي الطموحة الرامية إلى زيادة الصادرات الدفاعية إلى ثلاثة أضعاف، وإعطاء دفعة لمنتجات التصنيع العسكرية الهندي مما يقرب من 3 مليارات دولار خلال عام 2024، إلى أكثر من 10 مليارات دولار في إطار مشروع "صنع في الهند" بحلول عام (2028–2029).

من جانبها، تريد أرمينيا بجدية أن توقع الهند على اتفاقية الشراكة الاستراتيجية؛ من أجل رفع الشراكة الدفاعية الثنائية الحالية إلى مستوى جديد. ومن المهم أن نسلط الضوء هنا على أن صادرات الدفاع الهندية إلى أرمينيا باتت تشكل نحو 90% من إجمالي واردات أرمينيا من الأسلحة، بما في ذلك الطائرات بدون طيار والرادار وما إلى ذلك.

7– دور الشتات الهندي في الاقتصاد الأرميني: بالإضافة إلى مجالي الدفاع والاقتصاد، يشمل التعاون بين الهند وأرمينيا الجوانب الثقافية؛ إذ يشكل الهنود ثاني أكبر مجموعة من المواطنين الأجانب في أرمينيا بعد الروس، وهو ما قد يُعيد تشكيل سوق العمل في البلاد. ووفقاً للجنة الإحصاء الحكومية الأرمينية (Armstat)، تشهد أرمينيا تدفقاً متزايداً للهنود؛ إذ دخل ما مجموعه 54.6 ألف مواطن هندي في عام 2023، بزيادة تقدر بنحو 21.6 ألف مواطن عن عام 2022.

ختاماً، قد يرتقي التعاون الهندي–الأرميني قريباً إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، وهو ما قد يساهم في دعم التركيز الهندي على منطقة جنوب القوقاز، وتحديداً أرمينيا التي تلعب دوراً رئيسياً في هذه المنطقة، ولا سيما الممرات التجارية المخططة هناك، فضلاً عن زيادة التعاون الدفاعي والاقتصادي والتكنولوجي بين البلدين، التي تمثل جميعها ملامح بارزة في التقارب بينهما. بالإضافة إلى ذلك، سيدعم هذا التعاون قدرات الهند في مواجهة التحالف الثلاثي بين أذربيجان وتركيا وباكستان؛ وذلك في إطار خطط الهند الطموحة في لعب دور أكبر على الساحتين الإقليمية والدولية.

ملامح التقارب المتزايد بين الهند وأرمينيا