عقد "إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية"، حلقة نقاشية بعنوان "توازنات داكار: توقعات الانتخابات البرلمانية في السنغال"، وهي الحلقة التي استضاف فيها المركز د. محمد المختار جي الأستاذ الأكاديمي، رئيس الرابطة العربية-الأفريقية، نائب رئيس الاتحاد الأفريقي للباحثين والأكاديميين العرب، الأمين العام لاتحاد المؤرخين الأفارقة، السنغال. وتناولت الحلقة ملامح المشهد السياسي والأمني والاقتصادي في البلاد، والاتجاهات الرئيسية للانتخابات، وبرامج وانتماءات الأحزاب المشاركة، بالإضافة إلى السيناريوهات والنتائج المتوقعة.

مشهد مضطرب

تأتي الانتخابات البرلمانية في السنغال في ظل مشهد سياسي وأمني مضطرب في البلاد، وهو المشهد الذي استعرض المتحدث الرئيسي أهم ملامحه على النحو التالي:

1- عقد انتخابات مبكرة بعد قرار الرئيس حل البرلمان: لفت المتحدث الرئيسي إلى أن الانتخابات التشريعية السنغالية تنعقد بشكل مبكر في غير موعدها بناءً على قرار رئاسي بحل البرلمان، بهدف الحصول على أغلبية برلمانية مستقرة، ولا سيما في ظل الخلافات السياسية المشتعلة في البرلمان بين الحزب الحاكم والأحزاب المعارضة التي سيطرت على غالبية مقاعد البرلمان منذ عهد الرئيس السابق "ماكي سال".

وخلق هذا القرار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية، حيث يرى المؤيدون للقرار أنه يتوافق مع القانون، ويعد خطوة ضرورية لأن الجمعية الوطنية لم تعد تعكس طموحات الرئيس. لكن من جهة أخرى، تعتبر المعارضة هذا الإجراء مناورة سياسية، ووصفوها بأنها "محاولة للسيطرة على الانتخابات". كما تأمل المعارضة في التوصُّل إلى ترتيبات لتقاسم السلطة، لكنها تواجه تحديات كبيرة في هذا الصدد، وفق ما أكد المتحدث الرئيسي.

2- فوضى ومشاجرات سياسية في البرلمانات السابقة: أوضح المتحدث الرئيسي أن البرلمانات السابقة في السنغال شهدت حوادث متكررة من العنف السياسي ومشادات ومشاجرات مدفوعة بالخلافات السياسية بين الأحزاب. فيما فشلت كافة تلك البرلمانات في التركيز على دورها في تسليط الضوء على القضايا التي تهم عامة الشعب. ولعل أبرز تلك المشاهد كان الفوضى التي اندلعت عام 2022 عندما صفع النائب المعارض ماساتا سامب، زميلته النائبة الموالية للرئيس إيمي ندياي، عقب نقاش حاد بينهما كان قد بدأ بسبب تصريحات أدلت بها "ندياي" في جلسة سابقة، ما أدى إلى شجار جماعي بين النواب داخل القاعة، وتبادل للضرب بالكراسي والأيدي، إلى أن جرى تعليق الجلسة.

3- أزمة سياسية بسبب تأجيل الانتخابات الرئاسية: أشار د. محمد المختار جي، إلى ما شهدته السنغال من توترات واحتقان سياسي، خاصةً في العاصمة داكار، بعد قرار الرئيس السابق "ماكي سال" تأجيل الانتخابات الرئاسية من موعدها الأصلي في 25 فبراير 2024، لتمكينه من الاستمرار في السلطة إلى عام 2025. وهو القرار الذي أثار جدلاً، خاصةً خلال تصويت الجمعية الوطنية على القرار، حيث تدخلت قوات الأمن لإخراج نواب معارضين بالقوة، مما حال دون تصويتهم.

ووصفت المعارضة القرار بأنه "انقلاب دستوري"، واعتبرت أن البلاد أصبحت "رهينة". فيما برر الرئيس "سال" التأجيل بضرورة معالجة قضايا تتعلق بالمرشحين وادعاءات فساد داخل الهيئة الانتخابية. وقد اندلعت احتجاجات في شوارع داكار، حيث طالب المتظاهرون بإلغاء القرار.

4- خروج مظاهرات عنيفة بسبب محاكمة "سونكو": شهدت السنغال أيضاً، خلال عام 2023، موجة من الاحتجاجات في عدة مدن بعد استدعاء زعيم المعارضة "عثمان سونكو" للمحكمة، على خلفية اتهامه بقضايا فساد واغتصاب. وأدت الاحتجاجات إلى مواجهات عنيفة، وتخريب ممتلكات عامة ومؤسسات فرنسية، وسط دعوات متكررة من "سونكو" للشباب للتظاهر، باعتبار أن هذه القضايا تهدف إلى منعه من خوض انتخابات 2024، وسط تكهنات بأن الرئيس السابق "ماكي سال" كان يسعى إلى الترشح لولاية ثالثة. وردت الحكومة حينها بتعزيزات أمنية مشددة.

5- مواجهة السنغال تحديات اقتصادية وأمنية متعددة: وفق ما أوضحه المتحدث الرئيسي، تواجه السنغال تحديات اقتصادية وأمنية متعددة بسبب تدفُّق المهاجرين من دول مثل مالي وغينيا وموريتانيا التي تواجه بدورها تحديات أمنية نتيجة انتشار الجماعات الإرهابية مثل تنظيمي "داعش" و"القاعدة". كما واجهت مالي انقلاباً واضطراباً سياسياً، فضلاً عن التدخلات الأجنبية والتوترات العسكرية في المنطقة.

ويعاني السكان في السنغال من معدّل بطالة مرتفع بين الشباب، فبينما يُعد أكثر من 60% من السكان تحت سن 25 عاماً، فإن حوالي 35% من الشباب السنغاليين عاطلون عن العمل، وفق تقديرات 2019. بالإضافة إلى نقص المواد الغذائية وارتفاع أسعارها نتيجة تداعيات جائحة كورونا والتغيُّر المناخي والحرب الأوكرانية. مع الأخذ في الاعتبار مخاطر الهجرة، في ظل محاولات السنغاليين عبور المحيط الأطلسي إلى أوروبا، بشكل غير قانوني، بسبب الفرص المحدودة.

6- تصاعُد المشاعر المناوئة للنفوذ الفرنسي في البلاد: أدت الاحتجاجات المناهضة للحكومة في السنغال إلى اضطرابات واسعة النطاق، حيث عانت الشركات المملوكة لفرنسيين في العاصمة داكار من أضرار جسيمة. وقد تصاعدت الاحتجاجات، التي اندلعت في البداية بسبب محاكمة "عثمان سونكو" بسرعة، إلى مشاعر معادية للفرنسيين، مع نهب وإحراق المتاجر الكبرى ومحطات البنزين الفرنسية، في ظل تصاعد الغضب بسبب عدم المساواة والفساد الحكومي والعلاقات التاريخية مع فرنسا. واعتبر المحتجون حينها أن استمرار نفوذ فرنسا، بما في ذلك هيمنتها الاقتصادية من خلال شركات مثل "أوشان" و"توتال"، يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة في السنغال. وقد عكست هذه الاضطرابات إحباطات أعمق إزاء الإرث الاستعماري.

7- اتهام الحكومة السابقة بتزوير البيانات الاقتصادية: أجرت الحكومة السنغالية الجديدة مناقشات مع صندوق النقد الدولي لمعالجة التناقضات المالية بعد أن كشف التدقيق أن الدين الوطني وعجز الموازنة كانا أعلى بكثير مما أبلغت عنه الإدارة السابقة. وكشف وزير الاقتصاد "عبد الرحمن سار" أن العجز في عام 2023 تجاوز 10% وهو ما يتناقض تناقضاّ حاداً مع الرقم 5% الذي تم الإبلاغ عنه سابقاً. واتهم رئيس الوزراء "عثمان سونكو" السلطات السابقة بتزوير البيانات المالية وتضليل البلاد وشركائها الدوليين. وبسبب هذه الاكتشافات، أرجأت السنغال طلب صرف لصندوق النقد الدولي حتى يتم تنفيذ التدابير التصحيحية.

خريطة التحالفات

رسم المتحدث الرئيسي خريطة التحالفات الانتخابية الرئيسية في الانتخابات البرلمانية السنغالية، وهي الخريطة التي يمكن استعراض ملامحها على النحو التالي:

1- تصدُّر أربعة ائتلافات رئيسية المنافسة الانتخابية: تنقسم الأحزاب المشاركة في الانتخابات المقبلة، وعددها 41 حزباً، إلى ائتلافات عدة، من بينها أربعة ائتلافات هي الأكثر شعبية على رأسها حزب "باستيف"، بقيادة رئيس الوزراء عثمان سونكو، وائتلاف "تاكو والو سنغال" (معاً لإنقاذ السنغال) بقيادة الرئيس السابق ماكي سال، وائتلاف جام آك نجارين (السلام والازدهار)، بقيادة رئيس الوزراء في عهد "سال" والمرشح لانتخابات الرئاسة التي انعقدت في مارس 2024 "آمادو باه". وكذلك تحالف سام ساكادو (الوفاء بالعهد) بقيادة عمدة داكار "بارتلمي جاز". ويتنافس جميع المرشحين على الفوز بـ165 مقعداً في الجمعية الوطنية.

2- تبني "سونكو" سياسة استقلالية عن النفوذ الفرنسي: يؤكد المتحدث الرئيسي أن رئيس الوزراء السنغالي "عثمان سونكو"، القادم من إقليم كازامانس الذي يسعى للانفصال، يُعتبر رمزاً قوياً لدى أنصاره في الإقليم. ويحمل "سونكو" مشروعاً يدعو للاستقلال عن النفوذ الفرنسي، وهو ما يجده الشباب والجماعات المدنية أمراً مقبولاً ومعبراً عن تطلعاتهم. كما يطالب "سونكو" بالخروج من النظام المالي المرتبط بفرنسا عبر عملة الفرنك الأفريقي CFA، سعياً لتحرير الاقتصاد السنغالي، مما ينسجم مع تحركات بعض الدول الأفريقية الأخرى للابتعاد عن فرنسا. ويحاول حزب "باستيف" بزعامة رئيس الوزراء "عثمان سونكو" مع الرئيس السنغالي "باسيرو ديوماي فاي" تعزيز نفوذه السياسي، واستكمال السيطرة على المشهد السياسي في السنغال.

3- محاولة "سال" إعادة السيطرة على المشهد السياسي: يسعى تحالف "تاكو والو"، بقيادة الرئيس السابق ماكي سال، لاستعادة نفوذه السياسي من خلال توحيد القوى الليبرالية البارزة والأحزاب المعارضة القديمة. ويضم التحالف حزب "التحالف من أجل الجمهورية" بقيادة "سال"، الذي كان يشكل أغلبية البرلمان المنحل، والحزب الديمقراطي السنغالي بزعامة الرئيس السابق عبد الله واد. ورغم حكمه البلاد من 2012 إلى 2024، فقد اضطر "سال" للتراجع عن مساعيه للحصول على ولاية ثالثة تحت ضغط الشارع، كما أجّل الانتخابات قبل نهاية فترة حكمه. وبينما يشيد أنصار "سال" بإنجازاته، خصوصاً في مشاريع البنى التحتية، يرون أن فئة الشباب قد قامت بتشويهه.

4- سعي "آمادو باه" إلى تحقيق التوازن البرلماني: يسعى تحالف "جام آك نجارين" (السلام والازدهار) بقيادة رئيس الوزراء السابق في عهد ماكي سال، ومرشحه للانتخابات الرئاسية الأخيرة، آمادو باه، إلى تعزيز التوازن في البرلمان بعد حصول "باه" على 36% من الأصوات في انتخابات مارس 2024. ويضم التحالف أحزاباً معارضة، كما يمتلك "باه" خبرة واسعة في العمل الحكومي، بدأت في عهد الرئيس الأسبق عبدو ضيوف، ويتعهد بتحقيق الازدهار الاقتصادي وخلق فرص عمل.

5- اهتمام خاص من تحالف "سام ساكادو" بالعاصمة: أوضح المتحدث الرئيسي أن تحالف "سام ساكادو" بقيادة عمدة داكار بارتلمي جاز، يركز بشكلٍ خاص على العاصمة داكار، ويضم شخصيات معارضة بارزة مثل المرشحة الرئاسية السابقة "أنتا بابكر إنجوم"، ورجل الأعمال "بوجان جاي داني".

6- تركيز الخطابات الانتخابية على أولويات المواطنين: يحاول المرشحون للانتخابات البرلمانية أن يتجنبوا نقاط ضعف البرلمانات السابقة، والابتعاد عن التجاذبات السياسية، ومحاولة التركيز على قضايا تهم الناخبين، ويشمل ذلك مواجهة التحديات الاقتصادية والبطالة التي تواجهها السنغال، ولا سيما نقص الأغذية وارتفاع أسعارها، بالإضافة إلى إصدار بطاقات إقامة للاجئين الأجانب.

7- اندلاع أعمال عنف على هامش الحملات الانتخابية: لفت المتحدث الرئيسي إلى اندلاع بعض أعمال العنف على هامش الحملات الانتخابية، والتي أسفرت عن عدد من الإصابات في منطقة سان لويس، شمال البلاد، وكان من بين المصابين نشطاء من الحزب الحاكم "باستيف". وحذرت الجهات الأمنية في البلاد من مشاريع لتخريب أنشطة انتخابية، ومنعت حمل الأسلحة والألعاب النارية حتى منتصف ديسمبر 2024، مع إصدار أوامر مشددة لتفتيش المشتبه بهم. كما دعت الأحزاب للإبلاغ عن تحركاتهم الانتخابية مسبقاً. فيما يُتهم عمدة داكار بتأجيج العنف باعتباره من أكبر معارضي الحزب الحاكم "باستيف".

سيناريوهات متوقعة

استعرض المتحدث الرئيسي، بعض السيناريوهات الرئيسية المحتملة بشأن نتائج تلك الانتخابات، وذلك على النحو التالي:

1- تحقيق الانسجام بين السلطتين التنفيذية والتشريعية: في حال فوز حزب "باستيف" بالانتخابات البرلمانية، سيتحقق انسجام بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، مما سيخلق مناخاً سياسياً داعماً لتحقيق الأجندة الإصلاحية التي وعد بها الحزب خلال الحملة الرئاسية. حيث ينتظر السنغاليون من الرئيس "فاي" ورئيس الحكومة "سونكو" تنفيذ وعودهما بمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في المؤسسات الحكومية.

ويتوقع المتحدث الرئيسي، في هذا السيناريو، أن يشهد الاقتصاد السنغالي دفعاً نحو تحسين القطاعات الحيوية مثل الزراعة والطاقة والبنية التحتية، مما سيؤدي إلى زيادة فرص العمل وتحسين مستوى المعيشة. علاوة على ذلك، سيعزز التحالف سيادة البلاد عبر إعادة التفاوض على عقود النفط والغاز بما يخدم المصالح الوطنية، ما يفتح الباب أمام استثمارات أكثر توازناً واستدامة.

2- صدام المعارضة مع الحكومة بعد السيطرة على البرلمان: في حال سيطرة المعارضة على البرلمان، ستجد حكومة "سونكو" صعوبة في تنفيذ برامجها الإصلاحية، ما قد يؤدي إلى حالة من الجمود السياسي أو حتى أزمة سياسية تهدد استقرار البلاد. ومن المرجح، وفق ذلك السيناريو، أن يعطل الصدام بين السلطتين التنفيذية والتشريعية مشاريع أساسية، ويؤثر سلباً على ثقة المستثمرين الأجانب. بينما على الجانب الآخر، يمكن أن يتحقق نوع من التعايش البرلماني إذا ما اتفقت الأطراف على تأجيل القضايا الخلافية الكبيرة والتركيز على ما يخدم المصالح العامة.

3- قلق من اندلاع العنف نتيجة التوترات السياسية: مع استمرار الخطابات السياسية الحادة، والاضطرابات في الداخل السنغالي، هناك تحذيرات من احتمالات تصاعُد التوتر الداخلي، خاصةً إذا لم يتحقق الانسجام بين القوى السياسية، ولا سيما في ظل تزايد الدعم الشعبي لسونكو، ما يعكس حالة من التذمر تجاه الطبقة السياسية التقليدية. وإذا استمرت هذه التوترات دون حلول سياسية توافقية، فقد تجد السنغال نفسها على أعتاب أزمة أمنية تؤثر على الاستقرار الداخلي، مع تزايد معدلات العنف والاضطرابات.

انتخابات فارقة

وختاماً، تبدو المرحلة القادمة محورية في تحديد مستقبل البلاد في خضم هذا المشهد السياسي والاقتصادي والأمني المعقد. حيث تُعد هذه الانتخابات فارقة، وستكون محطة رئيسية في تحديد ملامح الديناميكيات السياسية في السنغال خلال المرحلة المقبلة، بين احتمالية استكمال حزب "باستيف" السيطرة السياسية على الحكومة والبرلمان، وتنفيذ أجندته السياسية بأريحية تامة، وبين سيطرة المعارضة على البرلمان، من جهةٍ أخرى، ورفع آمالها في العودة إلى الحكم، وبدء مرحلة جديدة من الصدامات السياسية بين الائتلافين الحاكمين السابق والحالي.