توترات دبلوماسية:

ولدت الهجمات التي قامت بها حركة حماس الفلسطينية في السابع من أكتوبر الماضي، في منطقة غلاف غزة، وما تلتها من أحداث، ردود أفعال متباينة من قبل مختلف دول العالم. اتخذت بعض بلدان أمريكا اللاتينية، خطوات غير مسبوقة، في مواجهة العنف المتصاعد ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، وهي الخطوات التي تراوحت بين قطع العلاقات الدبلوماسية واستدعاء السفراء بجانب تقديم المساعدات الإنسانية وطرح المبادرات السياسية والتواصل مع طرفي الصراع وشركائهما.


من المرجح أن يكون للحرب الدائرة بين حماس وإسرائيل، انعكاسات ملموسة، لن تنحصر في منطقة الشرق الأوسط، بل ربما تمتد إلى العديد من المناطق، ومنها منطقة أمريكا اللاتينية، في ظل قربها جغرافياً من الولايات المتحدة، وارتباط بعض حكوماتها بعلاقات وثيقة بإيران، وحضور وكيلها حزب الله في بعض دول المنطقة، جنباً إلى جنب مع الوجود الكبير لليهود والعرب هناك، علاوة على وجود مواطنين من بلدان أمريكا اللاتينية في قطاع غزة، سواء من بين الأسرى لدى حماس، أو ممن تسعى حكومات هذه البلدان إلى إخراجهم عبر معبر رفح.


إجراءات متنوعة

بعيداً عن البيانات الصادرة عن حكومات بلدان أمريكا اللاتينية، التي أدان بعضها هجمات حماس ضد إسرائيل بينما انتقد البعض الآخر رد الفعل الإسرائيلي "غير المتناسب" مع الهجمات؛ اتخذ عدد من هذه الحكومات خطوات وإجراءات ملموسة في التعاطي مع الحرب الدائرة في غزة، من أبرزها:

1- قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل واستدعاء السفراء: كانت بوليفيا أول دولة على مستوى العالم، حتى الآن، تقرر قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، مبررة موقفها بأنه جاء "رفضاً وإدانة للهجوم العسكري الإسرائيلي العدواني وغير المتناسب في قطاع غزة وتهديده للسلم والأمن الدوليين".


 أما هندوراس فهي أحدث دولة في أمريكا اللاتينية تستدعي سفيرها من تل أبيب للتشاور، وسبقتها كولومبيا وتشيلي؛ وذلك اعتراضاً على "انتهاكات إسرائيل للقانون الإنساني الدولي في قطاع غزة". الخطوات الأخيرة التي اتخذتها هذه الحكومات ليست جديدة تماماً؛ ففي عام 2009، قطعت بوليفيا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، قبل أن تستأنفها عام 2020. وفي عام 2014، استدعت الرئيسة التشيلية آنذاك ميشيل باشيليت، أيضاً مبعوث بلادها إلى إسرائيل في معارضة "عملية الجرف الصامد" الإسرائيلية في غزة.


2- طرح ودعم مبادرات وقف العنف وحماية المدنيين: انطلاقاً من عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي وتوليها الرئاسة الدورية للمجلس لشهر أكتوبر 2023، حاولت البرازيل تمرير قرار يدعو إلى "هدنة إنسانية للسماح بوصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل وسريع وآمن ودون عوائق"، لكن في 18 أكتوبر 2023، عندما تم طرح النص للتصويت، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضده.


في الوقت نفسه، أيدت 20 دولة في أمريكا اللاتينية والكاريبي (من بين 120 دولة في الأمم المتحدة)، قرار الجمعية العامة الذي دعا إلى هدنة إنسانية فورية ودائمة ومستدامة تفضي إلى وقف الأعمال العدائية في قطاع غزة، مع الرفض القاطع لأي محاولات لنقل السكان المدنيين الفلسطينيين نقلاً قسرياً. وقامت بعض بلدان المنطقة بإرسال أطنان من المساعدات الإنسانية للمدنيين في غزة، ومنها البرازيل، وكولومبيا، والأرجنتين، وفنزويلا.


3- التشاور مع طرفي الصراع والشركاء الدوليين: كثف بعض رؤساء دول أمريكا اللاتينية، اتصالاتهم مع كل من السلطة الفلسطينية وإسرائيل. على سبيل المثال، أعرب رئيس باراجواي "سانتياجو بينيا"، خلال اتصاله بنظيره الإسرائيلي، عن تضامنه مع "البلد الصديق"، وقال: "ندين ونرفض هذه الأعمال اللاإنسانية التي تؤلمنا كثيراً من خلال التأثير على أمة تربطنا بها علاقات أخوية قوية". والجدير بالذكر أن باراجواي اعترفت بحماس كـ"منظمة إرهابية دولية" منذ أغسطس 2019.


منذ 7 أكتوبر الماضي، أجرى البرازيلي "لولا دا سيلفا" محادثات عبر الهاتف مع قادة الإمارات وإسرائيل وفلسطين ومصر وفرنسا وروسيا وتركيا وإيران وقطر والمجلس الأوروبي، كما تواصل وزير الخارجية البرازيلي "ماورو فييرا" مع وزيري خارجية إسرائيل ومصر، كما شارك في قمة القاهرة للسلام.


بالمثل، اتصل الرئيس الفنزويلي "نيكولاس مادورو" بالرئيس الفلسطيني لتأكيد تضامنه هو والشعب الفنزويلي مع الشعب الفلسطيني في سعيه لاستعادة حقوقه المشروعة في الحرية والاستقلال. أما وزير خارجية نيكاراجوا " دينيس مونكادا " فقد استقبل عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية رمزي رباح، الذي زار البلاد بعد يومين من هجمات حماس.


4- تكثيف الجهود لضمان أمن المواطنين اللاتينيين في غزة: تسببت الأحداث في غزة في قتل ما لا يقل عن تسعة أرجنتينيين وثلاثة برازيليين وثلاثة بيروفيين وكولومبي واحد ومواطن واحد من كل من تشيلي وهندوراس، بالإضافة إلى نحو ثلاثين مفقوداً من أمريكا اللاتينية، منهم 21 أرجنتينياً؛ لذلك كثفت بلدان أمريكا اللاتينية تحركاتها لإطلاق سراح مواطنيها المحتجزين لدى حماس، وكذلك لإجلاء من لا يزال موجوداً في غزة حتى الآن.


طالب الرئيس البرازيلي خلال محادثته الهاتفية مع الرئيس الإسرائيلي "إسحاق هرتسوج" بإنشاء ممرات إنسانية لضمان خروج مواطني بلاده الموجودين في غزة عبر معبر رفح، وسبق أن أعلنت البرازيل نيتها التواصل مع حماس للإفراج عن مواطنيها المحتجزين لدى الحركة.


أما وزير الخارجية الأرجنتيني "سانتياجو كافيرو" فتواصل هاتفياً مع رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر "ميريانا سبولياريك" للتعبير عن اهتمام بلاده بالإفراج "الفوري وغير المشروط" عن المواطنين الأرجنتينيين المحتجزين رهائن في غزة. والتقى الرئيس الأرجنتيني "ألبرتو فرنانديز" ممثلي الجالية اليهودية في الأرجنتين لمناقشة وضع مواطني الدولة والمحتجزين رهائن من قبل حماس.


تداعيات محتملة

من المرجح أن يكون للحرب الدائرة في غزة تداعيات مهمة على منطقة أمريكا اللاتينية؛ وذلك على النحو التالي:


1- توتر العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل: تسببت الإدانات المتزايدة والمواقف الدبلوماسية التي اتخذتها عدد من الحكومات اللاتينية في توتر علاقاتها مع تل أبيب. كان هذا واضحاً بجلاء في موقف الرئيس الكولومبي "جوستافو بترو"، الذي وصف أوامر وزير الدفاع الإسرائيلي بفرض حصار شامل على غزة بأنه "خطاب كراهية"، وقارن بين الوضع في غزة بمعسكر اعتقال نازي، وهو ما دفع إسرائيل إلى إعلان وقف صادراتها الأمنية إلى كولومبيا.


وقال وزير الخارجية الإسرائيلي إن موقف الرئيس بترو لا يعبر عن الحكومة الكولومبية، ووصف مسؤولون إسرائيليون تصريحاته بـ"العدائية" و"المعادية للسامية"؛ ما دفعه إلى التهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب، مشدداً على إدانته "الإبادة الجماعية"، التي تقوم بها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. ودعت وزارة الخارجية الإسرائيلية، كولومبيا وتشيلي إلى "إدانة منظمة حماس الإرهابية صراحة"، و"عدم الانحياز إلى فنزويلا وإيران في دعم إرهاب حماس".


وكانت الأرجنتين هي الأكثر انحيازاً تقليدياً لإسرائيل، من بين دول أمريكا اللاتينية التي نددت بـ"انتهاك إسرائيل للقانون الإنساني الدولي"، في أعقاب الهجمات التي وقعت على مخيم جباليا للاجئين، وهو الأمر الذي استتبعه إدانة الجمعية الأرجنتينية الإسرائيلية (DAIA) – وهي الكيان الممثل للجالية اليهودية الأرجنتينية – هذه الانتقادات. وبينما أعرب الرئيس البرازيلي في البداية، عن تضامنه مع إسرائيل، فإنه سرعان ما طالبها بوقف "جنون" رئيس وزراء إسرائيل في رغبته في تدمير قطاع غزة، بل اتهمت رئيسة حزب العمال الحاكم مؤخراً، إسرائيل بـ"تعمد" تأخير عملية إجلاء البرازيليين من قطاع غزة. ويمكن أن يعزى ذلك إلى المواقف التي اتخذتها البرازيل في الأمم المتحدة وتعليقات الرئيس لولا.


2- تعميق الخلافات مع الولايات المتحدة: تكشف ردود أفعال بعض الحكومات اللاتينية بشأن الحرب في غزة عن تباين مواقفها عن الموقف الأمريكي، في ظل إعلان إدارة الرئيس "جو بايدن" عن دعم "غير مشروط" و"غير مسبوق" لإسرائيل. كانت الخلافات أكثر وضوحاً بالنظر إلى موقف الرئيس الكولومبي الذي قال إن "الحكومة الأمريكية تتحمل مسؤولية سياسية كبيرة" فيما يجري. لطالما كانت كولومبيا أقرب حلفاء الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، ومع ذلك أدانت الولايات المتحدة مقارنة بترو حكومة إسرائيل وسياساتها بالنازيين.


وقالت السفيرة "ديبورا ليبستادت" المبعوثة الأمريكية الخاصة لشؤون مراقبة ومكافحة معاداة السامية: "نطلب منكم إدانة حماس المنظمة المصنفة إرهابية؛ لقتلها الوحشي للرجال والنساء والأطفال الإسرائيليين". ووجه بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي من الحزب الجمهوري، مثل ماركو روبيو وماريا إلفيرا سالازار ومايكل ماكول، انتقادات لاذعة للرئيس الكولومبي، مؤكدين أن تعليقاته "تؤدي إلى تفاقم معاداة السامية وتهدد سلامة الجالية اليهودية في كولومبيا"، وأن "سلوك الرئيس بترو المستمر المناهض للديمقراطية وعداءه للحقيقة يهدد علاقتنا الثنائية التاريخية".


وعقب مباحثاته مع الرئيس الأمريكي "جو بايدن" على هامش القمة الأولى لشراكة الأمريكتين من أجل الازدهار الاقتصادي (APEP)، التي عُقدت بواشنطن في 3 و4 نوفمبر الجاري، قال بترو للصحفيين: "أخبرت بايدن أنه لا يمكن السماح باستمرار المذبحة". وبالمثل، قال "جابريل بوريك" رئيس تشيلي، التي تستضيف أكبر جالية فلسطينية في المنطقة، في مؤتمر صحفي عقب مباحثاته مع بايدن: "لا نقبل أن نختار بين جانب أو آخر. نحن نختار الإنسانية. والهجوم من قبل حماس ليس له مبرر ويستحق إدانة عالمية، وما تفعله حكومة بنيامين نتنياهو اليوم يستحق أيضاً إدانتنا الواضحة"، مضيفاً: "حق الدولة في الدفاع عن نفسها له حدود. وهذه القيود تحترم أرواح المدنيين الأبرياء، وخاصة الأطفال، والقانون الإنساني الدولي".


3- تفاقم الاستقطاب السياسي بين الحكومات اللاتينية: أظهرت المواقف من الحرب في غزة، مدى عمق الانقسامات السياسية والأيديولوجية بين بلدان أمريكا اللاتينية بشأن قضايا السياسة الخارجية، وصعوبة تبنيها موقفاً متماسكاً تجاه الأزمات الدولية المتلاحقة. وكانت الحكومات اليسارية، خاصة فنزويلا، وكوبا، وكولومبيا، وتشيلي، وبوليفيا، أكثر حدةً في انتقاداتها للممارسات التي تقوم بها إسرائيل بحق المواطنين الفلسطينيين. ومؤخراً، رددت الحكومة اليسارية في المكسيك، التي تبنت موقفاً محايداً في بداية الصراع، الانتقادات التي شوهدت في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، قائلة إن هجمات إسرائيل "قد ترقى إلى جرائم الحرب".


على الجانب الآخر، تبنت الحكومات اليمينية مواقف داعمة لإسرائيل؛ حيث صدر عن حكومات أوروجواي وباراجواي وبنما وكوستاريكا والسلفادور وجواتيمالا والدومينيكان، تصريحات تتراوح بين إدانة "الهجمات الإرهابية الشنيعة والمؤسفة التي شنتها حماس على إسرائيل"، كما هو الحال في كوستاريكا، والإعلان عن "التضامن مع إسرائيل وحكومتها في هذه الأوقات الصعبة"، كما صدر عن وزارة الخارجية في جواتيمالا.

4- تصاعد الانقسامات الداخلية: هناك انقسامات بين القوى السياسية اللاتينية بشأن الموقف من طرفي الصراع في الشرق الأوسط؛ فبينما أعلنت حكومة "نيكولاس مادورو" في فنزويلا و"دانيال أورتيجا" في نيكاراجوا، تضامنهما مع القضية الفلسطينية، وإدانتهما العنف ضد المدنيين في غزة، أعرب قادة المعارضة في البلدين عن تضامنهم مع إسرائيل وأدانوا "الهجمات الإرهابية".


لا يقتصر التباين في وجهات النظر على الحكومات والمعارضة، بل طالت هذه التباينات أيضاً القادة اليساريين أنفسهم، كما هو الحال في بوليفيا، برغم انتقاد الرئيس الحالي " لويس آرسي" العنف ودعوته إلى السلام، غير أن الرئيس السابق "إيفو موراليس"، تبنى موقفاً أكثر حدة، وطالب بتصنيف إسرائيل "دولة إرهابية"؛ وذلك في إطار التنافس السياسي المحتدم بين الرجلين. وكانت الانقسامات في المواقف من الصراع بين حماس وإسرائيل حاضرة أيضاً خلال الحملة الانتخابية للرئاسة الأرجنتينية؛ حيث أعرب جميع المرشحين عن تضامنهم مع تل أبيب، في حين رفضت مرشحة الجبهة اليسارية للرئاسة "ميريام بريجمان" إدانة هجمات حماس. وترجمت هذه الانقسامات بشكل أكثر وضوحاً في ظل ما تشهده بلدان أمريكا اللاتينية من تظاهرات مؤيدة لإسرائيل وأخرى داعمة لفلسطين.


5- زيادة التهديدات الأمنية: يمكن أن تتسبب الحرب في غزة في تهديد أمن واستقرار بعض دول أمريكا اللاتينية، خاصة تلك التي يقطنها عدد كبير من اليهود. على سبيل المثال، أعلنت السلطات في الأرجنتين – وهي الدولة الوحيدة في أمريكا اللاتينية التي تعرضت لهجمات استهدفت مؤسسات يهودية، في عامي 1992 و1994 – عن تعزيز الإجراءات الأمنية حول المواطنين والكيانات اليهودية، كما تلقت السفارة الإسرائيلية والأمريكية في العاصمة بوينس أيرس تهديدات بوجود قنبلة.


تزداد هذه المخاوف مع رصد زيادة ملحوظة في عدد حالات "معاداة السامية" في البرازيل والأرجنتين على وجه التحديد، مع ارتفاع حالات استهداف اليهود ومؤسساتهم الدينية بقدر كبير في الأرجنتين؛ موطن أكبر عدد من السكان اليهود في أمريكا اللاتينية؛ حيث يتراوح عددهم بين 200 ألف و250 ألف شخص.


في المقابل، نشر المركز الإسلامي لجمهورية الأرجنتين CIRA، رسالة عامة في 27 أكتوبر الماضي، قائلاً إنه "فوجئ بأن المؤسسات الدينية تروج لكراهية الإسلام من خلال منشوراتها في وسائل الإعلام المختلفة".


من جملة ما سبق، يمكن القول إن العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وبلدان أمريكا اللاتينية سوف تشهد مزيداً من التدهور، على خلفية استمرار العدوان الإسرائيلي على المدنيين في غزة، الذي سيتبعه مزيد من الإدانات والمواقف الناقدة لتل أبيب، على نحو قد سيزيد من عزلتها الدبلوماسية في المنطقة. ومن المرتقب أن تتسبب الحرب في غزة في مزيد من الانقسامات داخل وبين بلدان أمريكا اللاتينية، وربما تؤدي إلى إثارة التوترات مع الولايات المتحدة؛ ما قد يضعف العلاقات بين الجانبين.